ثاني عشرَ: العَمَلُ بالعِلمِ وتَعليمُه ونَشرُه
مِن أدَبِ طالِبِ العِلمِ: العَمَلُ بالعِلمِ، وتَعليمُه، ونَشرُه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- من الكتابِ1- قال تعالى:
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] .
قَولُه تعالى:
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوتِهِ أي: يَتَّبِعونَه حَقَّ اتِّباعِه، ويَعمَلونَ به حَقَّ عَمَلِه
[2328] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (2/ 487-493). .
2- قال تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5] .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (ضَرب لليَهودِ الذينَ تَرَكوا العَمَلَ بالتَّوراةِ مَثَلًا، فقال عَزَّ وجَلَّ:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ أي: كُلِّفوا العَمَلَ بما فيها
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا أي: لم يَعمَلوا بموجِبِها، ولم يُؤَدُّوا حَقَّها
كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وهيَ جَمعُ سِفرٍ. والسِّفرُ: الكِتابُ، فشَبَّهَهم بالحِمارِ لا يَعقِلُ ما يَحمِلُ؛ إذ لم يَنتَفِعوا بما في التَّوراةِ، وهيَ دالَّةٌ على الإيمانِ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وهذا المَثَلُ يَلحَقُ مَن لم يَعمَلْ بالقُرآنِ ولم يَفهَمْ مَعانيَه)
[2329] ((زاد المسير)) (4/ 281). .
3- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((يُؤتى بالرَّجُلِ يَومَ القيامةِ فيُلقى في النَّارِ فتَندَلِقُ أقتابُ [2330] الأقتابُ: الأمعاءُ، والاندِلاقُ: خُروجُ الشَّيءِ مِن مَكانِه سَلِسًا سَهلًا. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/ 388، 389). بَطنِه، فيَدورُ بها كما يَدورُ الحِمارُ بالرَّحى! فيَجتَمِعُ إليه أهلُ النَّارِ فيَقولونَ: يا فُلانُ ما لَك؟! ألَم تَكُنْ تَأمُرُ بالمَعروفِ وتَنهى عَنِ المُنكَرِ؟! فيَقولُ: بَلى، قد كُنتُ آمُرُ بالمَعروفِ ولا آتيه، وأنهى عَنِ المُنكَرِ وآتيه)) [2331] أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989) واللَّفظُ له. .
2- عن أبي بَرزةَ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَزولُ قدَما عَبدٍ يَومَ القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن عُمُرِه فيما أفناه، وعن عِلمِه فيمَ فَعَل، وعن مالِه مِن أينَ اكتَسَبَه وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسمِه فيمَ أبلاه)) [2332] أخرجه الترمذي (2417) واللفظ له، والدارمي (554)، وأبو يعلى (7434). صحَّحه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (30/301)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2417)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (9/316)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
3- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((مَثَلُ ما بَعَثَني اللهُ به مِنَ الهُدى والعِلمِ كمَثَلِ الغَيثِ [2333] الغَيثُ: المَطَرُ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/ 159). الكَثيرِ أصابَ أرضًا، فكان مِنها نَقيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ، فأنبَتَتِ الكَلأَ والعُشبَ [2334] العُشبُ والكَلأُ والحَشيشُ كُلُّها أسماءٌ للنَّباتِ، لكِنَّ الحَشيشَ مُختَصٌّ باليابسِ، والعُشبَ والكَلأَ -مَقصورًا- مُختَصَّانِ بالرَّطبِ، والكَلأَ -بالهَمزِ- يَقَعُ على اليابسِ والرَّطبِ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنوويّ (15/ 46). الكَثيرَ، وكانت مِنها أجادِبُ [2335] الأجادِبُ: هيَ الأرضُ التي لا تُنبِتُ كَلأً. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (15/ 46). أمسَكَتِ الماءَ، فنَفعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا وسَقَوا وزَرَعوا، وأصابَت مِنها طائِفةً أُخرى، إنَّما هيَ قيعانٌ [2336] القِيعانُ -بكَسرِ القافِ-: جَمعُ القاعِ، وهو الأرضُ المُستَويةُ، وقيل: المَلساءُ، وقيل: التي لا نَباتَ فيها، وهذا هو المُرادُ في هذا الحَديثِ، كما صَرَّحَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (15/ 47). لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلأً، فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ، ونَفعَه ما بَعَثَني اللهُ به فعَلِمَ وعَلَّم، ومَثَلُ مَن لم يَرفَعْ بذلك رَأسًا [2337] قال النَّوويُّ: (أمَّا مَعاني الحَديثِ ومَقصودُه فهو تَمثيلُ الهدى الذي جاءَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالغَيثِ، ومَعناه: أنَّ الأرضَ ثَلاثةُ أنواعٍ، وكذلك النَّاسُ؛ فالنَّوعُ الأوَّلُ مِنَ الأرضِ يَنتَفِعُ بالمَطَرِ، فيَحيا بَعدَ أن كان مَيِّتًا، ويُنبِتُ الكَلأَ، فتَنتَفِعُ بها النَّاسُ والدَّوابُّ والزَّرعُ وغَيرُها، وكَذا النَّوعُ الأوَّلُ مِنَ النَّاسِ يَبلُغُه الهدى والعِلمُ فيَحفظُه فيَحيا قَلبُه، ويَعمَلُ به ويُعَلِّمُه غَيرُه فيَنتَفِعُ ويَنفعُ. والنَّوعُ الثَّاني مِنَ الأرضِ ما لا تَقبَلُ الانتِفاعَ في نَفسِها، لكِنَّ فيها فائِدةً، وهيَ إمساكُ الماءِ لغَيرِها، فيَنتَفِعُ بها النَّاسُ والدَّوابُّ، وكَذا النَّوعُ الثَّاني مِنَ النَّاسِ لهم قُلوبٌ حافِظةٌ، لكِن ليسَت لهم أفهامٌ ثاقِبةٌ، ولا رُسوخَ لهم في العَقلِ يَستَنبطونَ به المَعانيَ والأحكامَ، وليسَ عِندَهمُ اجتِهادٌ في الطَّاعةِ والعَمَلِ به، فهم يَحفظونَه حتَّى يَأتيَ طالِبٌ مُحتاجٌ مُتَعَطِّشٌ لِما عِندَهم مِنَ العِلمِ، أهلٌ للنَّفعِ والانتِفاعِ، فيَأخُذُه مِنهم فيَنتَفِعُ به، فهؤلاء نَفعوا بما بَلغَهم، والنَّوعُ الثَّالثُ مِنَ الأرضِ السِّباخِ التي لا تُنبِتُ ونَحوِها، فهيَ لا تَنتَفِعُ بالماءِ ولا تُمسِكُه ليَنتَفِعَ بها غَيرُها، وكَذا النَّوعُ الثَّالثُ مِنَ النَّاسِ ليسَت لهم قُلوبٌ حافِظةٌ ولا أفهامٌ واعيةٌ، فإذا سَمِعوا العِلمَ لا يَنتَفِعونَ به ولا يَحفظونَه لنَفعِ غَيرِهم. واللهُ أعلمُ. وفي هذا الحَديثِ أنواعٌ مِنَ العِلمِ؛ مِنها: ضَربُ الأمثالِ، ومِنها: فضلُ العِلمِ والتَّعليمِ، وشِدَّةُ الحَثِّ عليهما، وذَمُّ الإعراضِ عنِ العِلمِ. واللهُ أعلمُ). يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (15/ 47، 48). ، ولم يَقبَلْ هدى اللهِ الذي أُرسِلتُ به)) [2338] أخرجه البخاري (79) واللفظ له، ومسلم (2282). .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحَدِّثوا عن بَني إسرائيلَ ولا حَرَجَ، ومَن كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فليَتَبَوَّأْ مَقعَدَه مِنَ النَّارِ)) [2339] أخرجه البخاري (3461). .
5- عن زَيدِ بنِ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((نَضَّر اللَّهُ امرَأً سَمِعَ مِنَّا حَديثًا فحَفِظَه حتَّى يُبَلِّغَه؛ فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ مِنه، ورُبَّ حامِلِ فِقهٍ ليسَ بفقيهٍ)) [2340] أخرجه من طرق أبو داود (3660) واللفظ له، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (680)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/327)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/368)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3660)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/299). .
فَوائِدُ:
1- عن عليِّ بنِ الحَسَنِ بنِ شَقيقٍ، قال: سَمِعتُ ابنَ المُبارَكِ يَقولُ: (أوَّلُ العِلمِ النِّيَّةُ، ثُمَّ الاستِماعُ، ثُمَّ الفهمُ، ثُمَّ الحِفظُ، ثُمَّ العَمَلُ، ثُمَّ النَّشرُ)
[2341] رواه ابنُ عبدِ البَرِّ في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 476). ورُويَ نَحوُ هذا عن غَيرِ واحِدٍ مِن أهلِ العِلمِ، يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 476-478)، ((الجامع لأخلاق الراوي)) للخطيب البغدادي (1/ 194)، ((موضح أوهام الجمع والتفريق)) للخطيب البغدادي (1/ 443، 444). .
2- عن مَطَرٍ، قال: (خَيرُ العِلمِ ما نَفعَ، وإنَّما يَنفَعُ اللَّهُ بالعِلمِ مَن عَلِمَه ثُمَّ عَمِل به، ولا يَنفعُ به مَن عَلِمَه ثُمَّ تَرَكَه)
[2342] رواه الخَطيبُ البَغداديُّ في ((اقتضاء العلم العمل)) (ص: 32، 33)، وعَلَّقَه ابنُ عَبدِ البَرِّ في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 575). .
3- عن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ، قال: (العِلمُ إن لم يَنفَعْك ضَرَّك)
[2343] رواه الخطيب البغدادي في ((اقتضاء العلم العمل)) (ص: 55). . قال الخَطيبُ: (يَعني إن لم يَنفَعْه بأن يَعمَلَ به ضَرَّه بكَونِه حُجَّةً عليه)
[2344] ((اقتضاء العلم العمل)) (ص: 55). .
4- عن مالِكِ بنِ دينارٍ، قال: (إنَّ العَبدَ إذا طَلبَ العِلمَ للعَمَلِ كَسَره عِلمُه، وإذا طَلبَه لغَيرِ ذلك ازدادَ به فُجورًا أو فَخرًا)
[2345] رواه الخطيب البغدادي في ((اقتضاء العلم العمل)) (ص: 33)، وفي ((الجامع لأخلاق الراوي)) (1/ 90). .
5- عن مُحَمَّدِ بنِ الفَضلِ، قال: (ذَهابُ الإسلامِ مِن أربَعةٍ: أوَّلُها: لا يَعمَلونَ بما يَعلَمونَ، والثَّاني: يَعمَلونَ بما لا يَعلَمونَ، والثَّالِثُ: لا يَتَعَلَّمونَ ما لا يَعلمونَ، والرَّابعُ: يَمنَعونَ النَّاسَ مِنَ التَّعَلُّمِ)
[2346] رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (10/ 232، 233). .
6- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (مَثَلُ عِلمٍ لا يُعمَلُ به كمَثَلِ كَنزٍ لا يُنفَقُ مِنه في سَبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ)
[2347] أخرجه الخطيب في ((اقتضاء العلم)) (12). قال الألباني في ((اقتضاء العلم)) (12): إسناده لا بأس به. .
7- قال الغَزاليُّ: (مَن عَلِمَ وعَمِلَ فهو الَّذي يُدعى عَظيمًا في مَلكوتِ السَّمَواتِ؛ فإنَّه كالشَّمسِ تُضيءُ لغَيرِها وهيَ مُضيئةٌ في نَفسِها، وكالمِسكِ الذي يُطَيِّبُ غَيرَه وهو طَيِّبٌ.
والذي يَعلمُ ولا يَعمَلُ به كالدَّفتَرِ الذي يُفيدُ غَيرَه وهو خالٍ عنِ العِلمِ، وكالمِسَنِّ الذي يَشحَذُ غَيرَه ولا يَقطَعُ، والإبرةِ التي تَكسو غَيرَها وهيَ عاريةٌ، وذُبالةِ المِصباحِ تُضيءُ لغَيرِها وهيَ تَحتَرِقُ)
[2348] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 55). .