موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّادِسُ: استِعمالُ [144] الفَرقُ بَينَ الاستِعمالِ والحَملِ والوضعِ: أنَّ الاستِعمالَ: هو إطلاقُ اللَّفظِ وإرادةُ عَينِ مُسَمَّاه بالحُكمِ، وهو الحَقيقةُ، أو غَيرِ مُسَمَّاه لعَلاقةٍ بَينَهما، وهو المَجازُ، وهو مِن صِفاتِ المُتَكَلِّمِ. والحَملُ: اعتِقادُ السَّامِعِ مُرادَ المُتَكَلِّمِ مِن لَفظِه، أو ما اشتَمَلَ عليه مُرادُه، وهو مِن صِفاتِ السَّامِعِ، فالمُرادُ كاعتِقادِ المالِكيِّ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه أرادَ بالقُرءِ: الطُّهرَ، والحَنَفيُّ يَقولُ: إنَّ اللَّهَ سُبحانَه أرادَ الحَيضَ، والمُشتَمِلُ نَحوُ حَملِ الشَّافِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه اللَّفظَ المُشتَرَكَ على جُملةِ مَعانيه عِندَ تَجَرُّدِه عنِ القَرائِنِ؛ لاشتِمالِه على مُرادِ المُتَكَلِّمِ احتياطًا. والوضعُ: جَعلُ اللَّفظِ دليلًا على المَعنى، كتَسميةِ الولَدِ زَيدًا، وهذا هو الوضعُ اللُّغَويُّ، وعلى غَلَبةِ استِعمالِ اللَّفظِ في المَعنى حتَّى يَصيرَ أشهَرَ فيه مِن غَيرِه، وهذا هو وضعُ المَنقولاتِ الثَّلاثةِ: الشَّرعيِّ، نَحوُ الصَّلاةِ، والعُرفيِّ العامِّ، نَحوُ الدَّابَّةِ، والعُرفيِّ الخاصِّ، نَحوُ الرَّفعِ والنَّصبِ عِندَ النُّحاةِ. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 20)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 173). المُشتَرَكِ في جَميعِ مَعانيه


إذا لم توجَدْ قَرينةٌ تُرَجِّحُ أحَدَ مَعاني المُشتَرَكِ، فهَل يَصِحُّ أن يُرادَ باللَّفظِ المُشتَرَكِ كُلُّ واحِدٍ مِن مَعنَيَيه أو مَعانيه بإطلاقٍ واحِدٍ، بحَيثُ يَتَعَلَّقُ الحُكمُ بكُلِّ واحِدٍ منها، أو لا؟ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ.
والرَّاجِحُ: أنَّ المُشتَرَكَ يَعُمُّ، بمَعنى: أنَّه يَجوزُ أن يُرادَ مِنَ المُشتَرَكِ جَميعُ مَعانيه بطَريقِ الحَقيقةِ، بشَرطِ أن لا يَمتَنِعَ الجَمعُ بَينَها لأمرٍ خارِجٍ، كما في الضِّدَّينِ والنَّقيضَينِ.
فإن كانا مُتَناقِضَينِ لا يَتَحَقَّقُ اجتِماعُهما فلا يَجوزُ إرادَتُهما باللَّفظِ الواحِدِ. وكُلُّ مَعنَيَينِ غَيرِ مُتَناقِضَينِ يُنبِئُ اللَّفظُ عن كُلِّ واحِدٍ مِنهما، فتَجوزُ إرادَتُهما باللَّفظِ وإن أُطلِق مَرَّةً واحِدةً. وكما يَجوزُ إرادةُ مَعنَيَينِ بلَفظٍ واحِدٍ وُضِع لهما حَقيقةً، فكذلك يَجوزُ إرادةُ مَعنيَينِ بلَفظٍ يَكونُ حَقيقةً في أحَدِهما ومَجازًا في الثَّاني [145] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (1/231)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/652)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 176). .
وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ [146] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/121)، ((المنخول)) للغزالي (ص: 219)، ((المنهاج)) للبيضاوي (ص: 88). لَكِن قال ابنُ القَيِّمِ: (ما حُكيَ عنِ الشَّافِعيِّ رَحِمَه اللهُ مِن تَجويزِه ذلك، فليس بصحيحٍ عنه، وإنَّما أُخِذَ مِن قَولِه: "إذا أوصى لمَواليه ولَه مَوالٍ مِن فوقٍ ومِن أسفَلَ، تَناوَلَ جَميعَهم"، فظَنَّ مَن ظَنَّ أنَّ لَفظَ المَولى مُشتَرَكٌ بَينَهما، وأنَّه عِندَ التَّجَرُّدِ يُحمَلُ عليهما، وهذا ليس بصحيحٍ؛ فإنَّ لَفظَ المَولى مِنَ الألفاظِ المُتَواطِئةِ؛ فالشَّافِعيُّ في ظاهرِ مَذهَبِه وأحمدُ يَقولانِ بدُخولِ نَوعَيِ المَوالي في هذا اللَّفظِ، وهو عِندَه عامٌّ مُتَواطِئٌ لا مُشتَرَكٌ وأمَّا ما حُكيَ عنِ الشَّافِعيِّ رَحِمَه اللهُ أنَّه قال في مُفاوضةٍ جُرَت له في قَولِه: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ وقد قيلَ له: قد يُرادُ بالمُلامَسةِ المُجامَعةُ، قال: هيَ مَحمولةٌ على الجَسِّ باليَدِ حَقيقةً، وعلى الوِقاعِ مَجازًا، فهذا لا يَصحُّ عنِ الشَّافِعيِّ، ولا هو مِن جِنسِ المَألوفِ مِن كَلامِه، وإنَّما هذا مِن كَلامِ بَعضِ الفُقَهاءِ المُتَأخِّرينَ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 160). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [147] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/242)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدبن الهندي (1/233). ، ونَقَلَه إمامُ الحَرَمَينِ عنِ المُحَقِّقينَ وجَماهيرِ الفُقَهاءِ [148] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (1/232). ، وعَزاه ابنُ تَيميَّةَ إلى أكثَرِ الفُقَهاءِ [149] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (13/341). .
قال الشِّنقيطيُّ: (أصَحُّ الأقوالِ عِندَ الأُصوليِّينَ -كما حَرَّرَه أبو العَبَّاسِ بنُ تيميَّةَ رَحِمَه اللهُ في رِسالَتِه في عُلومِ القُرآنِ، وعَزاه لأجِلَّاءِ عُلَماءِ المَذاهِبِ الأربَعةِ- هو جَوازُ حَملِ المُشتَرَكِ على مَعنَيَيه أو مَعانيه، فيَجوزُ أن تَقولَ: عَدا اللُّصوصُ البارِحةَ على عَينِ زَيدٍ، وتَعني بذلك أنَّهم عَوَّروا عَينَه الباصِرةَ، وغَوَّروا عَينَه الجاريةَ، وسَرَقوا عَينَه التي هيَ ذَهَبُه أو فِضَّتُه) [150] ((أضواء البيان)) (6/91). .
الأدِلَّةُ:
1- الوُقوعُ؛ فقد وقَعَ في نُصوصِ القُرآنِ الكَريمِ، ومِن ذلك: قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ [الأحزاب: 56] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الصَّلاةَ مِنَ اللهِ تعالى الرَّحمةُ، ومِنَ المَلائِكةِ الاستِغفارُ، وهما مَفهومانِ مُتَغايِرانِ، فيَكونُ لَفظُ (الصَّلاةِ) مُشتَرَكًا بَينَهما، وقد عَمَّ فيهما؛ حَيثُ أُطلِقَ عليهما دفعةً واحِدةً؛ فإنَّه أسنَدَها إليه تعالى، وإلى المَلائِكةِ [151] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/194)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/241)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/662). قال ابنُ القَيِّمِ: (وهذه الصَّلاةُ لا يَجوزُ أن تَكونَ هيَ الرَّحمةَ، وإنَّما هيَ ثَناؤُه سُبحانَه وثَناءُ مَلائِكَتِه عليه، ولا يُقالُ: الصَّلاةُ لَفظٌ مُشتَرَكٌ، ويَجوزُ أن يُستَعمَلَ في مَعنَيَيه مَعًا؛ لأنَّ في ذلك مَحاذيرَ مُتَعَدِّدةً)، ثُمَّ ذَكَرَها، ثُمَّ قال: (فإذا كان مَعنى الصَّلاةِ هو الثَّناءَ على الرَّسولِ والعِنايةَ به وإظهارَ شَرَفِه وفضلِه وحُرمَتِه، كما هو المَعروفُ مِن هذه اللَّفظةِ، لَم يَكُنْ لَفظُ الصَّلاةِ في الآيةِ مُشتَرَكًا مَحمولًا على مَعنَيَيه، بَل قد يَكونُ مُستَعمَلًا في مَعنًى واحِدٍ، وهذا هو الأصلُ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 160). .
2- أنَّه لا يَمتَنِعُ إرادةُ المَعنيَيَنِ قَبلَ التَّلَفُّظِ به، أو عِندَ التَّلَفُّظِ به مَرَّتَينِ، أو عِندَ القَرينةِ المُعيِّنةِ لهما، فوجَبَ أن لا يَمتَنِعَ أيضًا عِندَ التَّلَفُّظِ مَرَّةً واحِدةً؛ لأنَّ وُجودَ اللَّفظِ وإيجادَه لا يُحيلانِ ما كان مُمكِنًا [152] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/243). .
3- أنَّه لَو لَم يَعُمَّ: فإمَّا أن يُحمَلَ على أحَدِها بعَينِه، وهو تَرجيحٌ بغَيرٍ مُرَجِّحٍ، أو لا يُحمَلَ على شَيءٍ منها، وفيه إهمالٌ للَّفظِ، وتَعطيلٌ له، وهو على خِلافِ الأصلِ؛ فتَعَيَّن التَّعميمُ [153] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/194). .
وقيلَ: لا عُمومَ للمُشتَرَكِ، فلا يَجوزُ أن يُرادَ مِنَ المُشتَرَكِ إلَّا واحِدٌ مِن مَعانيه. وهو قَولُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [154] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 343)، ((كشف الأسرار)) للنسفي (1/202). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [155] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/121)، ((المحصول)) للرازي (1/269)، ((الإحكام)) للآمدي (2/242)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/387). ، وغَيرِهم [156] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (1/233)، ((الإحكام)) للآمدي (2/242)، ((المنهاج)) للبيضاوي (ص: 88)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/235)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 160). .
وقيلَ: بالتَّفريقِ بَينَ النَّفيِ والإثباتِ، فيَجوزُ في النَّفيِ دونَ الإثباتِ، والفَرقُ بَينَهما أنَّ النَّكِرةَ في سياقِ النَّفيِ تَعُمُّ، فيَجوزُ إرادةُ مَدلولاتِه المُختَلِفةِ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [157] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/242)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/389)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 176). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ كَثيرٌ مِنَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- لَمسُ المَرأةِ:
فيوجِبُ نَقضُ الوُضوءِ عِندَ الشَّافِعيِّ، وكذلك الجِماعُ؛ لقَولِ اللهِ تعالى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء: 43] ، فحَمَل اللَّمسَ على حَقيقَتِه ومَجازِه مَعًا؛ بناءً على استِعمالِ اللَّفظِ في مَعنَيَيه.
وعِند أبي حَنيفةَ: لا يَنتَقِضُ الوُضوءُ بلَمسِ المَرأةِ؛ لأنَّ المُرادَ باللَّمسِ في الآيةِ (الجِماعُ)، وهو المَعنى المَجازيُّ، ولا يُمكِنُ عِندَه حَملُ اللَّفظِ على حَقيقَتِه ومَجازِه مَعًا. فقَصَرَه على مَعناه المَجازيِّ [158] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (ص: 173)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 69)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/391). .
2- تَخييرُ أولياءِ الدَّمِ بَينَ القِصاصِ والدِّيةِ في القَتلِ العَمدِ العُدوانِ:
قال اللهُ تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء: 33] .
ولَفظُ (السُّلطانِ) مُشتَرَكٌ بَينَ القِصاصِ والدِّيةِ.
فعِندَ الجُمهورِ: موجِبُ القَتلِ العَمدِ هو: التَّخييرُ بَينَ القِصاصِ والدِّيةِ؛ لأنَّ السُّلطانَ يَحتَمِلُ الدِّيةَ والقِصاصَ، فخَيَّرَ الشَّافِعيَّةُ بَينَهما، وأثبَتوا وَصفَ الوُجوبِ لكُلِّ واحِدٍ مِنهما، وذلك بناءً على عُمومِ المُشتَرَكِ عِندَهم.
وعِندَ الحَنَفيَّةِ: يُحمَلُ (السُّلطانُ) على القِصاصِ عَينًا، فيَجِبُ القِصاصُ، ولا يُعدَلُ عنه إلى الدِّيةِ إلَّا برِضا الجاني؛ لأنَّه لا عُمومَ للمُشتَرَكِ عِندَهم [159] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 314)، ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 234). .
3- حُكمُ سُجودِ التِّلاوةِ:
ورَدَ الأمرُ بالسُّجودِ في قَولِ اللهِ تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 62] .
قال ابنُ حَجَرٍ: (حَملُ الأمرِ في قَولِه: اسْجُدُوا على النَّدبِ، أو على أنَّ المُرادَ به سُجودُ الصَّلاةِ، أو في الصَّلاةِ المَكتوبةِ على الوُجوبِ، وفي سُجودِ التِّلاوةِ على النَّدبِ؛ على قاعِدةِ الشَّافِعيِّ ومَن تابَعَه في حَملِ المُشتَرَكِ على مَعنَيَيه) [160] ((فتح الباري)) (2/557). .

انظر أيضا: