موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ السَّادِسةُ: حُكمُ العَمَلِ بخَبَرِ الآحادِ في مَسألةٍ تَعُمُّ بها البَلوى


يُعمَلُ بخَبَرِ الآحادِ فيما تَعُمُّ به البَلوى [548] والمُرادُ بما تَعُمُّ به البَلوى أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَحتاجُ إلى مَعرِفتِه، أو: ما يَكونُ مُشتَرِكًا غَيرَ خاصٍّ. يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 258). فمَعنى ما تَعُمُّ به البَلوى هو ما يَحتاجُ إليه أكثَرُ النَّاسِ حاجةً مُتَأكِّدةً مُتَكَرِّرةً. يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 116). خلافًا لمَنْ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ خَبرِ الواحِدِ فيمَا تَعُمُّ بهِ البَلْوَى كَمَا سَيَأتِي، فإذا ورَدَ الخبرُ في عَمَلٍ تَمَسُّ إليه الحاجةُ في عُمومِ الأحوالِ فإنَّه مَقبولٌ [549] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/ 174). ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ [550] قال ابنُ قُدامةَ: (يُقبَلُ خَبَرُ الواحِدِ فيما تَعُمُّ به البَلوى: كرَفعِ اليَدَينِ في الصَّلاةِ، ومَسِّ الذَّكَرِ، ونَحوِه، في قَولِ الجُمهورِ). ((روضة الناظر)) (1/ 368). وقال الشوشاويُّ: (مَذهَبُ الجُمهورِ أنَّه مَقبولٌ، ومَذهَبُ الحَنَفيَّةِ وجَماعةٍ قَليلةٍ أنَّه غَيرُ مَقبولٍ). ((رفع النقاب)) (5/ 176). : المالكيَّةِ [551] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 524)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 372). ، والشَّافِعيَّةِ [552] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 135)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/606)، ((المحصول)) للرازي (4/ 441)، ((الإحكام)) الآمدي (2/ 112). ، والحَنابلةِ [553] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 368)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 238)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/233). ، واختارَه ابنُ حَزمٍ [554] يُنظر: ((الإحكام)) (1/ 115). ، والسَّمعانيُّ [555] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/ 355). ، والقاضي عَبدُ الوهَّابِ [556] نَسَبَه إليه المازَريُّ وإلى جَماعةٍ مِن الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ. يُنظر: ((إيضاح المحصول)) (ص: 524). .
مِثالُه [557] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 372)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/ 174، 178). : قَولُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((إذا التَقى الختانانِ فقد وجَبَ الغُسلُ)) [558] أخرجه الترمذي (108)، وابن ماجه (608) واللفظ له، وأحمد (25281). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (1176)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (2/517)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/98)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (608)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (25281). . وخَبرُ أبي موسى الأشعَريِّ في الاستِئذانِ: ((الاستِئذانُ ثَلاثٌ؛ فإن أُذِنَ لك فادخُلْ، وإلَّا فارجِعْ)) [559] أخرجه البخاري (6245)، ومسلم (2153) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ وأبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ مُسلمٍ: ((الاستِئذانُ ثَلاثٌ، فإن أُذِنَ لكَ، وإلَّا فارجِعْ)). .
ومِثلُ [560] يُنظر: ((الواضح في أصول الفقه)) لابن عقيل (4/ 389). خَبَرِ أبي هرَيرةَ في غَسلِ اليَدَينِ عِندَ القيامِ مِن نَومِ اللَّيلِ [561] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا استَيقَظَ أحَدُكُم مِن نَومِه فلا يَغمِسْ يَدَه في الإناءِ حتَّى يَغسِلَها ثَلاثًا؛ فإنَّه لا يَدري أينَ باتَت يَدُه)) أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278) واللفظ له.
فكُلُّها أخبارُ آحادٍ تَعُمُّ بها البَلوى.
الأدِلَّةُ:
1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
مَفهومُ هذا النَّصِّ أنَّ غَيرَ الفاسِقِ خَبَرُه مَقبولٌ عُمومًا [562] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/ 178). ؛ فإنَّه قد خَصَّ التَّثَبُّتَ والتَّبَيُّنَ بالفاسِقِ، فدَلَّ على أنَّ العَدلَ لا يُتَثَبَّتُ مِن خَبَرِه، ولا يُعتَبرُ فيه ذلك [563] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (4/ 390). ، فمُقتَضاه إذًا الجَزمُ بالعَمَلِ عِندَ عَدَم المُفسِّقِ، سَواءٌ كان فيما تَعُمُّ به البَلوى أم لا [564] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 373). .
2- أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم رَجَعوا إلى حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في التِقاءِ الختانَينِ، وهو مِمَّا تَعُمُّ به البَلوى [565] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 314). .
قال السَّمعانيُّ: (الدَّليلُ المُعتَمَدُ في قَبولِ أخبارِ الآحادِ هو إجماعُ الصَّحابةِ، وقد دَلَّ هذا الدَّليلُ على قَبولِ خَبَرِ الآحادِ أجمَعَ، سَواءٌ كان فيما يَعُمُّ به البَلوى أو في غَيرِ ما يَعُمُّ به البَلوى. ببَيِّنةِ أنَّ الصَّحابةَ اختَلفوا في الأُمورِ العامَّةِ ثُمَّ صاروا فيها إلى أخبارِ الآحادِ، وهذا مِثلُ اختِلافِهم في وُجوبِ الغُسلِ بالتِقاءِ الختانَينِ، وقد صاروا في ذلك إلى خَبَرِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وقد كان قَبلَ ذلك وُجوبُ الماءِ مِن الماءِ، ثُمَّ إنَّهم اجتَمَعوا عِندَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه، فأرسَل إلى عائِشةَ رَسولًا فانصَرَف الرَّسولُ فأخبَرَهم عنها بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إذا التَقى الختانانِ فقد وجَبَ الغُسلُ) [566] ((قواطع الأدلة)) (1/ 356). .
وقيل: ما تَعُمُّ به البَلوى شَأنُه أن يَكونَ مَعلومًا عِندَ الكافَّةِ؛ لوُجودِ سَبَبِه عِندَهم، فيَحتاجُ كلٌّ مِنهم لمَعرِفةِ حُكمِه، فيَسألُ عنه ويُروى الحَديثُ فيه، فلو كان فيه حُكمٌ لعَلِمَه الكافَّةُ، فحَيثُ لم يَعلَمْه الجُمهورُ دَلَّ ذلك على بُطلانِه [567] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 372). . وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [568] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/116)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/ 295)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/ 112). ، وابنُ خُوَيزِ مَنْدادَ مِن المالكيَّةِ [569] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 524)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/ 174). ونُسِبَ إلى مالكٍ، ولا تَصِحُّ نِسبَتُه إليه. يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 524). .

انظر أيضا: