موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ السَّابِعةُ: البَيانُ بالقَرائِنِ


القَرينةُ: ما لا يَبقى مَعَها احتِمالٌ، وتَسكُنُ النَّفسُ عِندَه مِثلَ سُكونِها إلى الخَبَرِ المُتَواتِرِ أو قَريبًا مِنه [613] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/138). .
والقَرينةُ إمَّا لَفظيَّةٌ، وإمَّا سياقيَّةٌ، وإمَّا خارِجيَّةٌ [614] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 453)، ((البيان بالترك)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 68). . وفيما يَلي بَيانُها:
أوَّلًا: القَرينةُ اللَّفظيَّةُ
مِثالُها: في قَولِ اللهِ تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] ، وهو أنَّ القُرءَ إذا جُمِعَ على قُروءٍ فالمُرادُ به الطُّهرُ، والجَمعُ قد يَختَلِفُ باختِلافِ المَعاني، وإن كان اللَّفظُ المُفرَدُ مُشتَرَكًا، وذلك مِثلُ الأمرِ، فهو مُشتَرَكٌ بَينَ القَولِ المَخصوصِ، فيَكونُ جَمعُه أوامِرَ، وبَينَ الفِعلِ، فيَكونُ جَمعُه أُمورًا.
ومِن ذلك قَولُ المالِكيَّةِ: الأطهارُ مُذَكَّرةٌ، فيَجِبُ ذِكرُ التَّاءِ في العَدَدِ المُضافِ إليها، فيُقالُ: ثَلاثةُ أطهارٍ، والحَيضُ مُؤَنَّثةٌ، فيَجِبُ حَذفُ التَّاءِ مِنَ العَدَدِ المُضافِ إليها، فيُقالُ: ثَلاثُ حِيَضٍ، ولمَّا قال اللهُ تعالى: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ بالتَّاءِ، عَلِمنا أنَّه أرادَ الأطهارَ [615] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 453)، ((البيان بالترك)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 68). .
ثانيًا: القَرينةُ السِّياقيَّةُ
قَرينةُ السِّياقِ هيَ ما يُؤخَذُ مِن لاحِقِ الكَلامِ الدَّالِّ على خُصوصِ المَقصودِ أو سابِقِه [616] يُنظر: ((حاشية العطار)) (1/30). .
ومِثالُ القَرينةِ السِّياقيَّةِ [617] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 454)، ((البيان بالترك)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 69). : احتِجاجُ الحَنَفيَّةِ وبَعضِ المالِكيَّةِ على جَوازِ انعِقادِ النِّكاحِ بلَفظِ الهِبةِ، بقَولِ اللهِ تعالى: وَامْرَأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبيِّ [الأحزاب: 50] ، وإذا جازَ انعِقادُ نِكاحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلَفظِ الهِبةِ جازَ انعِقادُ أنكِحةِ الأُمَّةِ به؛ قياسًا عليه.
فقال الشَّافِعيَّةُ: لَمَّا قال اللهُ تعالى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 50] دَلَّ ذلك على اختِصاصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشَيءٍ دونَ المُؤمِنينَ، فيَحتَمِلُ أن يَكونَ ذلك الشَّيءُ هو جَوازَ النِّكاحِ بلا مَهرٍ، ويَحتَمِلُ أن يَكونَ ذلك جَوازَ انعِقادِ نِكاحِه بلَفظِ الهِبةِ، وإذا كان اللَّفظُ محتَمِلًا للمَعنيَيَنِ لَم يَصحَّ القياسُ حتَّى يَتَرَجَّحَ أنَّ المُرادَ بالِاختِصاصِ هو مِلكُ البُضعِ مِن غَيرِ عِوَضٍ، لا جَوازُ النِّكاحِ بلَفظِ الِهبةِ.
فيَقولُ الأوَّلونَ: سياقُ الآيةِ يُرَجِّحُ أنَّ المُرادَ مِلكُ البُضعِ، وذلك أنَّ الآيةَ سيقَت لبَيانِ شَرَفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أُمَّتِه ونَفيِ الحَرَجِ عنه؛ ولذلك قال اللهُ تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 50] ، ولا شَكَّ أنَّ الشَّرَفَ لا يَحصُلُ بإباحةِ لَفظٍ له وحَجرِه على غَيرِه؛ إذ ليس في ذلك شَرَفٌ، بَل إنَّما يَحصُلُ الشَّرَفُ بإسقاطِ العِوَضِ عنه حتَّى يَكونَ اللَّهُ تعالى ذَكَر لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَلاثةَ أنواعٍ مِنَ الإحلالاتِ:
1- إحلالُ نِكاحٍ بمَهرٍ، وهو قَولُ الله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.
2- إحلالٌ بمِلكِ اليَمينِ، وهو قَولُ الله تعالى: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ.
3- إحلالٌ بلا مَهرٍ، بَل بتَمليكٍ مُجَرَّدٍ، وهو قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ.
وأيضًا فالحَرَجُ المَقصودُ نَفيُه مِنَ الآيةِ إنَّما يَكونُ بإيجابِ العِوَضِ عليه لا بحَجرِ لَفظٍ عليه يُؤَدِّي المَعنى المَطلوبَ دونَه ألفاظٌ كَثيرةٌ أسهَلُ مِنه.
فهذا السِّياقُ كُلُّه يَدُلُّ عِندَهم على أنَّ المُرادَ بالخُلوصِ هو: مِلكُ البُضعِ مِن غَيرِ مَهرٍ، لا اللَّفظُ، وبناءً على ذلك كُلِّه يَجوزُ انعِقادُ النِّكاحِ بلَفظِ الهِبةِ.
ثالِثًا: القَرينةُ الخارِجيَّةُ
وهيَ موافَقةُ أحَدِ المَعنَيَينِ لدَليلٍ مُنفصِلٍ مِن نَصٍّ أو قياسٍ أو عَمَلٍ، وفيما يَلي أمثِلةٌ لذلك [618] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 456)، ((البيان بالترك)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 71). :
1- مِثالُ مُوافقَتِه لنَصٍّ: إذا قال المالِكيَّةُ: المُرادُ بالقُروءِ الأطهارُ، والدَّليلُ عليه قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] ، فأمَرَ بطَلاقِهنَّ طَلاقًا يَستَعقِبُ عِدَّتَهنَّ ولا تَتَراخي العِدَّةُ عنه، وليس ذلك إلَّا في الطُّهرِ لا في الحَيضِ؛ فإنَّ الطَّلاقَ في الحَيضِ حَرامٌ.
والحَنَفيَّةُ يُرَجِّحونَ احتِمالَهم بقَرينةٍ خارِجيَّةٍ أيضًا، فيَقولونَ: قال اللهُ تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4] ، فجَعَلَ الأشهُرَ بدلًا عنِ الحَيضِ لا عنِ الأطهارِ، فدَلَّ أنَّ الحَيضَ أصلٌ في العِدَّةِ، كما قال اللهُ تعالى في التَّيَمُّمِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء: 43] ، فعَلِمنا أنَّ الماءَ هو الأصلُ، وأنَّ الصَّعيدَ بَدَلٌ عنه.
2- مِثالُ موافقَتِه لقياسٍ: قَولُ المالِكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ: إنَّ العِدَّةَ لمَّا كانت مَأمورًا بها كانت عِبادةً مِنَ العِباداتِ، والشَّأنُ في العِبادةِ أنَّ الحَيضَ يُنافيها، ولا تَتَأدَّى فيه، فضلًا عن أن تَتَأدَّى به، فالصَّلاةُ والصِّيامُ والطَّوافُ لا تَصِحُّ مَعَ الحَيضِ بخِلافِ الطُّهرِ، فالقياسُ يَقتَضي في العِدَّةِ أنَّها تَتَأدَّى بالطُّهرِ لا بالحَيضِ، وإذا كان كذلك وجَبَ حَملُ القُروءِ في الآيةِ على الأطهارِ لا على الحَيضِ.
والحَنَفيَّةُ يُرَجِّحونَ احتِمالَهم أيضًا بقياسٍ آخَرَ، وهو أنَّ القَصدَ مِنَ العِدَّةِ استِبراءُ الرَّحِمِ، والعَلامةُ الدَّالَّةُ على بَراءةِ الرَّحِمِ في العادةِ إنَّما هيَ الحَيضُ لا الطُّهرُ؛ فإنَّ الطُّهرَ تَشتَرِكُ فيه الحامِلُ وغَيرُ الحامِلِ، والحَيضُ إنَّما هو في الغالِبِ مُختَصٌّ بغَيرِ الحامِلِ؛ ولذلك كان الاستِبراءُ بالحَيضِ لا بالطُّهرِ، وإذا كان كذلك وجَبَ حَملُ القُروءِ في الآيةِ على الحَيضِ لا على الأطهارِ.
3- مِثالُ مُوافقَتِه لعَمَلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم: احتِجاجُ العُلَماءِ على وُجوبِ غَسلِ الرِّجلَينِ بقَولِ اللهِ تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ [المائِدة: 6] بالنَّصبِ، فيَكونُ مَعطوفًا على قَولِه: وُجُوهَكُمْ وَأَيْديَكُمْ. ولَم يُنقَلْ عنِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ إلَّا الغَسلُ، فكان ذلك دليلًا على أنَّ المُرادَ بقَولِه تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ الغَسلُ.

انظر أيضا: