موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الأُولى: من شُروطِ المُجمِعينَ أن يَكونُوا مِن أهلِ الاجتِهادِ


وذلك يَتَحَقَّقُ بالإسلامِ والبُلوغِ والعَقلِ، ومَعرِفةِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ وآياتِ وأحاديثِ الأحكامِ، وقَواعِدِ الاستِدلالِ، ومواطِنِ الإجماع؛ وذلك لأنَّ موافقةَ أهلِ الاجتِهادِ مُعتَبَرةٌ قَطعًا في تَحَقُّقِ الإجماعِ، ومَن لم يَكُنْ مِن أهلِ الاجتِهادِ فلا تُعتَبَرُ موافقَتُه [757] قد اختَلفَت عِباراتُ العُلماءِ في التَّعبيرِ عن هؤلاء المُجتَهدينَ؛ فمِنهم مَن نَصَّ على ذلك، ومِنهم مَن ذَكَرَ أهلَ الحَلِّ والعَقدِ، ومِنهم مَن ذَكَرَ عُلماءَ العَصرِ وأرادَ الفُقَهاءَ، ومِنهم من نَصَّ على الأُمَّةِ، وهم بذلك يُريدونَ المُجتَهدينَ، كَما يُفهَمُ ذلك مِن الشُّروحِ. يُنظر: ((الإجماع)) للباحسين (ص: 85). ، وقد نَصَّ عليه عَدَدٌ مِن الأُصوليِّينَ؛ مِنهم أبو يَعلى [758] يُنظر: ((العدة)) (4/1136، 1137). ، والسَّمعانيُّ [759] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/481). ، وأبو الخَطَّابِ الكَلْوَذانيُّ [760] يُنظر: ((التمهيد)) (3/250). ، وعَلاءُ الدِّينِ السَّمَرقَنديُّ [761] يُنظر: ((ميزان الأصول)) (ص: 491). ، وابنُ رُشدٍ الحَفيدُ [762] يُنظر: ((الضروري)) (ص:91). ، وابنُ قُدامةَ [763] يُنظر: ((روضة الناظر)) (1/390). .
ويَتَفرَّعُ عن ذلك أمران:
أولا: هَل يُعتَبَرُ قَولُ عامَّةِ النَّاسِ في انعِقادِ الإجماعِ لكَونِهم مِن الأُمَّةِ، أو لا يُعتَبَرُ لكَونِهم ليسوا مِن أهلِ الاجتِهادِ؟
لا اعتِبارَ بمَن ليسَ مِن أهلِ الاجتِهادِ في تَحَقُّقِ الإجماعِ، فمِن ثَمَّ لا اعتِبارَ بمُخالفةِ العَوامِّ [764] وقد نَقَل البَعضُ الإجماعَ على ذلك، كإمامِ الحَرَمَينِ الجُوَينيّ؛ حَيثُ قال: (الأُمَّةُ أجمَعَت عُلماؤُها وعَوامُّها أنَّ خِلافَ العَوامِّ لا مُعتَبَرَ به، وقد مَرَّ على هذا الإجماعِ عَصرٌ، فثَبَتَ بما قُلناه أنْ لا مُعتَبَرَ بخِلافِ العَوامِّ). ((التلخيص)) (3/38، 39). واعتَبَرَ الغَزاليُّ أنَّ مُخالَفةَ العَوامِّ للمُجتَهدينَ في مَسائِلِ الاجتِهادِ غَيرُ مُتَصَوَّرٍ وُقوعُها، واعتَبَرَها صورةً مَفروضةً لا وُقوعَ لها؛ حَيثُ قال: (العَصرُ الأوَّلُ مِن الصَّحابةِ قد أجمَعوا على أنَّه لا عِبرةَ بالعَوامِّ في هذا البابِ -أعني: خَواصَّ الصَّحابةِ وعَوامَّهم- ولأنَّ العامِّيَّ إذا قال قَولًا عُلمَ أنَّه يَقولُه عن جَهلٍ، وأنَّه ليسَ يَدري ما يَقولُ، وأنَّه ليسَ أهلًا للوِفاقِ والخِلافِ فيه. وعن هذا لا يُتَصَوَّرُ صُدورُ هذا مِن عامِّيٍّ عاقِلٍ؛ لأنَّ العاقِلَ يُفوِّضُ ما لا يَدري إلى مَن يَدري، فهذه صورةٌ فُرِضَت ولا وُقوعَ لها أصلًا). ((المستصفى)) (ص:143). ، ولا تَأثيرَ لموافقَتِهم عِندَ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [765] قال الآمِديُّ: (ذَهَبَ الأكثَرونَ إلى أنَّه لا اعتِبارَ بموافَقةِ العامِّيِّ مِن أهلِ المِلَّةِ في انعِقادِ الإجماعِ ولا بمُخالفتِه). ((الإحكام)) (1/ 226). وفي ((المسودة في أصول الفقه)) (ص: 331): (لا يُعتَدُّ في الإجماعِ بقَولِ العامَّةِ، وبه قالت الشَّافِعيَّةُ والجُمهورُ). ويُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص:291)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2647، 2648)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/31). ، ومِمَّن اختارَه: إمامُ الحَرَمَينِ [766] ((البرهان)) (1/264). ، والغَزاليُّ [767] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:143). ، والسَّمعانيُّ [768] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/480). ، والرَّازيُّ [769] ((المحصول)) (4/196). ، وابنُ قُدامةَ [770] ((روضة الناظر)) (1/390). ، والآمِديُّ [771] ((الإحكام)) (1/226). ، والقَرافيُّ [772] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص:341). .
واستَدَلُّوا على ذلك بما يلي:
1- أنَّ العامَّةَ لا يَعرِفونَ طُرُقَ الاجتِهادِ، فهم كالصِّبيانِ في نُقصانِ آلةِ النَّظَرِ، والآياتُ الدَّالَّةُ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ وإن كانت عامَّةً تَشمَلُ جَميعَ الأُمَّةِ إلَّا أنَّها مَحمولةٌ على الفُقَهاءِ الذينَ يَعرِفونَ طُرُقَ الأحكامِ؛ لأنَّ عِصمةَ الأُمَّةِ إنَّما هيَ عِصمةٌ عن الخَطَأِ في الاستِدلالِ، والعامَّةُ ليسَت مِن أهلِ النَّظَرِ والاستِدلالِ حتَّى تُعصَمَ عن الخَطَأِ فيه؛ فلا يُفهَمُ مِن عِصمةِ الأُمَّةِ عن الخَطَأِ إلَّا عِصمةُ مَن تُتَصَوَّرُ مِنه الإصابةُ لأهليَّتِه، وحينَئِذٍ صارَ وُجودُ العامَّةِ وعَدَمُهم سَواءً [773] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/24)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/480)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:143)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/391). .
2- أنَّ العامِّيَّ إذا قال قَولًا فإنَّما يَقولُه عن جَهلٍ، وإنَّما يَلزَمُه الرُّجوعُ إلى قَولِ العُلماءِ؛ فصارَ العُلماءُ كأنَّهم المُتَصَرِّفونَ فيهم، فيَسقُطُ اعتِبارُ قَولِهم؛ إذ كيف يَبحَثُ العُلماءُ عن قَولِ العامِّيِّ في مَسألةٍ، والعامِّيُّ مَأمورٌ بالرُّجوعِ إليهم؟! كما قال اللهُ تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] [774] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/26)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/480)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:143، 144)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/391)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:341).
وقيل: يُعتَبَرُ في الإجماعِ اتِّفاقُ جَميعِ الأُمَّةِ، فيُعتَبَرُ حينَئِذٍ بقَولِ العَوامِّ في انعِقادِ الإجماعِ [775] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (2/834). ، ونَسَبه الرَّازيُّ للقاضي أبي بَكرٍ الباقِلَّانيِّ [776] يُنظر: ((المحصول)) (4/196). ، وهو اختيارُ الآمِديِّ [777] يُنظر: ((الإحكام)) (1/226). .
ثانيًا: هَل يُعتَبَرُ قَولُ الكافِرِ في تَحَقُّقِ الإجماعِ؟
لو بَلغَ الكافِرُ رُتبةَ الاجتِهادِ في الفِقهِ الإسلاميِّ فهَل يُعتَدُّ بقَولِه في الإجماعِ، بحَيثُ تُؤَثِّرُ مُخالفتُه في عَدَمِ انعِقادِ الإجماعِ؟
والجَوابُ: أنَّه لا يُعتَدُّ بقَولِ الكافِرِ الأصليِّ -بلا خِلافٍ- في انعِقادِ الإجماعِ، ومِمَّن حَكاه: الآمِديُّ [778] قال: (اتَّفقَ القائِلونَ بكَونِ الإجماعِ حُجَّةً على أنَّه لا اعتِبارَ بموافَقةِ مَن هو خارِجٌ عن المِلَّةِ، ولا بمُخالَفتِه). ((الإحكام)) (1/225). ، وابنُ النَّجَّارِ [779] قال: (لا يُعتَبَرُ أيضًا في انعِقادِ الإجماعِ وِفاقُ مُجتَهِدٍ كافِرٍ مُطلقًا، أمَّا الكافِرُ الأصليُّ والمُرتَدُّ فبلا خِلافٍ). ((شرح الكوكب المنير)) (2/227). .
وذلك للآتي:
1- الأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ أثبَتَت حُجِّيَّتَه بطَريقِ الكَرامةِ لهذه الأُمَّةِ، والكافِرُ ليسَ مِن أهلِ هذه الكَرامةِ [780] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص:491). .
2- أنَّ الأدِلَّةَ السَّمعيَّةَ الدَّالَّةَ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ تَتَناولُ المُؤمِنينَ خاصَّةً، ولا تَتَناولُ الكافِرينَ، كقَولِ اللهِ تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤمِنِينَ [النساء:115] ، وقَولِه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، وقَولِه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] فالعِصمةُ لاجتِماعِ المُؤمِنينَ خاصَّةً [781] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/24)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/480)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/42). .

انظر أيضا: