موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّاني: أركانُ الحُكمِ الشَّرعيِّ


أركانُ الحُكمِ الشَّرعيِّ أربعةٌ:
الرُّكنُ الأوَّلُ: الحاكِمُ، وهو الذي أصدَرَ الحُكمَ.
والحاكِمُ هو اللهُ تَبارَك وتعالى؛ فهو المُشَرِّعُ للأحكامِ، وهو الموجِبُ لَها باتِّفاقٍ؛ ولذا وضَعَ عُلَماءُ الأُصولِ القاعِدةَ المَشهورةَ "لا حُكمَ إلَّا للَّهِ" [45] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 78)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/ 338)، ((جمع الجوامع)) (ص: 13)، ((رفع الحاجب)) (1/ 482) كلاهما لابن السبكي، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 139)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 28). .
واستَدَلُّوا على ذلك بأدِلَّةٍ كثيرةٍ؛ مِنها قَولُ اللهِ تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ [الأنعام: 57] ، وقَولُه سُبحانَه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة: 49] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47] إلى غيرِ ذلك [46] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 447- 450). .
الرُّكنُ الثَّاني: المَحكومُ عليه، وهو المُكلَّفُ الذي يَتَعَلَّقُ الحُكمُ به [47] وسيأتي تفصيلُ الكلامِ عن شُروطِ المكَلَّفِ وموانِعِ التَّكليفِ. .
الرُّكنُ الثَّالِثُ: المَحكومُ به، وهو فِعلُ المُكلَّفِ الذي يَكونُ الحُكمُ وصفًا لَه، ويُعَبَّرُ عنه أيضًا بالمَحكومِ فيه.
ففي قَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، نَجِدُ الإيجابَ المُستَفادَ مِن هذا الخِطابِ والمُتَعَلِّقَ بفِعلٍ مِن أفعالِ المُكلَّفينَ، هو: الإيفاءُ بالعُقودِ، فجَعَلَه واجِبًا.
وفي قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ [الأنعام: 151] ، نَجِدُ التَّحريمَ المُستَفادَ مِن هذا الخِطابِ والذي تَعَلَّقَ بفِعلٍ مِن أفعالِ المُكلَّفينَ هو: قَتلُ النَّفسِ، فجَعَلَه مُحَرَّمًا.
وفي قَولِ اللهِ سُبحانَه: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] ، نَجِدُ الخِطابَ قَد تَعَلَّق بالمَرَضِ والسَّفَرِ، فجَعَلَ كُلًّا مِنهما مُبيحًا للفِطرِ.
فكُلُّ حُكمٍ مِن الأحكام الشرعية لا بُدَّ مِن تَعَلُّقِه بفِعلٍ مِن أفعالِ المُكلَّفينَ على جِهةِ الطَّلَبِ، أوِ التَّخييرِ، أوِ الوَضعِ.
ومِنَ المُقَرَّرِ أنَّه لا تَكليفَ إلَّا بفِعلٍ، أي: أنَّ حُكمَ الشَّارِع التَّكليفيَّ لا يَتَعَلَّقُ إلَّا بفِعلِ المُكلَّفِ، فإذا كان حُكمُ الشَّارِعِ إيجابًا أو نَدبًا فالأمرُ واضِحٌ، فالتَّكليفُ في الحالَتينِ بفِعلٍ. وإذا كان حُكمُ الشَّارِعِ تَحريمًا أو كراهةً فالمُكلَّفُ به في الحالَتينِ فِعلٌ أيضًا؛ لأنَّه كفُّ النَّفسِ عن فِعلِ المُحَرَّمِ أوِ المَكروهِ، والكف فعل، فمَعنى قَولِهم: "لا تَكليفَ إلَّا بفِعلٍ" أنَّ الفِعلَ يَشمَلُ الكَفَّ، أي: المَنعَ للنَّفسِ عن فِعلٍ، وبهذا تَكونُ جَميعُ الأوامِرِ والنَّواهي مُتَعَلِّقةً بأفعالِ المُكلَّفينَ، ففي الأوامِرِ: المُكلَّفُ به: فِعلُ المَأمورِ به، وفي النَّواهي: هو الكفُّ عنِ المَنهيِّ عنه [48] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص:127، 128). وللفِعلِ الذي يصِحُّ التَّكليفُ به شرعًا شروطٌ سيأتي تفصيلُها. .
الرُّكنُ الرَّابعُ: الحُكمُ الذي صَدَرَ مِنَ الحاكِمِ على المَحكومِ عليه ليُبيِّنَ صِفةَ فِعلِ المُكلَّفِ [49] سبَق تعريفُ الحُكمِ، وسيأتي الكلامُ عنه تفصيلًا. .
فالحُكمُ الشَّرعيُّ يَتَناولُ أربَعةَ أشياءَ؛ هي: الحُكمُ، والحاكِمُ، والمَحكومُ فيه، والمَحكومُ عليه [50] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 66)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 25)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 96)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 285). .

انظر أيضا: