المَعنَى الإجماليُّ :
يُخبِر اللهُ تبارَك وتعالَى عمَّن آتاهم نَصيبًا من الكتاب, وحظًّا من العِلم، وهم اليهود، بأنَّهم حين يُدْعَون إلى التَّحاكُم إلى ذلك الكتاب، الَّذي يُصدِّقون به، ويُؤمنون بحُكمه, وتَطمئنُّ قلوبُهم لِما فيه- يتولَّى فريق منهم, ويُعرِض عن كتابِ الله, ويُدبِر عمَّا فيه, والسَّببُ وراء ذلك الإعراضِ والتَّولِّي والتَّجرُّؤِ على مَعصيةِ الله هو أنَّهم قالوا: لن نُعذَّب في النَّارِ إلَّا أيَّامًا معدودة, وأوقاتًا محدودة, ثمَّ يُخرجنا اللهُ تبارَك وتعالَى منها, فكان هذا الافتراءُ والكذبُ المحضُ الَّذي جاؤوا به من عندِ أنفسهم هو الَّذي غرَّهم في دِينِهم, وأعْمَى قلوبَهم, وأضلَّهم عن سواء الصِّراطِ.
ثمَّ هدَّدهم اللهُ تبارَك وتعالَى وتَوعَّدهم بيومِ الجمْع؛ إذ كيف يكونُ حالُهم يوم يجمعُ الله الأوَّلين والآخرين, ويُوفيِّهم جزاءَهم على ما صنَعوا واقترفوا, في ذلك اليوم الَّذي تُوفَّى فيه كلُّ نفسٍ ما عمِلت من خير أو شرٍّ, وتُجزَى على جميعِ أفعالها وأقوالها دون نقصٍ ولا زيادة, ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا؟!
تفسير الآيات:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نبَّه اللهُ تعالى على عِنادِ القومِ بقوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] ، بَيَّن في هذه الآيةِ غايةَ عنادِهم، وهو أنَّهم يُدْعَون إلى الكتابِ الَّذي يزعُمونَ أنَّهم يؤمنون به، وهو التَّوراةُ، ثمَّ إنَّهم يتمرَّدون، ويتولَّوْن، وذلك يدُلُّ على غايةِ عنادهم يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/178). .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
أي: ألم ترَ- يا محمَّدُ- إلى اليهودِ الَّذين أُعطُوا حظًّا من العِلم بالتَّوراة ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/295)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/424)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/209). .
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
أي: يُدْعَون إلى التَّوراةِ لتحكُمَ بينهم يحتمل أنْ يكون المرادُ: يَحكُم بينهم في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ويحتمل أنْ يكون تنازُعهم الذي دُعوا إلى حُكم التوراة فيه، هو أمْر نُبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ويحتمل أنْ يكون المراد إبراهيم خليل الرحمن ودِينه، ويحتمل أنْ يكون ذلك ما دُعوا إليه من أمر الإسلام، والإقرار به، ويحتمل أنْ يكون ذلك التنازُع في حدٍّ؛ فإنَّ كلَّ ذلك ممَّا قد نازعوا فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فدَعاهم فيه إلى حُكم التوراة. وأيًّا ما كان فإنَّ المعنى الذي دُعِي إليه حمَلَةُ التوراة هو ممَّا قد وجَب عليهم في دِينهم الإجابةُ إليه، فامتنعوا منه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/295). ؛ فهم يُقرُّون ويُصدِّقون بها ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/295). .
ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ
أي: يَستدبرُ فريقٌ خصَّ الله تعالى بالتولي فريقًا دون الكلِّ؛ لأنَّ منهم مَن لم يتولَّ كابن سَلَام وغيره. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/416). منهم عن كتابِ الله مُعرِضًا عنه مُنصرِفًا ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/296). يجوزُ أنْ يَعني بالتولِّي تولِّي فريقٍ من الذين أُوتوا نصيبًا من الكتاب، وبالإِعراض جماعتهم، ويجوز أن يكون التولي والإِعراضُ جميعًا للفريق، فيكون معنى التولي عنه ترْكَ موالاته، والإعراضُ يكون بالبدن؛ وذلك لئلَّا يحتجَّ عليهم إذا حَضروا فيلزمهم حُجَّة. ((تفسير الراغب)) (2/484)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/424) وقيل: تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 126). قال الماوردي: (فإن قيل: التولِّي عن الشيء هو الإعراض عنه , قيل: معناه يتولَّى عن الداعي ويعرض عمَّا دُعِيَ إليه). ((تفسير الماوردي)) (1/383). .
عن عبدِ اللهِ بن عمرُ رضِي اللهُ عنهما أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَروا له أنَّ رجلًا منهم وامرأةً زَنَيَا، فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما تجِدون في التَّوراةِ في شأنِ الرَّجْمِ؟، فقالوا: نفضَحُهم ويُجْلَدُون، فقال عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: كذَبْتُم، إنَّ فيها الرَّجْمَ، فأتَوْا بالتَّوراةِ فنشَروها، فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرَّجْمِ، فقَرأَ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: ارفعْ يدَك، فرَفَعَ يدَه، فإذا فيها آيةُ الرَّجْمِ، فقالوا: صدَقَ أي: صدَقَ عبدُ الله بنُ سَلَام. يا محمدُ؛ فيها آيةُ الرَّجْمِ، فأمَرَ بهما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فرُجِمَا )) رواه البخاري (3635) ومسلم (1699). وبعضُهم جعَل هذه القصَّةَ سببًا لنزول الآيةِ. يُنظر: ((تفسير الراغب)) (2/481)، ((تفسير الرازي)) (7/178)، ((العجاب في بيان الأسباب)) لابن حجر (2/674). .
وذكَر الله تعالى سبب إعراضِهم فقال:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
أي: ذلك التَّولِّي والإعراضُ بسبب قولِهم: لن نُعذَّبَ في النَّار إلَّا أيَّامًا قلائلَ، ثمَّ يُخرِجنا منها ربُّنا ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/296)، ((تفسير ابن عطية)) (1/416)، ((تفسير ابن كثير)) (2/28)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/147). .
عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لليهود: مَن أهلُ النَّارِ؟ فقالوا: نكونُ فيها يسيرًا، ثمَّ تَخْلُفُوننا فيها، فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((اخسَؤوا فيها، واللهِ لا نَخْلُفُكم فيها أبدًا )) أخرجه البخاري (3169). .
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
أي: ثَبَّتَهم على دِينِهم الباطل ما خدَعوا به أنفسَهم مِن زعمِهم أنَّ النَّارَ لن تمسَّهم إلَّا أيَّامًا معدوداتٍ، وادِّعائِهم أنَّهم أبناءُ الله وأحبَّاؤُه، إلى غيرِ ذلك، وهم الَّذين افتَرَوْا هذا مِن تلقاءِ أنفسِهم واختَلَقوه ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/425)، ((تفسير ابن كثير)) (2/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/148). .
ثمَّ قال الله تعالى مُتهدِّدًا لهم ومتوعِّدًا:
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ
أي: فكيفَ يكونُ حالُهم مع ما صنَعوا إذا جمَعَهم اللهُ للفصلِ اللَّام في قوله: لِيَوْمٍ قيل: بمعنى (في)؛ قاله الكسائي، وقيل: المعنى (لحساب يوم)؛ قاله البصريُّون، وقيل: (لِمَا يَحدُث في يوم)، أو (لِمَا يكون في يوم)؛ قاله ابن جرير. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (4/51). بينهم، ولحسابِهم في يومٍ لا شكَّ في مجيئِه ووقوعِه، وهو يومُ القيامة؟! وما أعظَمَ ما يلقَوْنَ من عقوبةٍ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/298)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/425)، ((تفسير ابن كثير)) (2/28)، ((تفسير السعدي)) (ص: 126). وقوله: لَا رَيْبَ فِيهِ إمَّا أنَّه خبر بمعنى النهي؛ والمعنى: لا تَرتابوا فيه، أو أنَّه خبرٌ على حقيقته. ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/151). !
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
أي: وأَعْطَى اللهُ كلَّ نفسٍ جزاءَ ما عمِلَتْ من الخيرِ أو الشَّرِّ كاملًا وافيًا ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/425, ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/152). .
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
أي: لا يُنقَصُ أحدٌ من حَسناتِه، ولا يُزاد في سيِّئاتِه، أو يُعاقَبُ بغير جُرمِه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/299)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/425), ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/152). .
كما قال تعالى: ولاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف: 49] ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه: 112] .
وفي الحديثِ القُدسيِّ الذي راوه أبو ذرٍّ الغفاريُّ رضِي اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فيما روَى عن اللهِ تبارَك وتعالَى أنَّهُ قال: ((يا عِبادي، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسِي ...)) أخرجه مسلم (2577). .
الفوائد التربوية :
1- في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ قد يُعطى عِلمًا، إلَّا أنَّه لا يوفَّق للعمل به يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/145). .
2- في قوله: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ تحذيرٌ مِن التَّولِّي والإعراضِ عند الدَّعوةِ إلى التَّحاكُمِ إلى كتاب الله, بل الواجبُ على كلِّ أحدٍ إذا دُعِيَ إلى ذلك أنْ يسمَعَ ويُطيعَ وينقادَ، فلا يمكن أنْ يحتويَ قلبُ امرئٍ على الخوف من الآخرةِ والحياءِ من الله، ثمَّ يُعرِض عن الاحتكامِ إلى كتابِ الله، وتحكيمِه في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياةِ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 126). .
3- يُؤخَذُ من قوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ بُطلانُ الأمانيِّ، وأنَّ النَّفْس قد تُمنِّي الإنسانَ ما لا يكون؛ لذا يجبُ على الإنسان الحَذرُ من الاتِّكالِ على الأمانيِّ؛ فإنَّ هذا الخُلُقَ سِمةٌ من سِمات اليهود والنَّصارى يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/148). .
4- في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران: 24] ، دلالةٌ على أنَّ اعتقادَ النَّجاةِ مِن عذابِ الله تعالى على كلِّ حال يحملُ المرءَ على الجُرأة على الإعراض عن الحقِّ، كما أنَّ هذا الاعتقادَ مُؤذِنٌ بسَفالة الهمَّة الدِّينيَّة، فلا تحصُلُ المنافسةُ في تزكية النَّفْس يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/211). .
5- في قوله تعالى: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ بيانُ أنَّ الاغترار بالعمل قصورٌ في النَّظر؛ لأنَّه ليس الشَّأنُ هو القيامَ بالعمل، بل الشَّأنُ كلُّ الشَّأن أنْ يُقبَلَ منه العمل, فكم مِن عاملٍ ليس له مِن عملِه إلَّا التَّعبُ؛ لوجود مُبطِلٍ سابقٍ أو لاحقٍ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/150). .
6- من قوله تعالى: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ يتَّضح أنَّ المخالفةَ إذا لم تكُن عن غرورٍ، فالإقلاعُ عنها مَرجوٌّ، أمَّا المغرورُ فلا يُترقَّبُ منه إقلاع يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/211). .
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بيانُ أنَّ الحُكم في كتاب الله يَشمَلُ كلَّ شيءٍ مِن عباداتٍ ومعاملات وأخلاق؛ لأنَّه لم يخصَّص منها شيءٌ, وفي هذا ردٌّ على مَن يزعم أنَّ الشَّرعَ إنَّما جاء في تنظيمِ العبادات فقط، أمَّا المعاملاتُ فهي إلى الخَلْق يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/145). .
2- عبَّر بالقولِ عن مُعتقَدِهم فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ولم يقُل: (اعتقدوا)؛ قيل للدَّلالة على أنَّ هذا الاعتقادَ لا دليلَ عليه، وأنَّه قولٌ مفترًى مدلَّسٌ، وهذا المعتقدُ هو عقيدةُ اليهود يُنظر:((تفسير ابن عاشور)) (3/211). .
3- في قوله: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ دليلٌ على أنَّهم يؤمنون بالبعث، إلَّا أنَّه لا فائدةَ في الإيمانِ المجرَّد بوجودِ الله أو اليومِ الآخِر ما لم يَتْبَعْه قَبولٌ وإذعان؛ فمجرَّدُ التَّصديقِ لا يُعدُّ إيمانًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/149). .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ:
- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ: الاستفهامُ للتقرير لِمَا سبقَ من أنَّ اختلافَهم في الإسلام؛ ليكونَ التقريرُ على نفْيِه محرِّضًا للمخاطَب على الاعترافِ به بناءً على أنَّه لا يَرضَى أنْ يكون ممَّن يَجهلُه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/303)، ((تفسير أبي السعود)) (2/20)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/208). .
- وفيه إظهارُ ما حقُّه الإضمار - حيث قال: إِلَى الَّذِينَ، وكان الموضِعُ أن يُقال: (إليهم)-؛ للدَّلالةِ على أنَّ ضلالهم على عِلمٍ، وأنَّ الذي أُوتوه منه قراءتُهم له بألْسنتِهم، وادِّعاءُ الإيمانِ به يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/302-303). .
- وفي قوله: الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ: عرَّف المتحدَّثَ عنهم بطريق الموصوليَّةِ الَّذِينَ دون لقَبِهم (اليهود)؛ لأنَّ في الصِّلةِ ما يَزيد التَّعجُّبَ من حالهم؛ لأنَّ كونَهم على عِلمٍ من الكتاب قليلٍ أو كثيرٍ مِن شأنِه أنْ يَصُدَّهم عمَّا أخْبر به عنهم، على ما في هذه الصِّلة أيضًا من توهينِ عِلمِهم المزعومِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/209). .
- وتنكيرُ نَصِيبًا للتَّعظيم، وقيل: بل لبيان النوعيَّة، وليس للتعظيمِ؛ لأنَّ المقامَ مقامُ تهاونٍ بهم، وقد يكونُ التنوينُ للتَّقليل يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/209). .
2- قوله تعالى: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ:
- قوله تعالى: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ: فيه إظهارُ الاسم الشَّريف (الله)، وإضافةُ الكتابِ إليه، ولم يقُل: (كتابهم)؛ احترازًا عمَّا غيَّروا وبدَّلوا؛ ولأنَّهم إنَّما دُعوا إلى كتاب اللهِ الذي أنزل على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، لا إلى ما عساه أنْ يكونَ بأيديهم ممَّا غيروا. وفيه أيضًا إشارةٌ إلى عظيمِ اجترائهم بتولِّيهم عمَّن له الإحاطةُ الكاملة يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/303). .
- قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ: فيه إشعارٌ بأنَّ طائفةً منهم على حقٍّ منه، أي: وهم المُذعِنون لذلك الحُكمِ الذي دُعي إليه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/303). .
- في قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ: العطف بـ(ثمَّ)- التي تجعلُ الجملةَ المعطوفةَ في حُكمِ المفرد- فيه دلالةٌ على أنَّ تولِّيهم مستمرٌّ في أزمان كثيرة تبعُد عن زمان الدعوة. ودخول (ثم) هنا للدَّلالة على التراخِي الرُّتبي لا التراخي الزَّمني؛ لأنَّهم قد يتوَّلون إثرَ الدعوة، ولكن أُريد التعجُّب من حالهم؛ كيف يتولَّون بعد أنْ أُوتوا الكتاب ونَقَلوه؟! فإذا دُعوا إلى كِتابهم تولَّوْا! والإتيان بالمضارِع في قوله: يَتَوَلَّى؛ للدَّلالة على التجدُّد يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/210). .
- وجملة: وَهُمْ مُعْرِضُونَ حال مؤكِّدة لجملة: يَتَولَّى فَرِيقٌ؛ إذ التولِّي هو الإعراض، ولَمَّا كانتْ حالًا لم تكُن فيها دلالةٌ على الدوام والثبات، فكانتْ دالَّةً على تجدُّد الإعراض منهم المفادِ أيضًا من المضارع في قوله: ثمَّ يَتَولَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/210). .
3- قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ: جِيء فيه بجمْع القِلَّة (أيَّام) لمناسبته للمقام، من حيثُ تَناهِي اجترائِهم على العظائم؛ لاستهانتِهم بالعذابِ لاستقصارِهم لمدَّته، وأُكِّدتْ إرادتُهم لحقيقة القِلَّة بجمْع آخَر للقِلَّة مَعْدُودَات يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/304). .
- وخصَّ الجمع بهذا الموضع مَعْدُودَاتٍ؛ لأنَّه مكانُ تشنيعٍ عليهم بما فعَلوا وقالوا، فأَتَى بلفظ الجمْع؛ مبالغةً في زَجْرهم، وزجْرِ مَن يعملُ بَعمَلِهم يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/95). .
4- في قوله تعالى: فكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ: استفهامٌ غرضُه التهويلُ، والاستعظامُ والاستفظاعُ لِمَا أَعدَّ الله لهم في يومٍ عصيبٍ تتقلَّب فيه القلوبُ والأبصار يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/339)، ((تفسير الرازي)) (7/180)، ((تفسير أبي السعود)) (2/21)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/387). .
- وهو تفريعٌ عن قوله: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ، أي: إذا كان ذلك غرورًا؛ فكيف حالُهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/211). ؟!
- وفيه إيجازٌ بالحذفِ، والتقديرُ: فكيف صُورتُهم وحالهم إذا جمعناهم؟! وهذا الحذفُ يوجبُ مَزيدَ البلاغة؛ لِمَا فيه من تحريكِ النَّفسِ على استحضارِ كلِّ نوعٍ مِن أنواعِ العذابِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/180). .
- وقال تعالى: لِيَوْمٍ ولم يقل: (في يوم)؛ لأنَّ المرادَ: لِجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحُذف المضافُ ودَلَّت اللامُ عليه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/180). .
5- قوله تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ: عبَّر بصيغة الماضي وُفِّيَتْ؛ ليفيدَ أنَّ الجزاء أمرٌ متحقِّق لا بدَّ منه، والبناء للمَفعول للإفهامِ بسهولةِ ذلك عليه، وإنْ كان يفوت الحصْر يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/305-307). .