موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ السَّادِسةُ: هَل يُقاسُ على حُكمِ الأصلِ الخارِجِ عن قاعِدةِ القياسِ؟


الطَّريقةُ المَعهودةُ عِندَ الأُصوليِّينَ في القياسِ: كَونُ ذلك الحُكمِ مُعَلَّلًا بعِلَّةٍ منصوصةٍ أو مُستَنبَطةٍ، وكَونُ تلك العِلَّةِ مَوجودةً في صورٍ كثيرةٍ. لكِن إذا ورَدَ حُكمٌ مَعدولٌ به عن هذا فهَل يُقاسُ عليه غَيرُه أو لا؟
وقد اشتَهرَ بَينَ الفُقَهاءِ أنَّ المَعدولَ به عن القياسِ لا يُقاسُ عليه غَيرُه، لكِنْ في المَسألةِ تَفصيلٌ [1131] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/304). .
المُرادُ بالخارِجِ عن قاعِدةِ القياسِ:
الحُكمُ الخارِجُ عن قاعِدةِ القياسِ، أو المُستَثنى عن قاعِدةِ القياسِ، أو الثَّابِتُ على خِلافِ القياسِ: ليسَ المُرادُ به أنَّه تَجَرَّدَ عن مُراعاةِ المَصلحةِ حتَّى خالف القياسَ، وإنَّما المُرادُ به أنَّه عُدِل به عن نَظائِرِه؛ لمَصلحةٍ أكمَلَ وأخَصَّ مِن مَصالِحِ نَظائِرِه على جِهةِ الاستِحسانِ الشَّرعيِّ. فمِن ذلك أنَّ القياسَ عَدَمُ بَيعِ المَعدومِ، وجاز ذلك في السَّلَمِ والإجارةِ؛ تَوسِعةً وتَيسيرًا على المُكَلَّفينَ. ومِنه: أنَّ القياسَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ يَضمَنُ جِنايةَ نَفسِه، وخولِفَ في ديةِ الخَطَأِ؛ رِفقًا بالجاني، وتَخفيفًا عنه؛ لكَثرةِ وُقوعِ الخَطَأِ مِن الجُناةِ. والغَرَضُ: أنَّ كُلَّ خارِجٍ عن القياسِ في الشَّرعِ في غَيرِ التَّعبُّداتِ، فهو لمَصلحةٍ أكمَلَ وأخَصَّ، وهو استِحسانٌ شَرعيٌّ [1132] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/329). .
أقسامُ الخارِجِ عن قاعِدةِ القياسِ:
يُطلَقُ اسمُ الخارِجِ عن القياسِ على أربَعةِ أقسامٍ مُختَلفةٍ؛ فإنَّ ذلك يُطلَقُ على ما استُثنيَ مِن قاعِدةٍ عامَّةٍ، وتارةً على ما استُفتِحَ ابتِداءً مِن قاعِدةٍ مُقَرَّرةٍ بنَفسِها لم تُقطَعْ مِن أصلٍ سابقٍ. وكُلُّ واحِدٍ مِن المُستَثنى والمُستَفتَحِ يَنقَسِمُ إلى ما يُعقَلُ مَعناه، وإلى ما لا يُعقَلُ مَعناه، فهيَ أربَعةُ أقسامٍ [1133] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 325). :
القِسمُ الأوَّلُ: ما شُرِعَ مِن الأحكامِ على وَجهِ الاستِثناءِ والاقتِطاعِ عن القَواعِدِ العامَّةِ والأُصولِ المُقَرَّرةِ، ولا يُعقَلُ مَعناه [1134] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 325)، ((الإحكام)) للآمدي (3/196)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/285). .
حُكمُه:
هذا القِسمُ لا يُقاسُ عليه بالاتِّفاقِ، ومِمَّن نَقَله: عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ [1135] يُنظر: ((كشف الأسرار)) (3/304-305). ؛ لأنَّه فُهمَ ثُبوتُ الحُكمِ في مَحَلِّه على الخُصوصِ، وفي القياسِ إبطالُ الخُصوصِ المَعلومِ بالنَّصِّ، ولا سَبيلَ إلى إبطالِ النَّصِّ بالقياسِ.
مِثالُه:
تَخصيصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا بُردةَ بنَ نِيارٍ بالجَذَعةِ مِن المَعْزِ حينَ ضَحَّى بها؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تَجزيك، ولن تَجزيَ عن أحَدٍ بَعدَك)) [1136] أخرجه البخاري (955)، ومسلم (1961) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((خَطَبَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ الأضحى بَعدَ الصَّلاةِ: مَن صَلَّى صَلاتَنا، ونَسَكَ نُسُكَنا، فقد أصابَ النُّسُكَ، ومَن نَسَكَ قَبلَ الصَّلاةِ فإنَّه قَبلَ الصَّلاةِ ولا نُسُكَ له، فقال أبو بُردةَ بنُ نِيارٍ خالُ البَراءِ: يا رَسولَ اللهِ، فإنِّي نَسَكتُ شاتي قَبلَ الصَّلاةِ، وعَرَفتُ أنَّ اليَومَ يَومُ أكلٍ وشُربٍ، وأحبَبتُ أن تَكونَ شاتي أوَّلَ ما يُذبَحُ في بَيتي، فذَبَحتُ شاتي وتَغَدَّيتُ قَبلَ أن آتيَ الصَّلاةَ، قال: شاتُكَ شاةُ لحمٍ. قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ عِندَنا عَناقًا لنا جَذَعةً هيَ أحَبُّ إليَّ مِن شاتَينِ، أفتَجزي عنِّي؟ قال: نَعَم، ولن تَجزيَ عن أحَدٍ بَعدَكَ)). .
وهذا القِسمُ خارِجٌ عن قاعِدةِ القياسِ؛ حَيثُ إنَّ الأصلَ أنَّ الجَذَعةَ مِن المَعْزِ لا تُجزِئُ.
القِسمُ الثَّاني: ما شُرِعَ مِن الأحكامِ على وَجهِ الاستِثناءِ والاقتِطاعِ عن القَواعِدِ العامَّةِ لمَعنًى يُعقَلُ، وهو مُخالِفٌ للأُصولِ [1137] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/284)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3194)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/305)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2584). .
حُكمُه:
هذا القِسمُ قد اختُلف فيه هَل يَجوزُ القياسُ عليه أو لا؟
والصَّحيحُ: أنَّه يَجوزُ القياسُ عليه مُطلقًا وإن كان خارِجًا عن قاعِدةِ القياسِ. وهو قَولُ عامَّةِ الأُصوليِّينَ كما قاله عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ [1138] يُنظر: ((كشف الأسرار)) (3/305). ، واستَدَلُّوا بأنَّه حُكمٌ شَرعيٌّ مَعقولُ المَعنى، مُدرَكُ العِلَّةِ إمَّا عن طَريقِ النَّصِّ، أو عن طَريقِ الاستِنباطِ، فجازَ القياسُ عليه، كالقياسِ على غَيرِه مِن الأُصولِ غَيرِ المَعدولِ بها عن سَنَنِ القياسِ، والجامِعُ: توفُّرُ أركانِ القياسِ وشُروطُ كُلِّ رُكنٍ.
وقيل: لا يَجوزُ القياسُ عليه. وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [1139] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/305). .
مِثالُه:
مَشروعيَّةُ بَيعِ العَرايا -وهو بَيعُ الرُّطَبِ في رُؤوسِ النَّخلِ بمِثلِ قَدرِه تَمرًا عن طَريقِ الخَرصِ- فهذا على خِلافِ القاعِدةِ، وهيَ: النَّهيُ عن بَيعِ المُزابَنةِ -أي بَيعِ التَّمرِ بالتَّمرِ- ونَعلمُ أنَّه لم يُشرَعْ ناسِخًا لبَيعِ المُزابَنةِ، بَل على وَجهِ الاستِثناءِ والاقتِطاعِ عنها؛ لحاجةِ الفُقَراءِ، فيَجوزُ قياسُ العِنَبِ على الرُّطَبِ؛ لأنَّه في مَعناه [1140] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 326)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3195)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/329). .
القِسمُ الثَّالثُ: ما شُرِعَ مِن الأحكامِ مُبتَدَأً مِن غَيرِ أن يُقطَعَ عن أُصولٍ أُخَرَ، ولا يُعقَلُ مَعناها [1141] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 326)، ((الإحكام)) للآمدي (3/196)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2582)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/300). .
حُكمُه:
هذا القِسمُ لا يَجوزُ القياسُ فيه بالاتِّفاقِ، ومِمَّن نَقَله: عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ [1142] يُنظر: ((كشف الأسرار)) (3/305). ؛ لفَقدِ العِلَّةِ التي هيَ رُكنُ القياسِ، وهذا غَيرُ خارِجٍ عن قاعِدةِ القياسِ؛ لأنَّه لم يَدخُلْ في القياسِ حتَّى يَخرُجَ عنه، ولكِنَّه سُمِّيَ بالخارِجِ عن قاعِدةِ القياسِ تَجَوُّزًا.
مِثالُه:
المُقدَّراتُ في أعدادِ الصَّلواتِ، وأعدادِ رَكَعاتِ كُلِّ صَلاةٍ.
القِسمُ الرَّابعُ: ما شُرِعَ مِن الأحكامِ مُبتَدَأً غَيرَ مُقتَطَعٍ عن أُصولٍ أُخَرَ، وهو مَعقولُ المَعنى، لكِنَّه عَديمُ النَّظيرِ والمَثيلِ، أي: لا يَكونُ له نَظيرٌ خارِجٌ عَمَّا يَتَناولُه الدَّليلُ الدَّالُّ على تلك الأحكامِ.
حُكمُه:
هذا القِسمُ غَيرُ خارِجٍ عن قاعِدةِ القياسِ، لكِنَّه لا يُقاسُ عليه بالاتِّفاقِ، ومِمَّن نَقَله: عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ [1143] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/304-305). ؛ لأنَّه لا يوجَدُ له نَظيرٌ خارِجَ ما تَناوَلَه النَّصُّ والإجماعُ، فالمانِعُ مِن القياسِ فَقدُ العِلَّة في غَيرِ المَنصوصِ، فكَأنَّه مُعَلَّلٌ بعِلَّةٍ قاصِرةٍ.
مِثالُه:
رُخصةُ المَسحِ على الخُفَّينِ؛ فإنَّه مُعَلَّلٌ بعُسرِ نَزعِه في كُلِّ وقتٍ، وأنَّ الحاجةَ ماسَّةٌ إليه، ولا يُساويه في هذا المَعنى شَيءٌ مِمَّا يُشبِهُه مِن بَعضِ الوُجوهِ كالقُفَّازَينِ، وما لا يَستُرُ جَميعَ القدَمِ؛ فلذلك لم يَجُزْ قياسُ شَيءٍ مِنها عليه، لا لأنَّه خارِجٌ عن القياسِ، لكِن لأنَّه لا يوجَدُ ما يُساويه في الحاجةِ [1144] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 654)، ((الإحكام)) للآمدي (3/197)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2585). .
القِسمُ الخامِسُ: ما شُرِعَ مِن الأحكامِ ابتِداءً مِن غَيرِ اقتِطاعٍ عن أُصولٍ أُخَرَ، وهيَ مَعقولةُ المَعنى، ولها نَظائِرُ وفُروعٌ.
حُكمُه:
هذا القِسمُ هو الذي يُجرى فيه القياسُ باتِّفاقِ القائِسينَ، كما قاله صَفيُّ الدِّينِ الهنديُّ، وهو غَيرُ خارِجٍ عن قاعِدةِ القياسِ باعتِبارٍ ما وبوجهٍ مِن الوُجوهِ [1145] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (7/3201). وقال ابنُ السُّبكيِّ: (هذا هو الذي يَجري فيه القياسُ، وفي جُزئيَّاتِه تَنافُرُ القياسيِّينَ واضطِرابُ آراءِ الجَدَليِّينَ). ((الإبهاج)) (6/2586). .

انظر أيضا: