موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: الاستِثناءُ في الحَلِفِ


مِنَ الأدَبِ المُرَغَّبِ فيه أن يَستَثنيَ الحالفُ في يَمينِه فيَقولَ: إن شاءَ اللهُ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكِتابِ:
قال تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف: 23-24] .
فقوله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أي: إلَّا قَولًا مَقرونًا بمَشيئةِ اللهِ، وقَرْنُ ذلك بمَشيئةِ اللهِ يَستَفيدُ مِنه الإنسانُ فائِدَتَينِ عَظيمَتَينِ:
إحداهما: أنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ الأمرَ له؛ حَيثُ فوَّضَه إليه جَلَّ وعَلا.
والثَّانيةُ: إن لَم يَفعَلْ لَم يَحنَثْ [2537] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 46). ويُنظر أيضًا: ((رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز)) للرسعني (4/ 268). .
وفي الآيةِ استِحبابُ تَقديمِ المَشيئةِ في كُلِّ شَيءٍ، واستَدَلَّ الشَّافِعيُّ وغَيرُه بها على أنَّ الاستِثناءَ في الأيمانِ والطَّلاقِ والعِتقِ مُعتَبَرٌ [2538] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 170). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال سُلَيمانُ بنُ داوُدَ نَبيُّ اللهِ: لأطوفَنَّ اللَّيلةَ على سَبعينَ امرَأةً، كُلُّهنَّ تَأتي بغُلامٍ يُقاتِلُ في سَبيلِ اللهِ، فقال له صاحِبُه -أوِ المَلَكُ-: قُلْ: إن شاءَ اللهُ، فلَم يَقُلْ ونَسيَ، فلَم تَأتِ واحِدةٌ مِن نِسائِه إلَّا واحِدةٌ جاءَت بشِقِّ غُلامٍ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولَو قال: إن شاءَ اللهُ، لَم يَحنَثْ، وكان دَرَكًا له في حاجَتِه [2539] قال ابنُ حَجَرٍ: (وقَولُه: "دَرَكًا" بفَتحَتَينِ مِنَ الإدراكِ، وهو كَقَولِه تعالى: لَا تَخَافُ دَرَكًا أي: لحاقًا، والمُرادُ: أنَّه كان يَحصُلُ له ما طَلبَ، ولا يَلزَمُ مِن إخبارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك في حَقِّ سُليمانَ في هذه القِصَّةِ أن يَقَعَ ذلك لكُلِّ مَنِ استَثنى في أُمنيَّتِه، بَل في الاستِثناءِ رجوُ الوُقوعِ، وفي تَركِ الاستِثناءِ خَشيةُ عَدَمِ الوُقوعِ، وبهذا يُجابُ عن قَولِ موسى للخَضرِ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا مَعَ قَولِ الخَضِرِ له آخِرًا ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا). ((فتح الباري)) (6/ 461). ) [2540] أخرجه البخاري (5242)، ومسلم (1654) واللفظ له. .
وفي رِوايةِ البُخاريِّ: ((وكان أرجى لحاجَتِه)) [2541] أخرجه البخاري (5242). .
وفي رِوايةٍ: ((والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، لَو قال: إن شاءَ اللهُ، لَجاهَدوا في سَبيلِ اللهِ فُرسانًا أجمَعونَ)) [2542] أخرجه البخاري (2819) واللفظ له، ومسلم (1654). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ الحالفَ إذا اسْتَثْنى فلا كفَّارةَ عليه، ولا يَحنَثُ إن خالَفَ ما حَلَف عليه، ونقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ [2543] قال ابنُ حزم: (اتَّفقوا أنَّ مَن حَلَف باسمٍ مِن أسماءِ اللهِ عزَّ وجَلَّ...، ثمَّ قال بلِسانِه: إن شاء اللهُ، أو: إلَّا أن يشاءَ اللهُ، أو نحو ذلك، مُتَّصِلًا بيَمينِه، ونوى في حينِ لَفظِه باليَمينِ أن يَستثنيَ قبْلَ تَمامِ لَفظِه باليمينِ: أنَّه لا كفَّارةَ عليه، ولا يَحنَثُ إن خالَفَ ما حَلَف عليه متعَمِّدًا أو غيرُ مُتعَمِّدٍ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 159). وقال ابنُ رُشدٍ: (أجمعوا على أنَّ الاستِثناءَ بالجُملةِ له تأثيرٌ في حَلِّ الأيمانِ... وإنَّما اتَّفق الجميعُ على أنَّ استِثناءَ مشيئةِ اللهِ في الأمرِ المحلوفِ على فِعلِه إن كان فِعلًا، أو على تَركِه إن كان تَرْكًا: رافِعٌ لليَمينِ؛ لأنَّ الاستِثناءَ هو رَفعٌ لِلُزومِ اليَمينِ). ((بداية المجتهد)) (2/175). وقال ابنُ قُدامةَ: (جملةُ ذلك أنَّ الحالِفَ إذا قال: إن شاء اللهُ، مع يمينِه، فهذا يُسمَّى استثناءً... وأجمع العُلَماءُ على تسميتِه استِثناءً، وأنَّه متى استثنى في يمينِه لم يحنَثْ فيها). ((المغني)) (9/522). وقال القرطبي: (الاستِثناءُ إنَّما يَرفَعُ اليَمينَ بالله تعالى؛ إذ هي رُخصةٌ مِن اللهِ تعالى، ولا خِلافَ في هذا). ((تفسير القرطبي)) (6/275). .

انظر أيضا: