موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالثةُ: حُجِّيَّةُ خَبَرِ الآحادِ


أوَّلًا: حُجِّيَّةُ خَبَرِ الآحادِ
خَبَرُ الآحادِ حُجَّةٌ يَجِبُ العَمَلُ به [435] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/ 192)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/ 351-352). ويُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 369 - 400)، ((تقويم الأدلة)) لأبي زيد الدبوسي (ص:170)، ((الإحكام)) لابن حزم (1/108)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/859)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/279)، ((الإشارة)) للباجي (ص:26)، ((قواعد الأصول ومعاقد الفصول)) لعبدالمؤمن البغدادي (ص:89). .
الأدِلَّةُ:
1- مِن القُرآنِ الكَريمِ:
قَولُ اللهِ تعالى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فقد أوجَبَ تعالى على كُلِّ فِرقةٍ قَبولَ نِذارةِ مَن نَفرَ مِنها للتَّفقُّهِ في الدِّينِ، وأوجَبَ على النَّافِرِ التَّفقُّهَ والإنذارَ، وإنذارُ النَّافِرِ إخبارٌ، والنَّاذِرُ طائِفةٌ، والطَّائِفةُ تُطلقُ في اللُّغةِ على الواحِدِ فصاعِدًا؛ فدَلَّت الآيةُ على وُجوبِ قَبولِ خَبَرِ الواحِدِ [436] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/ 322)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 162)، ((تفسير القرآن)) للسمعاني (2/ 360)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/ 46)، ((الإحكام)) للآمدي (2/ 112)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/ 130). .
2- مِن السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:
- حَديثُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((بينا النَّاسُ بقُباءٍ في صَلاةِ الصُّبحِ إذ جاءَهم آتٍ، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُنزِل عليه اللَّيلةَ قُرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يَستَقبِلَ الكَعبةَ، فاستَقبِلوها، وكانت وُجوهُهم إلى الشَّأمِ، فاستَداروا إلى الكَعبةِ)) [437] أخرجه البخاري (403)، ومسلم (526) باختلافٍ يسيرٍ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أهلُ قُباءٍ أهلُ سابقةٍ في الإسلامِ وأهلُ فِقهٍ، ولم يَكُنْ لهم أن يَتَحَوَّلوا عن القِبلةِ التي كانوا عليها بخَبَرِ واحِدٍ إلَّا وهم على عِلمٍ بأنَّ الحُجَّةَ ثابتةٌ بخَبَرِه مَعَ كونِه مِن أهلِ الصِّدقِ، فلمَّا تَحَوَّلوا من فرضٍ إلى فَرضٍ بخَبَرِ واحِدٍ، دَلَّ على أنَّ العَمَلَ بخَبَرِه فرضٌ، وإلَّا لأنكَر عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ عِلمِه بتَحَوُّلِهم عن قِبلتِهم التي كانوا عليها [438] يُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 406 408). .
- وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ أسقي أبا طَلحةَ الأنصاريَّ وأبا عُبَيدةَ بنَ الجَرَّاحِ وأُبَيَّ بنَ كَعبٍ شَرابًا مِن فَضيخِ زَهْوٍ [439] الفَضيخُ: هو النَّبيذُ الذي يُصنَعُ مِن الزَّهوِ، وهو التَّمرُ الأحمَرُ أو الأصفَرُ الذي لم يُصبِحْ رُطَبًا بَعدُ، وهو المُسَمَّى بالبُسرِ أيضًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 38). وتَمرٍ، فجاءَهم آتٍ، فقال: إنَّ الخَمرَ قد حُرِّمَت، فقال أبو طَلحةَ: قُمْ إلى هذه الجِرارِ [440] أي: التي فيها شَرابُ الفَضيخِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (10/ 290). فاكسِرْها، قال أنَسٌ: فقُمتُ إلى مِهراسٍ [441] هو إناءٌ يُتَّخَذُ مِن صَخرٍ ويُنقَرُ، وقد يَكونُ كَبيرًا كالحَوضِ وقد يَكونُ صَغيرًا بحَيثُ يَتَأتَّى الكَسرُ به. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 38). لنا فضَرَبتُها بأسفَلِه حتَّى انكَسَرَت)) [442] أخرجه البخاري (7253) واللَّفظُ له، ومسلم (1980). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّهم اعتَمَدوا على خَبَرِ واحِدٍ في تَحريمِ ما كان حَلالًا لهم، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: نَحنُ على تَحليلِها حتَّى نَلقى رَسولَ اللهِ، مَعَ قُربِه مِنَّا، أو يَأتيَنا خَبَرُ الكافَّةِ [443] يُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 410). .
- وعن هِشامِ بنِ حُجَيرٍ، قال: كان طاوُسٌ يُصَلِّي رَكعَتَينِ بَعدَ العَصرِ، فقال له ابنُ عبَّاسٍ: «اترُكْها» فقال: إنَّما نُهِي عنهما أن تُتَّخَذَ سُلَّمًا أن يوصلَ ذلك إلى غُروبِ الشَّمسِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد نَهى عن صَلاةٍ بَعدَ العَصرِ، وما أدري أيُعَذَّبُ عليه أم يُؤجَرُ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى يَقولُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الأحزاب: 36] [444] أخرجه الدارمي (448) باختلافٍ يسيرٍ، والحاكم (373) واللفظ له، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2339)، وأخرجه النسائي (569) مختصَرًا بلفظ: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن الصَّلاةِ بعدَ العَصرِ). صحَّحه الحاكمُ على شرط الشيخين، وصَحَّح إسنادَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (1/457)، وابن حجر في ((المطالب العالية))  (154/1). .
قال الشَّافِعيُّ: (رَأى ابنُ عبَّاسٍ الحُجَّةَ قائِمةً على طاووسٍ بخَبَرِه عن النَّبيِّ، ودَلَّه بتِلاوةِ كِتابِ اللهِ على أنَّ فرضًا عليه ألَّا تَكونَ له الخِيَرةُ إذا قَضى اللهُ ورَسولُه أمرًا، وطاووسٌ حينَئِذٍ إنَّما يَعلمُ قَضاءَ رَسولِ اللهِ بخَبَرِ ابنِ عبَّاسٍ وَحدَه، ولم يَدفَعْه طاووسٌ بأن يَقولَ: هذا خَبَرُك وَحدَك فلا أُثبتُه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه يُمكِنُ أن تَنسى) [445] ((الرسالة)) (ص: 443). .
- وثَمَّةَ جُملةٌ مِن الأحاديثِ التي فيها بَعثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آحادًا مِن الصَّحابةِ دُعاةً ووُلاةً وقُضاةً وأُمَراءَ ورُسُلًا؛ فبَعَثَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ إلى اليَمَنِ [446] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَثَ مُعاذًا رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَمَنِ، فقال: ادعُهم إلى شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسولُ اللهِ، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلِمْهم أنَّ اللَّهَ قدِ افتَرَضَ عليهم خَمسَ صَلواتٍ في كُلِّ يَومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمْهم أنَّ اللَّهَ افتَرَضَ عليهم صَدَقةً في أموالهم تُؤخَذُ مِن أغنيائِهم وتُرَدُّ على فُقَرائِهم)) أخرجه البخاري (1395) واللَّفظُ له، ومسلم (19). ، وبَعَثَ اثنَي عَشَرَ رَسولًا إلى اثنَي عَشَرَ مَلِكًا يَدعو كُلَّ واحِدٍ مِنهم مَن بُعِثَ إليه إلى الإسلامِ [447] يُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 418:414)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 162)، ((حجية خبر الآحاد)) لمحمد مبارك (ص: 20). .
3- الإجماعُ:
فقد انعَقدَ على حُجِّيَّةِ العَمَلِ بخَبَرِ الواحِدِ إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ونُقِل عنهم مِن الوقائِعِ المُختَلِفةِ المُتَّفِقةِ على وُجوبِ العَمَلِ بخَبَرِ الواحِدِ ما هو خارِجٌ عن العَدِّ والحَصرِ [448] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/ 64). ، ومِمَّن نَقَل إجماعَهم: الباقِلَّانيُّ [449] قال عن خَبَرِ الواحِدِ: (ثابتٌ بإجماعِ الصَّحابةِ). ((التقريب والإرشاد)) (3/ 187). ، وأبو الحُسَينِ البَصريُّ [450] قال: (إجماعُ الصَّحابةِ على وُجوبِ العَمَلِ بخَبَرِ الواحِدِ). ((المعتمد)) (2/ 158). ، وابنُ عبدِ البَرِّ [451] قال: (أجمَعَ أهلُ العِلمِ مِن أهلِ الفِقهِ والأثَرِ في جَميعِ الأمصارِ -فيما عَلمتُ- على قَبولِ خَبَرِ الواحِد العَدلِ، وإيجابِ العَمَلِ به، إذا ثَبَتَ ولم يَنسَخْه غَيرُه مِن أثَرٍ أو إجماعٍ، على هذا جَميعُ الفُقَهاءِ في كُلِّ عَصرٍ مِن لدُنِ الصَّحابةِ إلى يَومِنا هذا، إلَّا الخَوارِجَ وطَوائِفَ مِن أهلِ البدَعِ، شِرذِمةٌ لا تُعَدُّ خِلافًا). ((التمهيد)) (1/ 192). ، والباجيُّ [452] قال: (إجماعُ الصَّحابةِ على وُجوبِ العَمَلِ بخَبَرِ الآحادِ). ((الإشارة)) (ص: 236). ، والشِّيرازيُّ [453] قال: (وُجوبُ العَمَلِ بخَبَرِ الواحِدِ ثَبت بدَليلٍ قاطِعٍ، وهو إجماعُ الصَّحابةِ، فصارَ كالقُرآنِ المَقطوعِ بصِحَّتِه). ((التبصرة)) (ص: 315). .
ثانيًا: شُروطُ العَمَلِ بخَبَرِ الآحادِ
العَمَلُ بخَبَرِ الواحِدِ له شُروطٌ، مِنها ما هو في المُخبِرِ -وهو الرَّاوي- ومِنها ما هو في المُخبَرِ عنه -وهو مَدلولُ الخَبَرِ- ومِنها ما يَتَعَلَّقُ بلفظِ الخَبَرِ.
الشُّروطُ التي تَرجِعُ إلى الرَّاوي:
الشُّروطُ التي تَرجِعُ إلى الرَّاوي خَمسةٌ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: التَّكليفُ
وذلك بأن يَكونَ الرَّاوي عاقِلًا بالغًا، فلا يُقبَلُ خَبَرُ الصَّبيِّ والمَجنونِ؛ لأنَّه لا مانِعَ للصَّبيِّ والمَجنونِ عن الكَذِبِ لعَدَمِ تَعَقُّلِهما الثَّوابَ والعِقابَ، فلا تَحصُلُ الثِّقةُ بقَولِهما، ولأنَّ الفاسِقَ إذا لم تُقبَلْ رِوايَتُه مَعَ كونِه يَخافُ اللَّهَ ويَخشى عِقابَه، فالصَّبيُّ الذي لا تَمنَعُه خَشيةُ اللهِ ولا يَردَعُه رادِعٌ دينيٌّ لعَدَمِ تَعَلُّقِ التَّكليفِ به أَولى بألَّا تُقبَلَ [454] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 124)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/ 143)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/ 311). . وقد حَكى ابنُ التِّلِمسانيِّ الإجماعَ على عَدَمِ قَبولِ رِوايةِ المَجنونِ والصَّبيِّ غَيرِ المُمَيِّزِ [455] قال: (فلا تُقبَلُ روايةُ المجنونِ وغيرِ الممَيِّزِ بالإجماعِ؛ لعَدَمِ الفَهمِ والضَّبطِ). ((شرح المعالم)) (2/ 211). .
وحَكى القاضي الباقِلَّانيُّ [456] قال ابنُ السُّبكيِّ: (قد اعتَمَدَ القاضي في رَدِّ رِوايةِ الصَّبيِّ على الإجماعِ). ((الإبهاج)) (5/ 1892). وقال الزَّركَشيُّ: (اعتَمَدَ القاضي في رَدِّ رِوايةِ الصَّبيِّ الإجماعَ). ((البحر المحيط)) (6/ 140). ويُنظر: ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 139). ، والسَّمعانيُّ [457] قال: (المُعتَمَدُ لنا إجماعُ الصَّحابةِ، ولم يُروَ أنَّ أحَدًا مِن الصَّحابةِ رَجَعَ إلى رِوايةِ صَبيٍّ وحدَه، ولأنَّه إذا عَرَف أنَّه غَيرُ مُؤاخَذٍ بالكَذِب لا يَزَعُه عن ارتِكابه وازِعٌ). ((قَواطِع الأدِلَّة)) (1/ 345). الإجماعَ على رَدِّ رِوايةِ الصَّبيِّ مُطلقًا، سَواءٌ كان مُمَيِّزًا أم غَيرَ مُمَيِّزٍ، لكِنَّ حِكايةَ الإجماعِ في رَدِّ رِوايةِ الصَّبيِّ مُطلقًا غَيرُ صحيحةٍ؛ فالخِلافُ فيها واقِعٌ [458] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 141)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 139- 140). .
والمُختارُ: أنَّ خَبَرَ الصَّبيِّ المُمَيِّزِ يُرَدُّ مُطلقًا. وهو مَذهَبُ الجُمهورِ [459] جاءَ في المُسَوَّدةِ: (فأمَّا خَبَرُ الصَّبيِّ المُمَيِّزِ فقد اختَلف فيه الأُصوليُّونَ، وتَرَدَّدَ فيه الفُقَهاءُ، والجُمهورُ على أنَّه مَردودٌ). ((المسودة)) (ص: 258). وقال البِرْماويُّ: (الجُمهورُ على عَدَمِ قَبولِ المُمَيِّزِ في الرِّوايةِ والشَّهادةِ). ((الفوائد السنية)) (2/ 544). ، واختارَه السَّرَخسيُّ [460] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/ 372). ، والجُوَينيُّ [461] يُنظر: ((البرهان)) (1/ 234). ، والسَّمعانيُّ [462] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/ 345). ، والرَّازيُّ [463] يُنظر: ((المحصول)) (4/ 393). ، والآمِديُّ [464] يُنظر: ((الإحكام)) (2/ 71- 72). ، وصِفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ [465] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (7/ 2869). ، وابنُ السُّبكيِّ [466] يُنظر: ((الإبهاج)) (5/ 1891). . وذَكَر النَّوويُّ أنَّ مَذهَبَ الجُمهورِ أنَّه (يُقبَلُ خَبَرُه فيما طَريقُه المُشاهَدةُ، كما لو دَلَّ أعمى على مِحرابٍ يَجوزُ أن يُصَلِّيَ) [467] ((المجموع)) (3/ 100). ، بخِلافِ ما طَريقُه النَّقلُ، كالإفتاءِ ورِوايةِ الأخبارِ [468] يُنظر: ((شرح التبصرة)) للعراقي (1/ 328)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/ 40). .
الأدِلَّةُ [469] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 234)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 345)، ((الإحكام)) للآمدي (2/ 71- 72)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/ 544). :
مِن الأدِلَّةِ على ذلك:
1- احتِمالُ كَذِبِ الصَّبيِّ غَيرِ المُمَيِّزِ كما في الفاسِقِ، بَل أَولى؛ لعِلمِه بأنَّه غَيرُ مُكَلَّفٍ، وأنَّه غَيرُ مُؤاخَذٍ بالكَذِبِ؛ لأجلِ ذلك فلا وازِعَ له عن ارتِكابِه.
2- أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم لم يَقبَلوا إلَّا بالغًا، ونَقَل أبو المُظَفَّرِ السَّمعانيُّ الإجماعَ على أنَّ الصَّحابةَ لم يَرجِعوا إلى رِوايةِ صَبيٍّ وَحدَه [470] قال: (المُعتَمَدُ لنا: إجماعُ الصَّحابةِ، ولم يُروَ أنَّ أحَدًا مِن الصَّحابةِ رَجَعَ إلى رِواية صَبيٍّ وحدَه، ولأنَّه إذا عَرَف أنَّه غَيرُ مُؤاخَذٍ بالكَذِب لا يَزَعُه عن ارتِكابه وازِعٌ). ((قواطع الأدلة)) (1/ 345). .
وقيل: رِوايةُ الصَّبيِّ مُطلَقًا مَقبولةٌ. حَكاه السَّرَخسيُّ [471] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/ 372). .
والتَّكليفُ شَرطٌ للأداءِ، فلو تَحَمَّل الصَّبيُّ وهو صَغيرٌ ثُمَّ أدَّى وهو بالغٌ، قُبِلَت رِوايَتُه [472] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 359)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/68)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/85)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجر (2/383). .
قال القَرافيُّ: (يَجوزُ تَحمُّلُ الصَّبيِّ والكافِرِ والفاسِقِ، ويُؤَدُّونَ بَعدَ زَوالِ هذه الأوصافِ؛ لأنَّ المَقصودَ هو الوُثوقُ بالشَّاهدِ عِندَ الأداءِ) [473] ((الذخيرة)) (10/153). ويُنظر أيضًا: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/85). .
الشَّرطُ الثَّاني: الإسلامُ
فلا تُقبَلُ رِوايةُ الكافِرِ بالإجماعِ، ومِمَّن حَكاه الرَّازيُّ [474] قال: (الكافِرُ الذي لا يَكونُ مِن أهلِ القِبلةِ أجمَعَت الأُمَّةُ على أنَّه لا تُقبَلُ رِوايَتُه، سَواءٌ عُلمَ مِن دينِه المُبالغةُ في الاحتِرازِ عن الكَذِبِ أو لم يُعلَمْ). ((المحصول)) (4/396). ، والإسْنَويُّ [475] قال: (فلا تُقبَلُ رِوايةُ الكافِرِ المُخالِفِ عن القِبلةِ، وهو المُخالِفُ في المِلَّةِ الإسلاميَّةِ، كاليَهوديِّ والنَّصرانيِّ إجماعًا). ((نهاية السول)) (ص: 268). .
وذلك لأنَّ الكافِرَ مُتَّهَمٌ في الدِّينِ؛ فلا يُؤتَمَنُ عليه في خَبَرٍ دينيٍّ [476] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 124)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/ 136). .
قال الزَّركَشيُّ: (لا تُقبَلُ رِوايةُ الكافِرِ إذا رَوى في حالِ كُفرِه، أمَّا لو تَحمَّل وهو كافِرٌ ثُمَّ أدَّى في الإسلامِ قُبِلَت على الصَّحيحِ) [477] ((البحر المحيط)) (6/ 148). .
الشَّرطُ الثَّالثُ: العَدالةُ
العَدالةُ هيَ: (اجتِنابُ الكَبائِرِ وبَعضِ الصَّغائِرِ والإصرارِ عليها، والمُباحاتِ القادِحةِ في المُروءةِ) [478] ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 361). .
وقيل: (استِقامةُ السِّيرةِ والدِّينِ. وحاصِلُها يَرجِعُ إلى أنَّها: مَلَكةٌ في النَّفسِ تَمنَعُها عن اقتِرافِ الكَبائِرِ، واقتِرافِ الرَّذائِلِ المُباحةِ) [479] ((الإبهاج)) لابن السبكي (5/ 1902). وقال الغَزاليُّ: (العَدالةُ عِبارةٌ عن استِقامةِ السِّيرة والدِّينِ، ويَرجِعُ حاصِلُها إلى هَيئةٍ راسِخةٍ في النَّفسِ تَحمِلُ على مُلازَمةِ التَّقوى والمُروءةِ جَميعًا حتَّى تَحصُلَ ثِقةُ النُّفوسِ بصِدقِه). ((المستصفى)) (ص: 125). وقال الطُّوفيُّ: (قد ذَكَرَ الفُقَهاءُ أنَّها الصَّلاحُ في الدِّينِ، والمُروءةُ، وفَصَّلوا ذلك... وقال بَعضُهم: العَدلُ مَن لم تَظهَرْ مِنه ريبةٌ... والقَولُ الوجيزُ الجامِعُ في العَدالةِ: أنَّها اعتِدالُ المُكَلَّفِ في سيرَتِه شَرعًا، بحَيثُ لا يَظهَرُ مِنه ما يُشعِرُ بالجَراءةِ على الكَذِبِ، ويَحصُلُ ذلك بأداءِ الواجِباتِ واجتِنابِ المَحظوراتِ ولواحِقِها. وتُعرَفُ عَدالةُ الشَّخصِ بأُمورٍ: أحَدُها: المُعامَلةُ والمُخالَطةُ المُطلِعةُ في العادةِ على خَبايا النُّفوسِ ودَسائِسِها. الثَّاني: التَّزكيةُ، وهو ثَناءُ مَن ثَبَتَت عَدالتُه عليه، وشَهادَتُه له بالعَدالةِ. الثَّالثُ: السُّمعةُ الجَميلةُ المُتَواتِرةُ أو المُستَفيضةُ، وبمِثلِها عُرِفَت عَدالةُ كَثيرٍ مِن أئِمَّةِ السَّلفِ). ((شرح مختصر الروضة)) (2/ 142). .
وقد وقَعَ الإجماعُ على اشتِراطِها، ومِمَّن حَكاه الجُوَينيُّ [480] قال: (العَقلُ والإسلامُ والعَدالةُ مُعتَبَرةٌ، وأصحابُ أبي حَنيفةَ وإن قَبِلوا شَهادةَ الفاسِقِ لم يجسُروا أن يَبوحوا بقَبولِ رِوايةِ الفاسِقِ، فإن قال به قائِلٌ فقَولُه مَسبوقٌ بإجماعِ مَن مَضى على مُخالَفتِه). ((البرهان)) (1/ 233). ، وصَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ [481] قال: (العَدالةُ شَرطٌ فيه وِفاقًا). ((الفائق)) (2/ 181). ، والزَّركَشيُّ [482] قال: (اعلَمْ أنَّ العَدالةَ شَرطٌ بالاتِّفاقِ). ((البحر المحيط)) (6/ 149). .
فالفاسِقُ لا يوثَقُ بخَبَرِه، كما لا يوثَقُ بشَهادَتِه.
ولا بُدَّ لتَحَقُّقِ العَدالةِ مِن شُروطٍ، وشُروطُ العَدالةِ على وَجهِ الإجمالِ هيَ [483] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 345). ويُنظر أيضًا: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 150- 151)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 144). :
1- المُحافَظةُ على فِعلِ الطَّاعاتِ واجتِنابِ المَعاصي.
2- ألَّا يَرتَكِبَ الصَّغائِرَ وما يَقدَحُ في دينٍ أو عِرضٍ.
3- ألَّا يَفعَلَ مِن المُباحاتِ ما يَسقِطُ القَدرَ ويَكسِبُ الذَّمَّ.
4- ألَّا يَعتَقِدَ مِن المَذهَبِ ما تَرُدُّه أُصولُ الشَّرعِ.
حُكمُ تعديلِ المُبهَمِ، كقَولِ الرَّاوي: حَدَّثَني الثِّقةُ:
لا يُكتَفى بذلك في التَّعديلِ حتَّى يُسَمِّيَه؛ لأنَّه وإن كان ثِقةً عِندَه، فلعَلَّه مِمَّن جُرِحَ بجَرحٍ قادِحٍ عِندَ غَيرِه، بَل إضرابُه عن تَسميَتِه ريبةٌ توقِعُ تَرَدُّدًا في القَلبِ [484] يُنظر: ((قواعد التحديث)) للقاسمي (ص: 196)، ((تحرير علوم الحديث)) للجديع (1/ 494). . وهو مَذهَبُ الأكثَرينَ والمُحَقِّقينَ [485] قال العَلائيُّ: (الذي عليه أكثَرُ المُحَقِّقينَ أنَّه لا يُكتَفى بقَولِ الرَّاوي: حَدَّثَني الثِّقةُ، مِن غَيرِ ذِكرِ اسمِه؛ فإنَّه إذا صرَّح باسمِه وعَرَفناه زال ذلك الاحتِمالُ، إذا لم يَظهَرْ فيه جَرحٌ بَعدَ البَحثِ). ((جامع التحصيل)) (ص: 93). ويُنظر: ((قواعد التحديث)) للقاسمي (ص: 196). وقال القاضي عِياضٌ: (إذا قال الرَّاوي: حَدَّثَني غَيرُ واحِدٍ أو حَدَّثَني الثِّقةُ، أو حَدَّثَني بَعضُ أصحابِنا، ليسَ هو مِن المَقطوعِ ولا مِن المُرسَلِ ولا مِن المُعضِلِ عِندَ أهلِ هذا الفَنِّ، بَل هو من بابِ الرِّوايةِ عن المَجهولِ). نَقلَه النَّوويُّ وقال: (وهذا الذي قاله القاضي هو الصَّوابُ). ((شرح مسلم)) (10/ 220). .
وقيل: إنَّ قائِلَ ذلك مَتى كان ثِقةً مَأمونًا فإنَّه يُكتَفى به كما لو عَيَّنَه؛ إذ لو عَلمَ فيه جَرحًا لذَكَره، ولو لم يَذكُرْه لكان غاشًّا في الدِّينِ، ولا يَلزَمُ مِن إبهامِه له تَضعيفُه عِندَه؛ لأنَّه قد يُبهِمُ لصِغَرِ سِنِّه، أو لطَبيعةِ المُعاصَرةِ أو المُجاوَرةِ مِمَّا تَقتَضيه ظُروفُ الزَّمانِ [486] يُنظر: ((قواعد التحديث)) للقاسمي (ص: 196). .
حُكمُ رِوايةِ أهلِ البدَعِ:
رِوايةُ المُبتَدِعِ -بدعةً غَيرَ مُكَفِّرةٍ- الدَّاعي إلى بدعَتِه: لا تُقبَلُ [487] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 121)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 264). ، وهو مَذهَبُ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ [488] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 121)، ((التحبير)) المرداوي (4/ 1883). ، والشَّافِعيَّةِ [489] ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 115- 116). ، وحَكاه ابنُ الصَّلاحِ عن الأكثَرِ، وذَكَر أنَّه أعدَلُ المَذاهِبِ وأَولاها [490] يُنظر: ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 115- 116). ، واختارَه النَّوَويُّ [491] يُنظر: ((تدريب الراوي)) للسيوطي (1/ 383). . ونَقَل ابنُ حِبَّانَ عَدَمَ الخِلافِ في ذلك [492] قال ابنُ حِبَّانَ: (وليسَ بَينَ أهلِ الحَديثِ مِن أئِمَّتِنا خِلافٌ أنَّ الصَّدوقَ المُتقِنَ إذا كان فيه بِدعةٌ ولمَ يَكُن يَدعو إليها أنَّ الاحتِجاجَ بأخبارِه جائِزٌ، فإذا دَعا إلى بدعَتِه سَقَطَ الاحتِجاجُ بأخبارِه). ((الثقات)) (6/ 141). ونَقَل ابنُ الصَّلاحِ عنه: (وقال أبو حاتِمِ بنُ حِبَّانَ البستيُّ أحَدُ المُصَنِّفينِ مِن أئِمَّةِ الحَديثِ: "الدَّاعيةُ إلى البِدَعِ لا يَجوزُ الاحتِجاجُ به عِندَ أئِمَّتِنا قاطِبةً، لا أعلَمُ بَينَهم فيه خِلافًا"). ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 115). .
وذلك لأنَّه إذا دَعا لا يُؤمَنُ أن يَضَعَ لِما يَدعو إليه حَديثًا يوافِقُه [493] ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 264). .
الشَّرطُ الرَّابعُ: الضَّبطُ
فلا بُدَّ أن يَكونَ الرَّاوي ضابطًا لِما يَرويه؛ ليَكونَ المَرويُّ له على ثِقةٍ مِنه في حِفظِه وقِلَّةِ غَلَطِه وسَهوِه، فإن كان كثيرَ الغَلَطِ والسَّهوِ رُدَّت رِوايَتُه إلَّا فيما عُلمَ أنَّه لم يَغلَطْ فيه ولا سَها عنه بخُصوصِه، وإن كان قَليلَ الغَلَطِ قُبِلَ خَبَرُه إلَّا فيما يُعلَمُ أنَّه غَلِطَ فيه [494] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/ 2885)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 201)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 149). . نَصَّ عليه صَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ [495] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (7/ 2885). ، والزَّركَشيُّ [496] يُنظر: ((النكت على مقدمة ابن الصلاح)) (1/ 98- 100)، ((البحر المحيط)) (6/ 201). وغَيرُهما. وعليه جَماهيرُ العُلَماءِ [497] قال التِّبريزيُّ: (اتَّفقَ جُمهورُ أهلِ الحَديثِ والفِقهِ على اشتِراطِ -فيمَن يُحتَجُّ برِوايَتِه- أن يَكونَ عَدلًا، وذلك بأن يَكونَ مُسلِمًا بالغًا عاقِلًا، سالِمًا مِن أسبابِ الفِسقِ وخَوارِمِ المُروءةِ، ضابِطًا، بأن يَكونَ مُتَيَقِّظًا غَيرَ مُغَفَّلٍ، حافِظًا إن حَدَّث مِن حِفظِه، ضابطًا للألفاظِ والحُروفِ إن حَدَّث مِن كِتابِه، وإن كان يَروي بالمَعنى اشتُرِطَ مَعَ ذلك عِلمُه بالعَرَبيَّةِ والفِقهِ، وبما يَختَلُّ به المعنى). ((الكافي)) (ص: 317). .
الشَّرطُ الخامِسُ: ألَّا يَكونَ الرَّاوي مُدَلِّسًا
أوَّلًا: تَعريفُ التَّدليسِ لُغةً واصطِلاحًا
1- تَعريفُ التَّدليسِ لُغةً:
التَّدليسُ: مَصدَرُ دَلَّسَ، وأصلُ الدَّلسِ: السَّترُ والتَّغطيةُ واختِلاطُ الظَّلامِ [498] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 296). . ومِنه المُدالَسةُ: وهيَ المُخادَعةُ. والتَّدليسُ في البَيعِ وغَيرِه، إذا لم يُبَيِّنْ عَيبَه. قال الأزهَريُّ: (ومِن هذا أُخِذَ التَّدليسُ في الإسنادِ) [499] ((تهذيب اللغة)) (12/ 253). ؛ لاشتِراكِهما في الخَفاءِ، فكأنَّه لتَغطيَتِه على الواقِفِ عليه أظلمَ أمرَه [500] يُنظر: ((النكت الوفية)) للبقاعي (1/ 432). ويُنظر أيضًا: ((نزهة النظر)) لابن حجر (ص: 85). .
2- تَعريفُ التَّدليسِ اصطِلاحًا:
التَّدليسُ اصطِلاحًا راجِعٌ إلى مَعنى التَّغطيةِ والخَفاءِ، فمَن أسقَطَ مِن الإسنادِ شَيئًا فقد غَطَّى الذي أسقَطَه، وزادَ في التَّغطيةِ بإتيانِه بعِبارةٍ مُوهِمةٍ [501] يُنظر: ((النكت الوفية)) للبقاعي (1/ 433). .
وفي بَيانِ مَعناه الاصطِلاحيِّ قال الجَصَّاصُ: (التَّدليسُ: أن يَرويَ عن آخَرَ لَقِيَه، ويوهِمَ السَّامِعَ مِنه أنَّه سَماعٌ، ولا يَكونُ قد سَمِعَه مِنه، وإنَّما سَمعَه مِن غَيرِه، فيَقولُ: قال فلانٌ، وذَكَر فُلانٌ، ونَحوَ ذلك) [502] ((الفصول)) (3/ 189). .
فالرَّاوي يَروي عَمَّن لقيَه أو عاصَرَه حَديثًا لم يَسمَعْه مِنه، موهِمًا سَماعَه مِنه، قائِلًا: قال فلانٌ، أو عن فُلانٍ، ونَحوَه. ورُبَّما لم يُسقِطْ شَيخَه وأسقَطَ غَيرَه. ويُسَمَّى هذا بتَدليسِ الإسنادِ.
مِثالُه: ما في التِّرمذيِّ عن ابنِ شِهابٍ عن أبي سَلمةَ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، مَرفوعًا: ((لا نَذْرَ في مَعصيةٍ وكَفَّارَتُه كفَّارةُ يَمينٍ)) [503] أخرجه أبو داود (3290)، والترمذي (1524)، والنسائي (3835). قال الإمام أحمد كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد بن عبد الهادي (5/59): منكَرٌ، وقال البخاري كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) للمرداوي (2/376): تركوا هذا الحديثَ، وقال الترمذي، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/233): لا يصِحُّ. . ثُمَّ قال التِّرمذيُّ: هذا حَديثٌ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الزُّهريَّ لم يَسمَعْه مِن أبي سَلمةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ بَينَهما سُليمانَ بنَ أرقَمَ عن يَحيى بنِ أبي كثيرٍ، وأنَّ هذا وَجهُ الحَديثِ [504] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/ 446- 447). ويُنظر أيضًا: ((سنن الترمذي)) (3/ 185). .
وكذلك إذا سَمِعَ الخَبَرَ مِن رَجُلٍ مَعروفٍ بعَلامةٍ مَشهورةٍ، فعَدَل عنها إلى غَيرِها مِن أسمائِه، مِثلُ أن يَكونَ مَشهورًا بكُنيةٍ فيَروي عنه باسمِه، أو كان مَشهورًا باسمِه فيَروي عنه بالكُنيةِ، حتَّى لا يُعلَمَ مَن الرَّجُلُ، ويُسَمَّى هذا بتَدليسِ الشُّيوخِ [505] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/ 955). .
ومِثالُه: قَولُ أبي بَكرِ بنِ مُجاهِدٍ المُقرِئِ الإمامِ: ثَنا الإمامُ عَبدُ اللهِ بنُ أبي أوفى، يُريدُ به عَبدَ اللهِ بنَ أبي داودَ [506] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (4/ 1969). .
ثانيًا: حُكمُ التَّدليسِ وحُكمُ رِوايةِ المُدَلِّسِ
1- حُكمُ التَّدليسِ:
إذا كان التَّدليسُ عن ثِقةٍ: فقيل: يُكرَهُ التَّدليسُ، وهو اختيارُ أبي يَعلى [507] يُنظر: ((العدة)) (3/ 954). . وتَختَلفُ دَرَجةُ الكَراهةِ بحَسَبِ الغَرَضِ الحامِلِ على ذلك.
وقيل: الأشبَهُ أنَّه مُحَرَّمٌ. قال ابنُ تَيميَّةَ: (هذه الكَراهةُ تَنزيهٌ أو تَحريمٌ يُخرَّجُ على القَولينِ في مَعاريضِ مَن ليسَ بظالمٍ ولا مَظلومٍ، والأشبَهُ أنَّه مُحَرَّمٌ؛ فإنَّ تَدليسَ الرِّوايةِ والحَديثِ أعظَمُ مِن تَدليسِ المَبيعِ، لكِن مَن فَعَله مُتَأوِّلًا فيه فلم يُفَسَّقْ) [508] ((المسودة)) (ص: 277). .
قال أبو الحَسَنِ التَّبريزيُّ: (وأمَّا القِسمُ الأوَّلُ -أي تَدليسُ الإسنادِ- فمَكروهٌ جِدًّا، وكان شُعبةُ مِن أشَدِّهم ذَمًّا له، وقال الشَّافِعيُّ الإمامُ: "التَّدليسُ أخو الكَذِبِ... وتَختَلفُ كراهيةُ ذلك بحَسَبِ الغَرَضِ الحامِلِ عليه؛ فقد يَكونُ لأجلِ أنَّ شَيخَه غَيرُ ثِقةٍ، أو أصغَرُ مِن الرَّاوي عنه، أو مُتَأخِّرُ الوفاةِ قد شارَكَه في السَّماعِ مِنه جَماعةٌ دونَه، أو كونِه كثيرَ الرِّوايةِ عنه، أو رَواه عنه ولا يُحِبُّ تَكرارَ شَخصٍ على صورةٍ واحِدةٍ، وقد تَسمَّح بهذا القِسمِ الحافِظُ أبو بَكرٍ الخَطيبُ وغَيرُه مِن المُصَنِّفينَ. قُلتُ: وتَسامُحُهم هذا إنَّما يَجوزُ إذا لم يَكُنِ الشَّيخُ المَكنيُّ عنه هالكًا ساقِطًا) [509] ((الكافي)) (ص: 386 - 392). ويُنظر: ((تدريب الراوي)) للسيوطي (1/ 262). .
واستَدَلُّوا: بأنَّ المُدَلِّسَ داخِلٌ في عُمومِ قَولِ اللهِ تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188] ، وداخِلٌ في قَول النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا)) [510] أخرجه مسلم (101) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ لأنَّه يوهمُ السَّامِعينَ أنَّ حَديثَه مُتَّصِلٌ، وفيه انقِطاعٌ، هذا إذا دَلَّسَ عن ثِقةٍ [511] يُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (4/ 609)، ((فتح المغيث)) للسخاوي (1/ 236). .
وإمَّا إذا كان المَتروكُ في التَّدليسِ ضَعيفًا أو كذَّابًا، فحُكمُ التَّدليسِ هنا التَّحريمُ: وهو إجماعٌ، كما نَقَل ذلك بَعضُ الأئِمَّةِ [512] نَقل السَّخاويُّ مُعَقِّبًا على قَولِ الذَّهَبيِّ: أمَّا إذا دَلَّسَ خَبَرَه عن ضَعيفٍ يوهمُ أنَّه صحيحٌ، فهذا قد خانَ اللَّهَ ورَسولَه: (بَل هو -كَما قال بَعضُ الأئِمَّةِ- حَرامٌ إجماعًا). ((فتح المغيث)) (1/ 236). ويُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (4/ 609)، ((توجيه النظر)) للجزائري (2/ 567). .
ومِثالُ التَّدليسِ عن الضَّعيفِ والكَذَّابِ: مُحَمَّدُ بنُ سَعيدٍ الذي صَلبَه المَنصورُ بسَبَبِ الزَّندَقةِ. (قال عَبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ بنِ سوادةَ: "قَلَّب أهلُ الشَّامِ اسمَه على مِئةِ اسمٍ". وقال أبو الفرَجِ الحافِظُ: "والذي وصَل إلينا مِن تَدليسِهم تِسعةَ عَشَرَ وَجهًا"، والتَّدليسُ عن مِثلِ هذا بَعدَ المَعرِفةِ بحالِه لا يَجوزُ أصلًا) [513] يُنظر: ((الكافي)) لأبي الحسن التبريزي (ص: 386). ويُنظر: ((الموضوعات)) لابن الجوزي (1/ 280). .
2- حُكمُ رِوايةِ المُدَلِّسِ:
إن صَرَّح الرَّاوي المَعروفُ بالتَّدليسِ بالسَّماعِ قُبِلَت رِوايَتُه، أي: إن قال: "سَمِعتُ" أو نَحوَها، قُبِل حَديثُه، وإنْ لم يُصَرِّحْ بالسَّماعِ لم تُقبَلْ رِوايَتُه، أي: إن قال: "عن" ونَحوَها، لم يُقبَلْ حَديثُه. وهو مَذهَبُ جُمهورِ أهلِ الحَديثِ والفِقهِ والأُصولِ [514] قال العَلائيُّ: (الصَّحيحُ الذي عليه جُمهورُ أئِمَّةِ الحَديثِ والفِقهِ والأُصولِ: الاحتِجاجُ بما رَواه المُدَلِّسُ الثِّقةُ مِمَّا صَرَّحَ فيه بالسَّماعِ دونَ ما رَواه بلفظٍ مُحتَمَلٍ). ((جامع التحصيل)) (ص: 97). . وصَحَّحه الخَطيبُ البَغداديُّ [515] يُنظر: ((الكفاية)) (ص: 361). ، وابنُ الصَّلاحِ [516] يُنظر: ((معرفة علوم الحديث)) (ص: 75). ، والعَلائيُّ [517] يُنظر: ((جامع التحصيل)) (ص: 97). .
واستَدَلُّوا بأنَّ في الصَّحيحَينِ وغَيرِهما مِن الكُتُبِ المُعتَمَدةِ من حديثِ هذا الضَّربِ كثيرًا جِدًّا: كقتادةَ، والأعمَشِ، والسُّفيانَينِ، وهشامِ بنِ بَشيرٍ، وغَيرِهم، وهذا لأنَّ التَّدليسَ ليسَ كذِبًا، وإنَّما هو ضَربٌ مِن الإيهامِ بلفظٍ مُحتَمَلٍ. والحُكمُ بأنَّه لا يُقبَلُ مِن المُدَلِّسِ حتَّى يُبَيِّنَ قد أجراه الشَّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه فيمَن دَلَّسَ مَرَّةً [518] يُنظر: ((معرفة علوم الحديث)) لابن الصلاح (ص: 75). ويُنظر أيضًا: ((جامع التحصيل)) للعلائي (ص: 98). .
وقيل: تُرَدُّ رِوايةُ المُدَلِّسِ مُطلقًا وإنْ بَيَّنَ السَّماعَ؛ لأنَّ التَّدليسَ نَفسَه جَرحٌ. حَكاه ابنُ الصَّلاحِ عن فريقٍ مِن أهلِ الحَديثِ والفُقَهاءِ [519] يُنظر: ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 75)، ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 361). .
وهناكَ تَدليسٌ في المَتنِ، وهو أن يَزيدَ الرَّاوي في كلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلامَ غَيرِه، فيَظُنَّ السَّامِعُ أنَّ الجَميعَ مِن كلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [520] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 150). .
ويُسَمَّى هذا النَّوعُ بالمُدرَجِ؛ قال الزَّركَشيُّ: (وأمَّا تَدليسُ المُتونِ فهو الذي يُسَمِّيه المُحَدِّثونَ المُدرَجَ، وهو أن يُدرَجَ في كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلامُ غَيرِه، فيَظُنَّ السَّامِعُ أنَّ الجَميعَ مِن كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... ومِمَّن ذَكَرَه هنا مِن الأُصوليِّينَ الأُستاذُ أبو مَنصورٍ البَغداديُّ، وأبو المُظَفَّرِ السَّمعانيُّ، وقال: هو مَطَّرَحٌ في الحَديثِ مَجروحُ العَدالةِ، وهو مِن تَحريفِ الكَلِمِ عن مَواضِعِه، وكان مُلحَقًا بالكَذَّابينَ، ولم يُقبَلْ حَديثُه، وكذلك ذَكَرَه الماوَرديُّ والرُّويانيُّ في الحاوي والبَحرِ في كِتابِ القَضاءِ، فقَسَّما التَّدليسَ إلى ما يَقَعُ في الإسنادِ وإلى ما يَقَعُ في المَتنِ، ثُمَّ قالا؛ مَن عُرِفَ بتَدليسِ المُتون فهو مَجروحٌ مُطَّرَحٌ) [521] ((النكت على مقدمة ابن الصلاح)) (2/ 114). .
وقال المَرداويُّ عن التَّدليسِ: (هو قِسمانِ: قِسمٌ مُضِرٌّ يَمنَعُ القَبولَ، وقِسمٌ لا يَضُرُّ. فالأوَّلُ: هو الذي ذَكَرنا أوَّلًا ويُسَمَّى المُدرَجَ، سَمَّاه بذلك المُحَدِّثونَ... فالرَّاوي للحَديثِ إذا أدخَل فيه شَيئًا مِن كلامِه أوَّلًا أو آخِرًا أو وسَطًا على وجهٍ يوهمُ أنَّه مِن جُملةِ الحَديثِ الذي رَواه، فهو المُدرَجُ، ويُسَمَّى هذا تَدليسَ المُتونِ، وفاعِلُه عَمدًا مُرتَكِبٌ مُحَرَّمًا، مَجروحٌ عِندَ العُلماءِ؛ لِما فيه مِن الغِشِّ. أمَّا لو اتَّفقَ ذلك مِن غَيرِ قَصدٍ مِن صَحابيٍّ أو غَيرِه فلا يَكونُ ذلك مُحَرَّمًا) [522] ((التحبير)) (4/ 1967). .
وقال السَّخاويُّ: (وأمَّا تَدليسُ المَتنِ فلم يَذكُروه، وهو المُدرَجُ، وتَعَمُّدُه حَرامٌ) [523] ((فتح المغيث)) (1/ 243). .
فالرَّاوي للحَديثِ إذا أدخَل فيه شَيئًا مِن كلامِه أوَّلًا أو آخِرًا أو وسَطًا على وجهٍ يوهمُ أنَّه مِن جُملةِ الحَديثِ الذي رَواه، ففاعِلُه عَمدًا مُرتَكِبٌ مُحَرَّمًا، مَجروحٌ عِندَ العُلماءِ؛ لِما فيه مِن الغِشِّ. أمَّا لو اتَّفقَ ذلك مِن غَيرِ قَصدٍ مِن صَحابيٍّ أو غَيرِه فلا يَكونُ ذلك مُحَرَّمًا [524] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (4/ 1967- 1969). .
الشُّروطُ التي تَرجِعُ إلى مَدلولِ الخَبَرِ [525] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 250)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 151)، ((الحديث في علوم القرآن والحديث)) لأيوب (ص: 189). :
الشَّرطُ الأوَّلُ: ألَّا يَكونَ مُخالفًا لنَصٍّ مَقطوعٍ به، بحَيثُ لا يُمكِنُ الجَمعُ بَينَهما مُطلقًا.
الشَّرطُ الثَّاني: ألَّا يَكونَ مُخالِفًا لإجماعِ الأُمَّةِ.

انظر أيضا: