ثانيًا: الإكثارُ مِن ذِكرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
يُستَحَبُّ الإكثارُ مِن ذِكرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ أ- من الكِتابِ 1- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 41 - 43] .
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه:
اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41] يَقولُ: (لا يَفرِضُ على عِبادِه فريضةً إلَّا جَعَلَ لَها حَدًّا مَعلومًا، ثُمَّ عَذَرَ أهلَها في حالِ عُذرٍ، غَيرَ الذِّكرِ؛ فإنَّ اللَّهَ لَم يَجعَلْ له حَدًّا يَنتَهي إليه، ولَم يَعذِرْ أحَدًا في تَركِه إلَّا مَغلوبًا على عَقلِه، قال:
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103] ، باللَّيلِ والنَّهارِ، في البَرِّ والبَحرِ، وفي السَّفَرِ والحَضَرِ، والغِنى والفَقرِ، والسَّقَمِ والصِّحَّةِ، والسِّرِّ والعَلانيةِ، وعَلى كُلِّ حالٍ، وقال:
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] ، فإذا فعَلتُم ذلك صَلَّى عليكُم هو ومَلائِكَتُه؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] )
[1991] ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (19/ 124). .
وقال القُرطُبيُّ: (أمَر اللهُ تعالى عِبادَه بأن يَذكُروه ويَشكُروه، ويُكثِروا مِن ذلك على ما أنعَمَ به عليهم، وجَعَلَ تعالى ذلك دونَ حَدٍّ؛ لسُهولَتِه على العَبدِ، ولعِظَمِ الأجرِ فيه)
[1992] ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 197). .
2- قال تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35] .
قال الواحِديُّ: (قَولُه تعالى:
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ قال ابنُ عَبَّاسٍ: يُريدُ في أدبارِ الصَّلَواتِ، وغُدُوًّا وعَشِيًّا وفي المَضاجِعِ، وكُلَّما استَيقَظَ مِن نَومِه، وكُلَّما غَدا وراحَ مِن مَنزِلِه ذَكَر اللهَ عَزَّ وجَلَّ.
وقال مُجاهِدٌ: لا يَكونُ العَبدُ مِنَ الذَّاكِرينَ اللهَ كَثيرًا والذَّاكِراتِ حَتَّى يَذكُرَ اللهَ قائِمًا وقاعِدًا ومُضطَجِعًا.
وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَنِ استَيقَظَ مِنَ اللَّيلِ وأيقَظَ امرَأتَه فصَلَّيا جَميعًا رَكعَتَينِ، كُتِبا مِنَ الذَّاكِرينَ اللهَ كَثيرًا والذَّاكِراتِ)) [1993] أخرجه أبو داود (1451)، وابن ماجه (1335) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ أبي داودَ: ((مَن استيقظَ من اللَّيلِ، وأيقَظَ امرأتَه، فصَلَّيا ركعتينِ جميعًا، كُتِبا من الذَّاكِرين اللهَ كثيرًا والذَّاكِراتِ)). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (2568)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1206)، والمنذري على شرط الشيخين في ((الترغيب والترهيب)) (1/293)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/38)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1451). .
وقال عَطاءٌ: مَن صَلَّى الصَّلَواتِ الخَمسَ بحُقوقِها فهو داخِلٌ في قَولِه:
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ )
[1994] ((التفسير البسيط)) (18/ 247، 248). ويُنظر: ((الكشف والبيان)) للثعلبي (8/ 46). .
3- قال تعالى:
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45] و
[الجمعة: 10] .
4- قال تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191] .
5- قال تعالى:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران: 41] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ 1- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسيرُ في طَريقِ مَكَّةَ، فمَرَّ على جَبَلٍ يُقالُ له جُمْدانُ، فقال: سيروا، هذا جُمْدانُ، سَبَقَ المُفَرِّدونَ [1995] يُقالُ: فَرَّدَ الرَّجُلُ، بشَدِّ الرَّاءِ: إذا تَفقَّهَ، واعتَزَل النَّاسَ، وخَلا بنَفسِه وحدَه، مُراعيًا للأمرِ والنَّهيِ، وفَرَّد الرَّجُلُ في رَأيِه وأفرَدَ وفرَّدَ واستَفرَدَ: كُلُّه بمَعنًى، أي: استَقَلَّ به، وتَخَلَّى بتَدبيرِه، والمُرادُ به: الذينَ تَفرَّدوا بذِكرِ اللهِ تعالى. وقيل: همُ الذينَ هَلكَ لِداتُهم وأقرانُهم مِنَ النَّاسِ وبَقُوا هم يَذكُرونَ اللَّهَ تعالى. وقيل: همُ المُتَخَلُّونَ عنِ النَّاسِ بذِكرِ اللهِ لا يَخلِطونَ به غَيرَه. وقيل: الموحِّدونَ الذينَ لا يَذكُرونَ إلَّا اللَّهَ، أخلَصوا له كُلِّيَّتَهم وعِبادَتَهم. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/ 322)، ((الزاهر)) لابن الأنباري (2/ 204)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (6/ 128)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (5/ 211، 212)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 476). ، قالوا: وما المُفَرِّدونَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: الذَّاكِرونَ اللهَ كَثيرًا والذَّاكِراتُ)) [1996] أخرجه مسلم (2676). .
2- عنِ الحارِثِ الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللَّهَ أمَر يَحيى بنَ زَكَريَّا بخَمسِ كَلِماتٍ أن يَعمَلَ بهنَّ، وأن يَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بهنَّ، فكادَ أن يُبطِئَ، فقال له عيسى: إنَّك قد أُمِرتَ بخَمسِ كَلِماتٍ أن تَعمَلَ بهنَّ، وأن تَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بهنَّ، فإمَّا أن تُبَلِّغَهنَّ وإمَّا أُبَلِّغَهنَّ، فقال له: يا أخي، إنِّي أخشى إن سَبَقتَني أن أُعَذَّبَ، أو يُخسَفَ بي، قال: فجَمَعَ يَحيى بَني إسرائيلَ في بَيتِ المَقدِسِ، حَتَّى امتَلَأ المَسجِدُ، وقُعِدَ على الشُّرَفِ، فحَمِدَ اللَّهَ، وأثنى عليه، ثُمَّ قال: إنَّ اللَّهَ أمَرَني بخَمسِ كَلِماتٍ أن أعمَلَ بهنَّ، وآمُرَكُم أن تَعمَلوا بهنَّ: أوَّلُهنَّ: أن تَعبُدوا اللَّهَ ولا تُشرِكوا به شَيئًا؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك مَثَلُ رَجُلٍ اشتَرى عَبدًا مِن خالِصِ مالِه بوَرِقٍ أو ذَهَبٍ، فجَعَلَ يَعمَلُ ويُؤَدِّي عَمَلَه إلى غَيرِ سَيِّدِه! فأيُّكُم يَسُرُّه أن يَكونَ عَبدُه كذلك؟! وإنَّ اللَّهَ خَلقكُم ورَزَقكُم، فاعبُدوه ولا تُشرِكوا به شَيئًا. وآمُرُكُم بالصَّلاةِ؛ فإنَّ اللَّهَ يَنصِبُ وَجهَه لوَجهِ عَبدِه ما لَم يَلتَفِتْ، فإذا صَلَّيتُم فلا تَلتَفِتوا. وآمُرُكُم بالصِّيامِ؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رَجُلٍ مَعَه صُرَّةٌ مِن مِسكٍ في عِصابةٍ، كُلُّهم يَجِدُ ريحَ المِسكِ، وإنَّ خُلوفَ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ. وآمُرُكُم بالصَّدَقةِ؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رَجُلٍ أسَرَه العَدُوُّ، فشَدُّوا يَدَيه إلى عُنُقِه، وقَرَّبوه ليَضرِبوا عُنُقَه، فقال: هَل لَكم أن أفتَديَ نَفسي مِنكم؟ فجَعَلَ يَفتَدي نَفسَه مِنهم بالقَليلِ والكَثيرِ، حَتَّى فَكَّ نَفسَه. وآمُرُكُم بذِكرِ اللهِ كَثيرًا، وإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَه العَدوُّ سِراعًا في أثَرِه، فأتى حِصنًا حَصينًا، فتَحَصَّنُ فيه، وإنَّ العَبدَ أحصَنُ ما يَكونُ مِنَ الشَّيطانِ إذا كان في ذِكرِ اللهِ)) [1997] أخرجه الترمذي (2863)، وأحمد (17800) واللفظ له. صحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (483)، وابن حبان في ((صحيحه)) (6233)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1554)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (8/6)، والعراقي في ((المستخرج على المستدرك)) (89). وقَولُه: ((وإنَّ خُلوفَ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ)) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. .
3- عن عَبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((جاءَ أعرابيَّانِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال أحَدُهما: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قال: مَن طالَ عُمُرُه، وحَسُنَ عَمَلُه، وقال الآخَرُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ شَرائِعَ الإسلامِ قد كَثُرَت عليَّ، فمُرْني بأمرٍ أتَثبَّتُ به، فقال: لا يَزالُ لسانُك رَطْبًا مِن ذِكرِ اللهِ [1998] و(رُطوبةُ اللِّسانِ عِبارةٌ عن سُهولةِ جَرَيانِه، كَما أنَّ يُبسَه عِبارةٌ عن ضِدِّه، ثُمَّ إنَّ جَرَيانَ اللِّسانِ حينَئِذٍ عِبارةٌ عن مُداومةِ الذِّكرِ، فكَأنَّه قال: دَوامُ الذِّكرِ فهو مِن أُسلوبِ قَولِه تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). ((دليل الفالحين)) لابن علان (7/ 237). ) [1999] أخرجه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، وأحمد (17698) واللفظ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (814)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3375)، وحَسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (3/66)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/39)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1822)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17680). .
وفي رِوايةٍ عن عَبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ المازِنيِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((جاءَ أعرابيَّانِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال أحَدُهما: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قال: طوبى لمَن طالَ عُمُرُه، وحَسُنَ عَمَلُه، وقال الآخَرُ: أيُّ العَمَلِ خَيرٌ؟ قال: أن تُفارِقَ الدُّنيا ولسانُك رَطْبٌ مِن ذِكرِ اللهِ)) [2000] أخرجها ابن الجعد في ((المسند)) (3431)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/111) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (46/312). صحَّحها الألباني في ((صحيح الجامع)) (3928). .
4- عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت:
((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَذكُرُ اللَّهَ على كُلِّ أحيانِه)) [2001] أخرجه البخاريُّ معلَّقًا بصيغةِ التمريضِ قبل حديث (634)، وأخرجه موصولًا مسلمٌ (373). .
والمعنى: في حالِ قيامِه ومشيِه وقعودِه واضطجاعِه، وسواءٌ كان على طهارةٍ أو على حَدَثٍ
[2002] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 516). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش