المَسألةُ الخامِسةُ: شُروطُ العِلَّةِ
أوَّلًا: أن تَكونَ وَصفًا ظاهرًاأي: واضِحًا يُمكِنُ إدراكُه والتَّحَقُّقُ مِن وُجودِه في كُلٍّ مِن الأصلِ والفَرعِ بعَلامةٍ ظاهرةٍ؛ لأنَّ الوَصفَ الخَفيَّ لا يُمكِنُ التَّعليلُ به لخَفائِه، كالرِّضا في التِّجارةِ، فنيِطَ الحُكمُ بالعَلاماتِ الظَّاهرةِ، كصيَغِ العُقودِ؛ لكَونِها ظاهرةً مُنضَبِطةً. ومِثلُ ذلك: الإسكارُ؛ فإنَّه عِلَّةٌ لتَحريمِ الخَمرِ، ويُمكِنُ التَّحَقُّقُ مِن وُجودِها فيها، كما يُمكِنُ التَّحَقُّقُ مِن وُجودِها في أيِّ مَطعومٍ مُسكِرٍ
[1206] يُنظر: ((شرح العضد على مختصر المنتهى)) (3/320)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/167). .
ثانيًا: أن تَكونَ وَصفًا مُنضَبِطًامِن شُروطِ الوَصفِ المُعَلَّلِ به حَقيقيًّا كان أو شَرعيًّا أو عُرفيًّا أو لُغَويًّا: أن يَكونَ مُنضَبطًا بأن لا يَختَلِفَ بالنِّسَبِ والإضافاتِ، والكَثرةِ والقِلَّةِ؛ لأنَّه يُرادُ لتَعريفِ الحُكمِ، وغَيرُ المُنضَبطِ لا يُعرَفُ بالقَدرِ الذي عُلِّقَ به الحُكمُ.
مِثالُ المُنضَبِطِ: الطُّعمُ في بابِ الرِّبا.
ومِثالُ غَيرِ المُنضَبطِ: المَشَقَّةُ في السَّفرِ، والرِّضا في البَيعِ عِندَ مَن يَقولُ: إنَّه لا يَنعَقِدُ إلَّا بالصِّيَغِ القَوليَّةِ
[1207] يُنظر: ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (2/132). .
ثالثًا: أن تَكونَ العِلَّةُ وَصفًا مُناسِبًااشتَرطَ أكثَرُ الأُصوليِّينَ أن تَكونَ العِلَّةُ مُشتَمِلةً على حِكمةٍ تَصلُحُ لأن تَكونَ مَقصودةً للشَّارِعِ مِن شَرعِ حُكمِ الأصلِ، مِن تَحصيلِ مَصلَحةٍ أو تَكميلِها، أو دَفعِ مَفسَدةٍ أو تَقليلِها، وهذا ما عَبَّرَ عنه بَعضُ الأُصوليِّينَ مِن أن تَكونَ العِلَّةُ باعِثةً، على مَعنى أنَّها تَبعَثُ المُكَلَّفَ على الامتِثالِ، لا أنَّها باعِثةٌ للشَّرعِ على ذلك الحُكمِ. أو أنَّه على وَفقِ ما جَعَله اللهُ تعالى مَصلَحةً للعَبدِ.
مِثلُ: حِفظُ النَّفسِ باعِثٌ على فِعلِ القِصاصِ الذي هو مِن فِعلِ المُكَلَّفِ.
فإذا انقادَ المُكَلَّفُ لامتِثالِ أمرِ اللهِ في أخذِ القِصاصِ مِنه وكَونِه وسيلةً لحِفظِ النُّفوسِ، كان له أجرانِ: أجرٌ على الانقيادِ، وأجرٌ على قَصدِ حِفظِ النَّفسِ، وكِلاهما أمرُ اللهِ؛ قال اللهُ تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة: 178] ،
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 179] .
ومِثلُ الإسكارِ في حُرمةِ الخَمرِ؛ فإنَّه مُشتَمِلٌ على حِفظِ العَقلِ؛ إذ الحُرمةُ تُؤَدِّي إلى حِفظِ العَقلِ. وهو مَقصودُ الشَّارِعِ
[1208] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/202)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/24)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1903)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3186). .
رابعًا: أن تَكونَ وصفًا مُتَعَدِّيًا غَيرَ مَقصورٍ على الأصلِمِن شَرطِ العِلَّةِ أن تَكونَ مُتَعَدِّيةً لمَحَلِّ النَّصِّ إلى غَيرِه، كالإسكارِ، والكَيلِ والوَزنِ والطُّعمِ، فلا عِبرةَ بالعِلَّةِ القاصِرةِ، وهيَ ما لا توجَدُ في غَيرِ مُحَلِّ النَّصِّ، كالثَّمَنيَّةِ في النَّقدَينِ، أي: كَونِهما أثمانَ الأشياءِ في الأصلِ؛ فإنَّ هذا مُختَصٌّ بهما، قاصِرٌ عليهما
[1209] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/317). .
وهذا الشَّرطُ مَحَلُّ اتِّفاقٍ بَينَ الأُصوليِّينَ، فقد اتَّفقوا على أنَّ تَعديةَ العِلَّةِ شَرطُ صِحَّةِ القياسِ، ولا يُتَصَوَّرُ اختِلافُهم فيها؛ لأنَّ تَعديةَ الحُكمِ مِن مَحَلِّ النَّصِّ إلى غَيرِه شَرطٌ لصِحَّةِ القياسِ، وبدونِ التَّعديةِ لا يُسَمَّى قياسًا؛ فإنَّ القياسَ لا يَتِمُّ إلَّا بعِلَّةٍ تَتَعَدَّى إلى الفرعِ ليُلحَقَ بالأصلِ
[1210] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/315)، ((مباحث العلة في القياس)) لعبد الحكيم السعدي (ص: 308). .
لكِنَّهم اختَلفوا في التَّعليلِ بالعِلَّةِ القاصِرةِ:
وهيَ التي يَقتَصِرُ وُجودُها على الأصلِ، ولا تَتَعَدَّاه إلى غَيرِه. وتُسَمَّى أيضًا: العِلَّةَ الواقِفةَ، والعِلَّةَ اللَّازِمةَ، مِثلُ: الرَّمَلِ في الأشواطِ الأُوَلِ مِن طَوافِ القدُومِ؛ لإظهارِ الجَلَدِ للمُشرِكينَ. والاستِبراءِ للأَمَةِ في أوَّلِ حُدوثِ مِلكِها؛ للتَّعَرُّفِ على بَراءةِ رَحِمِها
[1211] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/825)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2530)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/429). .
والخِلافُ إنَّما هو في القاصِرةِ المُستَنبَطةِ، أمَّا المنصوصةُ أو المُجمَعُ عليها، فاتَّفَقوا على صِحَّتِها؛ لأنَّها حُكمُ المَعصومِ واجتِهادُه
[1212] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/317)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/315). .
والرَّاجِحُ: جَوازُ التَّعليلِ بها، وهو مَنقولٌ عن الأئِمَّةِ: مالكٍ
[1213] يُنظر: ((الضياء اللامع)) لحلولو (2/325)، ((مفتاح الوصول)) للفاسي (ص: 280). ، والشَّافِعيِّ
[1214] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 537)، ((المحصول)) للرازي (5/312). ، وأحمَدَ في رِوايةٍ
[1215] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1218)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3208). .
وهو قَولُ السَّمَرقَنديِّينَ مِن الحَنَفيَّةِ
[1216] يُنظر: ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (ص: 649)، ((كشف الأسرار شرح المصنف على المنار)) للنسفي (2/286)، ((كشف الأسرار عن أصول البزدوي)) لعلاء الدين البخاري (3/315). ، وأكثَرِ المالكيَّةِ
[1217] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 177)، ((إحكام الفصول)) للباجي (2/639)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 685). ، وجُمهورِ الشَّافِعيَّةِ
[1218] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 54)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3520)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2541). ، وحَكاه إمامُ الحَرَمَينِ عن مُعظَمِ المُحَقِّقينَ مِن الأُصوليِّينَ
[1219] يُنظر: ((التلخيص)) (3/284). .
واستَدَلُّوا بأنَّ الغَرَضَ مِن العِلَّةِ أن يُعلَمَ أنَّ الحُكمَ إنَّما وجَبَ لأجلِها، فإذا صَحَّ ذلك صَحَّ أن تَكونَ مُتَعَدِّيةً وغَيرَ مُتَعَدِّيةٍ
[1220] يُنظر: ((المقدمة في الأصول)) لابن القصار (ص: 178). .
فإذا اجتَهَدَ المُجتَهِدُ في طَلَبِ العِلَّةِ، وأدَّاه اجتِهادُه إلى أنَّ القاصِرةَ عِلَّةٌ، حَصَل الظَّنُّ بأنَّ الحُكمَ لأجلِها، وليسَ المُرادُ بصِحَّةِ التَّعليلِ بالقاصِرةِ إلَّا حُصولَ الظَّنِّ بأنَّ الحُكمَ لأجلِها، بدَليلِ صِحَّةِ المَنصوصِ عليها
[1221] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/34)، ((قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها)) لصفوان داوودي (2/808). .
وقيل: لا يَجوزُ التَّعليلُ بها. وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ
[1222] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (7/3207). ، وهو قَولُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ
[1223] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 294)، ((أصول السرخسي)) (2/158)، ((المغني)) للخبازي (ص: 294)، ((كشف الأسرار شرح المصنف على المنار)) للنسفي (2/286). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ
[1224] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 452)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2542). ، وأكثَرِ الحَنابلةِ
[1225] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/61)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1218)، ((التذكرة)) للمقدسي (ص: 628). .
وقد ذَكَرَ المُجَوِّزونَ للتَّعليلِ بالعِلَّةِ القاصِرةِ فوائِدَ، وهيَ:
أحَدُها: مَعرِفةُ المُناسَبةِ، فيَقوى الباعِثُ على الامتِثالِ؛ لأنَّ النَّفسَ أميَلُ لما ظَهَرَ لها مُناسَبَتُه.
الثَّانيةُ: مَعرِفةُ مَنعِ الإلحاقِ فيما يُتَوهَّمُ ثُبوتُه فيه بعِلَّةٍ مُتَعَدِّيةٍ أضعَفَ مِنها، كتَعليلِ طُهوريَّةِ الماءِ بالرِّقَّةِ واللَّطافةِ دونَ الإزالةِ.
الثَّالثةُ: تَقويةُ النَّصِّ؛ فإنَّ الأصلَ وإن كان ثابتًا بالنَّصِّ، فالعِلَّةُ القاصِرةُ كالدَّليلِ الثَّاني في إثباتِه.
الرَّابعةُ: أنَّ المُكَلَّفَ يَقصِدُ الفِعلَ لأجلِها، فيَحصُلُ له أجرانِ: أجرُ قَصدِ الفِعلِ للامتِثالِ، وأجرُ قَصدِ الفِعلِ لأجلِها، فيَفعَلُ المَأمورَ به لكَونِه أمرًا، وللعِلَّةِ
[1226] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/224)، ((الضياء اللامع)) لحلولو (2/326). .
خامِسًا: ألَّا تَكونَ مِن الأوصافِ التي ألغى الشَّارِعُ اعتِبارَهايُشتَرَطُ في العِلَّةِ ألَّا تَكونَ مِن الأوصافِ التي ألغى الشَّارِعُ كونَها وصفًا صالحًا لتَعليقِ الحُكمِ عليه، كأن يُضيفَ الشَّارِعُ الحُكمَ إلى وَصفٍ، ويَنوطَه به، ثُمَّ تَقتَرِنَ به أوصافٌ لا مَدخَلَ لها في التَّأثيرِ، فيَجِبُ حَذفُها عن دَرَجةِ الاعتِبارِ حتَّى يَتَّسِعَ الحُكمُ.
ومِن أمثِلةِ الوصفِ المَلغيِّ: كونُ الذي أفطَرَ في رَمَضانَ بوِقاعِ أهلِه وأوجَبَ عليه الشَّارِعُ العِتقَ أعرابيًّا، فنُلحِقُ به كُلَّ مُكَلَّفٍ أفطَرَ في رَمَضانَ بجِماعٍ، ونَحذِفُ عن دَرَجةِ الاعتِبارِ وَصفَ كَونِه أعرابيًّا واقَعَ مَنكوحَتَه في رَمَضانَ مُعَيَّنٍ وفي يَومٍ مُعَيَّنٍ مِنه؛ إذ مِنْ عَادةِ الشَّرعِ ألَّا يلتفتَ إلى مِثلِ هذهِ الأوصَافِ
[1227] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 282). .