موسوعة أصول الفقه

الفَصلُ الثَّامِنُ: مَناهجُ التَّصنيفِ في أُصولِ الفِقهِ وأبرَزُ المُصَنَّفاتِ في كُلِّ مَنهَجٍ


تَتابعَ التَّأليفُ في أُصولِ الفِقهِ بَعدَ الشَّافِعيِّ، وتَعَدَّدَتِ المَناهجُ في التَّأليفِ، وفيما يَلي ذِكرُ أهَمِّ هذه المَناهِجِ.
أوَّلًا: مَنهَجُ المُتَكَلِّمينَ ومَنهَجُ الفُقَهاءِ
اشتَهرَ تَقسيمُ الاتِّجاهاتِ الأُصوليَّةِ إلى مدرَسةِ المُتَكَلِّمينَ، ومدرَسةِ الفُقَهاءِ، ومدرَسةِ الجَمعِ بَينَهما، ذَكَرَه ابنُ خَلدون في "مُقدِّمَتِه"، وقد قَرَّرَه وبَنى عليه أكثَرُ الباحِثينَ المُعاصِرينَ [187] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 576- 577)، مقدمة ((روضة الناظر، لابن قدامة)) لشعبان (1/ 18- 22)، ((المذهب الحنبلي)) للتركي (1/ 404)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 8)، ((ابن قدامة وآثاره الأصولية)) للسعيد (1/ 33- 35). .
فقد ذَكَرَ ابنُ خَلدونَ تَطَوُّرَ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ، ومَراحِلَ الكِتابةِ فيه واتِّجاهاتِها، وقال: (ثُمَّ كَتَبَ فُقَهاءُ الحَنَفيَّةِ فيه وحَقَّقوا تلك القَواعِدَ وأوسَعوا القَولَ فيها. وكَتَبَ المُتَكَلِّمونَ أيضًا كذلك، إلَّا أنَّ كِتابةَ الفُقَهاءِ فيها أمَسُّ بالفِقهِ وأليَقُ بالفُروعِ لكَثرةِ الأمثِلةِ مِنها والشَّواهدِ وبناءِ المَسائِلِ فيها على النُّكَتِ الفِقهيَّةِ. والمُتَكَلِّمونَ يُجَرِّدونَ صورَ تلك المَسائِلِ عنِ الفِقهِ، ويَميلونَ إلى الاستِدلالِ العَقليِّ ما أمكَنَ؛ لأنَّه غالِبُ فُنونِهم ومُقتَضى طَريقَتِهم، فكان لفُقَهاءِ الحَنَفيَّةِ فيها اليَدُ الطُّولى مِنَ الغَوصِ على النُّكَتِ الفِقهيَّةِ، والتِقاطِ هذه القَوانينِ مِن مَسائِلِ الفِقهِ ما أمكَنَ... وعُنِي النَّاسُ بطَريقةِ المُتَكَلِّمينَ فيه. وكان مِن أحسَنِ ما كَتَبَ فيه المُتَكَلِّمونَ كِتابُ البُرهانِ لإمامِ الحَرَمَينِ، والمُستَصفى للغَزاليِّ، وهما مِنَ الأشعَريَّةِ، وكِتابُ العُمَدِ أو العهدِ [188]  اختُلِف في اسمِ كِتابِ القاضي عَبدِ الجَبَّارِ؛ فبَعضُهم يُسَمِّيه العَهدَ، كابنِ خَلدون، وبَعضُهم يُسَمِّيه العمدَ، كَأبي الحُسَينِ البَصريِّ في المُعتَمَدِ، وكَذا في النُّسخةِ الباريسيَّةِ لتاريخِ ابنِ خَلدونَ، كما أشارَ مُحَقِّقُه. يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/3)، ((هامش تاريخ ابن خلدون)) (1/576). لعَبدِ الجَبَّارِ، وشَرحُه المُعتَمَدُ لأبي الحُسَينِ البَصريِّ [189]  ذَكَرَ ابنُ خَلدون أنَّ "المعتمد" شَرحٌ لـ "العهد"، وأشارَ أبو الحُسَينِ البَصريُّ إلى أنَّ "المعتمد" كِتابٌ آخَرُ غَيرُ شَرحِ "العمد"،  فقال في أوَّلِ "المعتمد": (ثُمَّ الذي دَعاني إلى تَأليفِ هذا الكِتابِ في أصولِ الفقهِ بَعدَ شَرحي كِتابَ العمدِ، واستِقصاءِ القَولِ فيه: أنِّي سَلكتُ في الشَّرحِ مَسلَكَ الكتابِ في تَرتيبِ أبوابِه، وتَكرارِ كَثيرٍ مِن مَسائِلِه، وشَرحِ أبوابٍ لا تَليقُ بأصولِ الفقهِ مِن دَقيقِ الكَلامِ، نَحوُ القَولِ في أقسامِ العُلومِ، وحَدِّ الضَّروريِّ مِنها والمُكتَسَبِ، وتوليدِ النَّظَرِ العِلمَ، ونَفيِ تَوليدِه النَّظَرَ، إلى غَيرِ ذلك، فطال الكِتابُ بذلك، وبذِكرِ ألفاظِ "العمد" على وَجهِها، وتَأويلِ كَثيرٍ مِنها؛ فأحبَبتُ أن أُؤَلِّفَ كِتابًا مُرَتَّبةً أبوابُه غَيرَ مُكَرَّرةٍ، وأعدِلَ فيه عن ذِكرِ ما لا يَليقُ بأصولِ الفِقهِ مِن دَقيقِ الكَلامِ). يُنظر: ((المعتمد)) (1/3). ، وهما مِنَ المُعتَزِلةِ. وكانتِ الأربَعةُ قَواعِدَ هذا الفنِّ وأركانَه... وأمَّا طَريقةُ الحَنَفيَّةِ فكَتَبوا فيها كَثيرًا، وكان مِن أحسَنِ كِتابةِ المُتَقدِّمينَ فيها تَأليفُ أبي زَيدٍ الدَّبُوسيِّ، وأحسَنُ كِتابةِ المُتَأخِّرينَ فيها تَأليفُ سَيفِ الإسلامِ البَزدَويُّ مِن أئِمَّتِهم، وهو مُستَوعِبٌ، وجاءَ ابنُ السَّاعاتيِّ مِن فُقَهاءِ الحَنَفيَّةِ فجَمَعَ بَينَ كِتابِ الإحكامِ وكِتابِ البَزْدَويِّ في الطَّريقَتَينِ، وسُمِّي كِتابُه بالبَدائِعِ [190] كذا في المَصدَرِ، ولعَلَّ الصَّوابَ (بالبَديعِ) فاسمُ الكِتابُ "بديعُ النِّظامِ". ، فجاءَ مِن أحسَنِ الأوضاعِ وأبدَعِها، وأئِمَّةُ العُلَماءِ لهذا العَهدِ يَتَداولونَه قِراءةً وبَحثًا. وأُولِعَ كَثيرٌ مِن عُلَماءِ العَجَمِ بشَرحِه) [191] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 576- 577). . وفيما يَلي ذِكرُ هذه الاتِّجاهاتِ بناءً على ذلك.
1- طَريقةُ المُتَكَلِّمينَ (أوِ الشَّافِعيَّةِ):
وهذه الطَّريقةُ تَنحو إلى تَحريرِ المَسائِلِ الأُصوليَّةِ، وتَقريرِ القَواعِدِ تَقريرًا منطقيًّا يَقومُ على الدَّليلِ العَقليِّ، دونَ نَظَرٍ إلى ما يَتَفرَّعُ عنها مِن فُروعٍ فِقهيَّةٍ، فما أيَّدَته العُقولُ والحُجَجُ مِنَ القَواعِدِ أثبتوه، وما خالَف ذلك نَفَوه، وسَمِّي هذا الاتِّجاهُ: باتِّجاهِ المُتَكَلِّمينَ؛ لأنَّهم أشبَهوا عُلَماءَ الكَلامِ في إقامةِ الأدِلَّةِ، ودَفعِ شُبَهِ المُخالِفينَ، ولأنَّ كَثيرينَ مِن عُلَماءِ الكَلامِ لَهم بُحوثٌ في الأُصولِ على هذا المِنهاجِ، وسُمِّيت هذه الطَّريقةُ أيضًا طَريقةَ الشَّافِعيَّةِ أو أُصولَ الشَّافِعيَّةِ، باعتِبارِ أنَّ الشَّافِعيَّ أوَّلُ مَنِ اختَطَّ هذه الطَّريقةَ بدِراسةٍ نَظَريَّةٍ مُجَرَّدةٍ في كِتابِه الرِّسالةِ، وكَتَب بهذه الطَّريقةِ أكثَرُ الشَّافِعيَّةِ والمالكيَّةِ والحَنابلةِ [192] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 576)، ((أبجد العلوم)) لصديق حسن (ص: 280)، ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 7)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 18)، ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 18)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 63)، مقدمة ((روضة الناظر، لابن قدامة)) لشعبان (1/ 18). ويُنظر أيضًا: ((ابن قدامة وآثاره الأصولية)) للسعيد (1/ 33). .
وقد أفادَ هذا الاتِّجاهُ عِلمَ الأُصولِ في الجُملةِ؛ فقد كان البَحثُ لا يَعتَمِدُ على تَعَصُّبٍ مَذهَبيٍّ، ولَم تَخضَعْ فيه القَواعِدُ الأُصوليَّةُ للفُروعِ المَذهَبيَّةِ، بَل كانتِ القَواعِدُ تُدرَسُ على أنَّها حاكِمةٌ على الفُروعِ، وعلى أنَّها دِعامةُ الفِقهِ وطَريقُ الاستِنباطِ، وإنَّ ذلك النَّظَرَ المُجَرَّدَ قد أفادَ قَواعِدَ أُصولِ الفِقهِ، فدُرِسَت دِراسةً عَميقةً بَعيدةً عنِ التَّعَصُّبِ في الجُملةِ، فصَحِبَه تَنقيحٌ وتَحريرٌ لهذه القَواعِدِ [193] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 20). .
ومِنَ الكُتُبِ المُؤَلَّفةِ على هذه الطَّريقةِ:
1- "العمدُ" للقاضي عَبدِ الجَبَّارِ بنِ أحمَدَ الهَمذانيِّ المُعتَزِليِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 415هـ.
2- "المُعتَمدُ" لأبي الحُسَينِ مُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ الطَّيِّبِ البَصريِّ المُعتَزِليِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 436هـ.
3- "البُرهانُ" لإمامِ الحَرَمَينِ عَبدِ المَلِكِ بنِ يوسُفَ الجُوَينيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 478هـ.
4 - "المُستَصفى" لأبي حامِدٍ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الغَزاليِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 505هـ.
فكانت هذه الكُتُبُ الأربَعةُ بمَثابةِ المَرجِعِ في الأُصولِ على هذه الطَّريقةِ، إلى أن لَخَّصَ ما فيها: فخرُ الدِّينِ الرَّازيُّ المُتَوفَّى سَنة "606هـ" في كِتابٍ سَمَّاه "المَحصول"، وسَيفُ الدِّينِ الآمِديُّ المُتَوفَّى سَنةَ "631هـ في كِتابٍ سَمَّاه "الإحكام في أُصولِ الأحكامِ". وقد عُنِي العُلَماءُ بهَذَينِ الكِتابَينِ عِنايةً فائِقةً، بالاختِصارِ والشَّرحِ والتَّعليقِ [194] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 20)، مقدمة ((روضة الناظر لابن قدامة)) لشعبان (1/ 18). ويُنظر أيضًا: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 576)، ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 8- 9). .
2- طَريقةُ الفُقَهاءِ (أوِ الحَنَفيَّةِ):
عُرِفَت هذه الطَّريقةُ بطَريقةِ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ فُقَهاءَ الحَنَفيَّةِ همُ الذينَ التَزَموا التَّأليفَ بها كما عُرِفَت بطَريقةِ الفُقَهاءِ؛ لأنَّه نِتاجُ كِتاباتِهم، وقد تَمَيَّزَت هذه الطَّريقةُ برَبطِ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ بالفُروعِ الفِقهيَّةِ، بمَعنى: أنَّهم جَعَلوا الأُصولَ تابعةً للفُروعِ، بحَيثُ تَتَقَرَّرُ القَواعِدُ على مُقتَضى الفُروعِ الفِقهيَّةِ، باعتِبارِ أنَّ هذه القَواعِدَ إنَّما هيَ لخِدمةِ الفُروعِ [195] يُنظر: ((أبجد العلوم)) لصديق حسن (ص: 280)، ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 7)، ((المذهب الحنبلي)) للتركي (1/ 404)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 18)، يُنظر: ((أوضح العبارات)) لمحمد يسري (ص: 44)، مقدمة ((روضة الناظر لابن قدامة)) لشعبان (1/ 18). .
فيُؤَسِّسونَ أُصولًا يَظُنُّونَ أنَّ أئِمَّتَهمُ اتَّبَعوها في الاستِنباطِ، وبَنَوا عليها اجتِهادَهم، وكان مَنهَجُ الحَنَفيَّةِ في ذلك أنَّهم -أثناءَ التَّصنيفِ والتَّدوينِ- استقرؤوا الفُروعَ؛ ليَعرِفوا أُصولَها مِن خِلالِ تَنبيهِ أئِمَّتِهم على القاعِدةِ أحيانًا أثناءَ الفتاوى، وأحيانًا يَستَنبطونَ الأُصولَ مِن خِلالِ جَمعِ الفُروعِ المُتَشابهةِ التي يَجمَعُها أصلٌ واحِدٌ، ثُمَّ يُؤَصِّلونَ هذه القَواعِدَ لتكونَ أُصولًا للمَذهَبِ، ويَتَزَوَّدونَ بها في مَقامِ الجَدَلِ والمُناظَرةِ، فمِن أهدافِهمُ الذَّبُّ عن فُروعِ مَذهَبِهم بتَأصيلِ قَواعِدِه، فتَكونُ مُقَرِّرةً للفُروعِ لا حاكِمةً عليها؛ ولذلك يُكثِرونَ مَن بَحثِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ ودِراسَتِها [196] يُنظر: ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 7- 8)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 18)، ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 21)، ((الخلاف الأصولي بين الحنفية وجمهور الأصوليين)) للدهشان (ص: 605). .
وقيلَ في سَبَبِ اللُّجوءِ إلى هذه الطَّريقةِ: إنَّ عُلَماءَ الحَنَفيَّةِ لَم يَجِدوا كُتُبًا في الأُصولِ مِن وَضعِ أئِمَّتِهم، فبَحَثوا عنِ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ في الفُروعِ الفِقهيَّةِ (([197] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 66). ويُنظر أيضًا: ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 21). .
ومِن فوائِدِ هذه الطَّريقةِ:
1- أنَّها استِنباطٌ لأُصولِ الاجتِهادِ.
2- أنَّها دِراسةٌ تَطبيقيَّةٌ على الفُروعِ؛ فهيَ لَيسَت بُحوثًا مُجَرَّدةً.
3- أنَّها دِراسةٌ فِقهيَّةٌ كُلِّيَّةٌ مُقارِنةٌ لا تَكونُ الموازَنةُ فيها بَينَ الفُروعِ بَل بَينَ أُصولِها.
4- أنَّ هذه الدِّراسةَ ضَبطٌ لجُزئيَّاتِ المَذهَبِ كأصلٍ له، وهذا الضَّبطُ به تُعرَفُ طُرُقُ التَّخريجِ فيه وتَفريعُ فُروعِه واستِخراجُ أحكامِ المَسائِلِ التي قد تَعرِضُ مِمَّا لَم يَسبِقْ وُقوعُه [198] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 22). .
ومِن أهَمِّ الكُتُبِ المُؤَلَّفةِ على هذه الطَّريقةِ:
1- "رِسالةُ الكَرخيِّ في الأُصولِ" لأبي الحَسَنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ الحَسَنِ الكَرخيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 340هـ.
2- "أُصولُ الفِقهِ" المعروف بـ "الفصول" لأبي بَكرٍ أحمَدَ بنِ عَليٍّ الرَّازيِّ الجَصَّاصِ، المُتَوفَّى سَنةَ 370هـ.
3- " كَنزُ الوُصولِ إلى مَعرِفةِ الأُصولِ" لفخرِ الإسلامِ أبي الحَسَنِ البَزْدَويِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 482هـ.
4- "أُصولُ السَّرَخْسيِّ" المسمَّى "تمهيدُ الفصولِ في الأصولِ" لمُحَمَّدِ بنِ أحمَدَ بنِ سَهلٍ السَّرَخْسيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 483هـ. 
5- "مَنارُ الأنوارِ" لأبي البَرَكاتِ عَبدِ اللَّهِ بنِ أحمَدَ النَّسَفيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 710هـ. وعليه عِدَّةُ شُروحٍ، واختَصَرَه كَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ [199] يُنظر: ((طبقات الأصوليين)) لمحمود عبدالرحمن (ص:74- 77)، ((مرتقى الوصول إلى تاريخ علم الأصول)) لموسى القرني (ص:29،30)، ((أصول الفقه ومدارس البحث فيه)) لوهبة الزحيلي (ص:25:23)، مقدمة ((روضة الناظر لابن قدامة)) لشعبان (1/ 19)، ونحوه: ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 9). .
3- الجَمعُ بَينَ طَريقَتَيِ المُتَكَلِّمينَ والفُقَهاءِ:
في القَرنِ السَّابعِ الهجريِّ بَدَأت تَظهَرُ طَريقةٌ ثالثةٌ تَجمَعُ بَينَ المَنهَجَينِ المُتَقدِّمَينِ: مَنهَجِ المُتَكَلِّمينَ، ومَنهَجِ الفُقَهاءِ، بحَيثُ تُذكَرُ القاعِدةُ الأُصوليَّةُ وتُقيمُ الأدِلَّةَ عليها، وتقارنُ بَينَ ما قاله المُتَكَلِّمونَ وما قاله الفُقَهاءُ، مَعَ المُناقَشةِ والتَّرجيحِ، ثُمَّ تُذكَرُ بَعضُ الفُروعِ المُخَرَّجةِ عليها [200] يُنظر: ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 10- 11)، مقدمة ((روضة الناظر لابن قدامة)) لشعبان (1/ 20- 21)، ((المذهب الحنبلي)) للتركي (1/ 404). .
وقدِ اتَّسَمَتِ الكِتابةُ في هذه الطَّريقةِ بتَحريرِ القَواعِدِ الأصوليَّةِ والاستِدلالِ عليها على وَفقِ طَريقةِ الشَّافِعيَّةِ، ثُمَّ تَطبيقِ القاعِدةِ على الفُروعِ ببَيانِ الفُروعِ المَبنيَّةِ عليها على وَفقِ طَريقةِ الحَنَفيَّةِ، فجمَعَت مَحاسِنَ الطَّريقَتَينِ مَعَ المُقارَنةِ بَينَهما [201] يُنظر: ((أصول الفقه ومدارس البحث فيه)) لوهبة الزحيلي (ص: 26). .
ومِنَ الكُتُبِ المُؤَلَّفةِ على هذه الطَّريقةِ:
1- "بَديعُ النِّظامِ الجامِعُ بَينَ أُصولِ البَزْدَويِّ والإحكامِ" لمُظَفَّرِ الدِّينِ أحمَدَ بنِ عَليٍّ السَّاعاتيِّ الحَنَفيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 694هـ.
2- "التَّنقيحُ" لصَدرِ الشَّريعةِ عُبَيدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ البُخاريِّ الحَنَفيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 747هـ. وقد وضَعَ عليه شَرحًا سَمَّاه "التَّوضيح شَرح التَّنقيح".
3 - "جَمعُ الجَوامِعِ" لتاجِ الدِّينِ عَبدِ الوهَّابِ بنِ عَليٍّ السُّبكيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 771هـ. وعليه عِدَّةُ شُروحٍ وحَواشٍ.
4- "التَّحريرُ" لكَمالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الواحِدِ، ابنِ الهُمَامِ الفقيهِ الحَنَفيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 861هـ. شَرَحَه تِلميذُه: مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّد أمير حاجِّ الحَلَبيِّ، المُتَوفَّى سَنة "879هـ" في كِتابٍ سَمَّاه "التَّقرير والتَّحبير"، وعليه شَرحٌ آخَرُ يُسَمَّى "تَيسير التَّحريرِ" لمُحَمَّد أمين المَعروفِ بأمير بادشاه.
5- "مُسلَّمُ الثُّبوتِ" لمُحِبِّ الدِّينِ بنِ عَبدِ الشَّكورِ البَهاريِّ الفقيهِ الحَنَفيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 1119هـ. وعليه شَرحُ عَبدِ العَليِّ مُحَمَّدِ بنِ نِظامِ الدِّينِ الأنصاريِّ اللكْنَويِّ، ويُسَمَّى: "فواتِح الرَّحَموتِ بشَرحِ مُسلم الثُّبوتِ".
وقد وُجِّهَت إلى هذا التَّقسيمِ انتِقاداتٌ مِن قِبَلِ بَعضِ المُعاصِرينَ؛ لعِدَّةِ اعتِباراتٍ ومآخِذَ، مِنها:
1- أنَّ هناكَ طُرُقًا أُخرى كَطَريقةِ التَّخريجِ الخاصَّةِ بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ، وطَريقةِ الاستِقراءِ الكُلِّيِّ التي سارَ عليها الشَّاطِبيُّ في الموافَقاتِ.
2- أنَّ تَسميةَ طَريقةِ غَيرِ الحَنَفيَّةِ بطَريقةِ المُتَكَلِّمينَ مَحَلُّ نَظَرٍ؛ فكَثيرٌ مِمَّن كَتَبَ في هذه الطَّريقةِ مِمَّن يَذُمُّ عِلمَ الكَلامِ، كَما أنَّ بَعضَ أهلِ الكَلامِ قد كَتَبَ على طَريقةِ الحَنَفيَّةِ.
3- أنَّ القَولَ بأنَّ طَريقةَ غَيرِ الحَنَفيَّةِ يَعتَمِدونَ في الاستِدلالِ على الأدِلَّةِ العَقليَّةِ؛ لأنَّه غالِبُ فُنونِهم ومُقتَضى طَريقَتِهم، قَولٌ يُناقِضُه البُرهانُ؛ فالنَّاظِرُ في طَريقةِ القَومِ يَجِدُ أنَّهم يَستَدِلُّونَ على قَضاياهمُ الأصوليَّةِ بأدِلَّةٍ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والمَعقولِ، بَل هم جَميعًا يُقَرِّرونَ أنَّ الأصلَ في الأدِلَّةِ هو الكِتابُ، والسُّنَّةُ المُبَيِّنةُ له، ثُمَّ الإجماعُ المُستَنِدُ إليهما، ثُمَّ القياسُ غَيرُ المُعارِضِ لهم [202] يُنظر: ((مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الأصولية)) للعروسي (ص: 24- 27، 40-41، 44-45)، ((مرتقى الوصول إلى تاريخ علم الأصول)) لموسى القرني (ص:37، 38)، ((الخلاف الأصولي بين الحنفية وجمهور الأصوليين)) للدهشان (ص: 606-615). .
ثانيًا: طَريقةُ تَخريجِ الفُروعِ على الأُصولِ
اتِّجاهُ "تَخريجِ الفُروعِ على الأُصولِ" فيه تُذكَرُ القاعِدةُ الأُصوليَّةُ، وآراءُ العُلَماءِ فيها، دونَ الخَوضِ في أدِلَّةِ كُلِّ مَذهَبٍ، ثُمَّ يُفرِّعُ عليها بَعضَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، إمَّا على مَذهَبٍ مُعَيَّنٍ، وإمَّا مَعَ المُقارَنةِ بَينَ مَذهَبَينِ مُختَلفينِ، كالحَنَفيَّةِ والشَّافِعيَّة -مَثَلًا- أوِ الشَّافِعيَّةِ والمالكيَّةِ والحَنابلةِ، وهكذا [203] يُنظر: مقدمة ((روضة الناظر لابن قدامة)) لشعبان (1/ 21)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 65). ويُنظر أيضًا: ((التخريج عند الفقهاء والأصوليين)) للباحسين (ص: 63) وما بعدها. ، وقد أشارَ الزَّنجانيُّ إلى هذه الطَّريقةِ في مُستَهَلِّ كِتابِه الذي كَتَبَه على وَفقِ هذه الطَّريقةِ، فقال: (وحَيثُ لم أرَ أحَدًا مِنَ العُلماءِ الماضينَ والفُقَهاءِ المُتَقدِّمينَ تَصَدَّى لحيازةِ هذا المَقصودِ، بَل استَقَلَّ عُلماءُ الأصولِ بذِكرِ الأصولِ المُجَرَّدةِ، وعُلماءُ الفُروعِ بنَقلِ المَسائِلِ المُبَدَّدةِ، مِن غَيرِ تَنبيهٍ على كَيفيَّةِ استِنادِها إلى تلك الأصولِ؛ أحبَبتُ أن أُتحِفَ ذَوي التَّحقيقِ مِنَ المُناظِرينَ بما يَسُرُّ النَّاظِرينَ، فحَرَّرتُ هذا الكِتابَ كاشِفًا عنِ النَّبَأِ اليَقينِ، فذَلَّلتُ فيه مَباحِثَ المُجتَهِدينَ، وشَفَيتُ غَليلَ المُستَرشِدينَ، فبَدَأتُ بالمَسألةِ الأصوليَّةِ التي تُرَدُّ إليها الفُروعُ في كُلِّ قاعِدةٍ، وضَمَّنتُها ذِكرَ الحُجَّةِ الأصوليَّةِ مِنَ الجانِبَينِ، ثُمَّ رَدَدتُ الفُروعَ النَّاشِئةَ مِنها إليها، فتَحَرَّرَ الكِتابُ مَعَ صِغَرِ حَجمِه حاويًا لقَواعِدِ الأصولِ جامِعًا لقَوانينِ الفُروعِ، واقتَصَرتُ على ذِكرِ المَسائِلِ التي تَشتَمِلُ عليها تَعاليقُ الخِلافِ؛ رَومًا للاختِصارِ، وجَعَلتُ ما ذَكَرتُه أُنموذَجًا لِما لم أذكُرْه، ودَليلًا على الذي لا تَراه مِنَ الذي تَرى، ووسَمتُه بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ تَطبيقًا للاسمِ على المَعنى) [204]  ((تخريج الفروع على الأصول)) (ص:34، 35). .
ومِنَ الكُتُبِ التي أُلِّفَت على هذه الطَّريقةِ:
1- "تَخريجُ الفُروعِ على الأُصولِ" لشِهابِ الدِّينِ مَحمودِ بنِ أحمَدَ الزِّنجانيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 656هـ. فيذكُرُ القاعِدةَ الأُصوليَّةَ، ثُمَّ يُتبِعُها بتَطبيقاتٍ فِقهيَّةٍ على مَذهَبِ الحَنَفيَّةِ والشَّافِعيَّةِ.
2- "مِفتاحُ الوُصولِ إلى بناءِ الفُروعِ على الأُصولِ" للشَّريفِ أبي عَبدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ التِّلِمْسانيِّ المالكيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 771هـ. سَلَكَ فيه مُؤَلِّفُه نَفسَ المَسلَكِ السَّابقِ، إلَّا أنَّه يُقارِنُ بَينَ المَذاهِبِ الثَّلاثةِ: الحَنَفيِّ والمالكيِّ والشَّافِعيِّ.
3- "التَّمهيدُ في تَخريجِ الفُروعِ على الأُصولِ" لجَمالِ الدِّينِ عَبدِ الرَّحيمِ بنِ الحَسَنِ القُرَشيِّ الإسْنَويِّ الشَّافِعيِّ، المُتَوفَّى سَنةَ 772هـ. ويُعتَبَرُ مِن أهَمِّ الكُتُبِ التي ألِّفَت على هذا المَنهَجِ، حَيثُ استَوعَبَ القَواعِدَ الأُصوليَّةَ، إلَّا أنَّه قَصَرَ التَّخريجَ على مَذهَبِ الشَّافِعيَّةِ فقَط.
4- "القَواعِدُ والفوائِدُ الأُصوليَّةُ وما يَتَعَلَّقُ بها مِنَ الأحكامِ الفرعيَّةِ" لأبي الحَسَنِ عَلاءِ الدِّينِ عَليِّ بنِ عَبَّاسٍ البَعليِّ الحَنبَليِّ، المَعروفِ بابنِ اللَّحَّامِ، المُتَوفَّى سَنةَ 803هـ. سارَ فيه مُؤَلِّفُه على نَفسِ المَنهَجِ، غَيرَ أنَّه أبرَزَ رَأيَ عُلَماءِ الحَنابلةِ بشَكلٍ أوضَحَ، وإن كان يَذكُرُ آراءَ بَعضِ المَذاهِبِ الأُخرى [205] يُنظر: ((طبقات الأصوليين)) لمحمود عبدالرحمن (ص:77- 78)، ((مرتقى الوصول إلى تاريخ علم الأصول)) لموسى القرني (ص:30،31)، ((أصول الفقه ومدارس البحث فيه)) لوهبة الزحيلي (ص:28:26)، مقدمة ((روضة الناظر لابن قدامة)) لشعبان (1/ 21- 22)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 65). .
ثالثًا: طَريقةُ الاستِقراءِ لأحكامِ الشَّريعةِ ومَقاصِدِها الكُلِّيَّةِ
وقد تَمَيَّزَت هذه الطَّريقةُ بالتَّركيزِ على مَعرِفةِ كُلِّيَّاتِ الشَّريعةِ ومَقاصِدِها، ثُمَّ بناءِ النَّظَرِ الاجتِهاديِّ على هذه الكُلِّيَّاتِ والمَقاصِدِ وأسرارِ التَّكليفِ، وأوَّلُ مَن سَلكَ هذه الطَّريقةَ الشَّاطِبيُّ أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ موسى اللَّخميُّ الغرناطيُّ المالِكيُّ، المُتَوفَّى سَنةَ 790هـ، فألَّف كِتابَه المَشهورَ المُسَمَّى بـ"الموافَقات". وقد بَيَّنَ مَنهَجَه في مُقدِّمةِ كِتابِه، فقال: (ولمَّا بَدا مِن مَكنونِ السِّرِّ ما بَدا، ووفَّقَ اللهُ الكَريمُ لِما شاءَ مِنه وهَدى، لم أزَلْ أُقَيِّدُ مِن أوابِدِه، وأضُمُّ مِن شَوارِدِه تَفاصيلَ وجُمَلًا، وأسوقُ مِن شَواهدِه في مَصادِرِ الحُكمِ ومَوارِدِه مُبَيِّنًا لا مُجمِلًا، مُعتَمِدًا على الاستِقراءاتِ الكُلِّيَّةِ، غَيرَ مُقتَصِرٍ على الأفرادِ الجُزئيَّةِ، ومُبَيِّنًا أصولَها النَّقليَّةَ بأطرافٍ مِنَ القَضايا العَقليَّةِ، حَسَبَما أعطَته الاستِطاعةُ والْمُنَّةُ، في بَيانِ مَقاصِدِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ثُمَّ استَخَرتُ اللَّهَ تَعالى في نَظمِ تلك الفرائِدِ، وجَمْعِ تلك الفوائِدِ، إلى تَراجِمَ تَرُدُّها إلى أصولِها، وتَكونُ عَونًا على تَعَقُّلِها وتَحصيلِها؛ فانضَمَّت إلى تَراجِمِ الأصولِ الفقهيَّةِ، وانتَظَمَت في أسلاكِها السَّنيَّةِ البَهيَّةِ) [206]  ((الموافقات)) (1/9). .
وتَوالَت بَعدَ ذلك المُؤَلَّفاتُ على الاتِّجاهاتِ المُختَلفةِ، مِنها: المُطَوَّلُ، ومِنها المُختَصَرُ، ومِنها المُتَوسِّطُ، لَكِنَّها -في الجُملةِ- لا تَختَلفُ كَثيرًا عَمَّا أصَّله المُتَقدِّمونَ إلَّا في طَريقةِ العَرضِ، أو تَقديمِ مَوضِعٍ على آخَرَ، كما هو الشَّأنُ في التَّأليفِ [207] يُنظر: مقدمة ((روضة الناظر لابن قدامة)) لشعبان (1/ 22). ويُنظر أيضَا: ((أصول الفقه)) للخضري (ص: 11- 12)، مقدمة ((الموافقات للشاطبي)) لمشهور حسن (مقدمة/ 22)، ((مرتقى الوصول)) لموسى القرني (ص:35). .


انظر أيضا: