موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: الحَلِفُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ وحدَه


مِنَ آدابِ الحَلِفِ: الاقتِصارُ على الحَلِفِ باللهِ عَزَّ وجَلَّ وحدَه، وعَدَمُ الحَلفِ بغَيرِه [2478] لا يجوزُ الحَلِفُ بمَخلوقٍ، كالنَّبيِّ والكَعبةِ والمَلائِكةِ والسَّماءِ والآباءِ والحَياةِ والرُّوحِ والرَّأسِ ونِعمةِ السُّلطانِ وتُربةِ فُلانٍ، والأمانةِ، وهيَ مِن أشَدِّها نَهيًا. يُنظر: ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 476). ويُنظر أيضًا: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (4/ 621)، ((الأذكار)) للنووي (ص: 367). ومِن ذلك الحَلِفُ بمِلَّةٍ غَيرِ الإسلامِ؛ فقد قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَلَف على يَمينٍ بمِلَّةٍ غَيرِ الإسلامِ كاذِبًا فهو كما قال)). أخرجه البخاري (6047)، ومسلم (110) واللفظ له مِن حَديثِ ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ رَضيَ اللهُ عنه. قال ابنُ الجَوزيِّ: (اعلَمْ أنَّه إنَّما يَحلِفُ الحالِفُ بما هو عَظيمٌ عِندَه، ومَنِ اعتَقدَ تَعظيمَ مِلَّةٍ مِن مِلَلِ الكُفرِ فقد ضاهى الكُفَّارَ، ولَمَّا كان ما يَحلِفُ عليه كَذِبًا نَفَّقَ الكَذِبَ بيَمينٍ هيَ مُعَظَّمةٌ عِندَه). ((كشف المشكل)) (2/ 230). قال النَّوويُّ تعليقًا على الحديثِ السَّابقِ: (فيه بَيانٌ لغِلَظِ تَحريمِ هذا الحَلِفِ، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "كاذِبًا" ليس المُرادُ به التَّقييدَ والاحتِرازَ مِنَ الحَلفِ بها صادِقًا؛ لأنَّه لا يَنفَكُّ الحالفُ بها عن كَونِه كاذِبًا؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ أن يَكونَ مُعَظِّمًا لِما حَلَف به، فإن كان مُعتَقِدًا عَظَمتَه بقَلبِه فهو كاذِبٌ في ذلك، وإن كان غَيرَ مُعتَقِدٍ ذلك بقَلبِه فهو كاذِبٌ في الصُّورةِ؛ لكَونِه عَظَّمَه بالحَلِفِ به، وإذا عُلِمَ أنَّه لا يَنفكُّ عن كَونِه كاذِبًا حُمِلَ التَّقييدُ بـ"كاذبًا" على أنَّه بَيانٌ لصورةِ الحالفِ، ويَكونُ التَّقييدُ خَرَجَ على سَبَبٍ، فلا يَكونُ له مَفهومٌ، ويَكونُ مِن بابِ قَولِ اللهِ تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 112] ، وقَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام: 151] ، وقَولِه تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء: 23] ، وقَولِه تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229] ، وقَولِه تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: 101] ، وقَولِه تعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور: 33] ، ونظائِرُه كثيرةٌ. ثُمَّ إن كان الحالِفُ به مُعَظِّمًا لِما حَلَف به مُجِلًّا له، كان كافِرًا، وإن لَم يَكُنْ مُعَظِّمًا بَل كان قَلبُه مُطَمئِنًّا بالإيمانِ، فهو كاذِبٌ في حَلِفِه بما لا يُحلَفُ به، ومُعامَلَتِه إيَّاه مُعامَلةَ ما يُحلَفُ به). ((شرح مسلم)) (2/ 126). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن كان حالفًا فليَحلِفْ باللهِ أو ليَصمُتْ)) [2479] أخرجه البخاري (2679)، ومسلم (1646). .
قال عِياضٌ: (في قَولِه: "فليَحلِفْ باللهِ" تَنبيهٌ على أنَّ الحَلِفَ بأسمائِه وصِفاتِه تعالى لازِمٌ جائِزٌ؛ لأنَّه حَلَف به تعالى، ولا خِلافَ في ذلك بَينَ عُلَماءِ الأمصارِ مَعَ الآثارِ في ذلك) [2480] ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (5/ 401). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: "مَن كان حالِفًا فليَحلِفْ باللهِ" لا يُفهَمُ مِنه قَصرُ اليَمينِ الجائِزةِ على الحَلِفِ بهذا الاسمِ فقَط، بَل حُكمُ جَميعِ أسماءِ اللهِ تعالى حُكمُ هذا الاسمِ، فلو قال: والعَزيزِ، والعَليمِ، والقادِرِ، والسَّميعِ، والبَصيرِ، لكانت يَمينًا جائِزةً. وهذا مُتَّفَقٌ عليه.
وكَذلك الحُكمُ في الحَلِفِ بصِفاتِ اللهِ تعالى، كقَولِه: وعِزَّةِ اللهِ، وعِلمِه، وقُدرَتِه، وما أشبَهَ ذلك مِمَّا يتمحَّضُ فيه الصِّفةُ للهِ تعالى، ولا يَنبَغي أن يُختَلَفَ في هذا النَّوعِ أنَّها أيمانٌ كالقِسمِ الأوَّلِ.
وأمَّا ما يُضافُ إلى اللهِ تعالى مِمَّا ليس بصِفةٍ له، كقَولِه: وخَلقِ اللهِ، ونِعمَتِه، ورِزقِه، وبَيتِه، فهذه لَيسَت بأيمانٍ جائِزةٍ؛ لأنَّها حَلِفٌ بغَيرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ) [2481] ((المفهم)) (4/ 623). .
2- عنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ألا مَن كان حالِفًا فلا يَحلِفْ إلَّا باللهِ))، فكانت قُرَيشٌ تَحلِفُ بآبائِها، فقال: ((لا تَحلِفوا بآبائِكُم)) [2482] أخرجه البخاري (3836) واللفظ له، ومسلم (1646). .
3- عنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((سَمِع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلًا يَحلِفُ بأبيه، فقال: لا تَحلِفوا بآبائِكُم، مَن حَلَف باللهِ فليَصدُقْ، ومَن حُلِف له باللهِ فليَرضَ، ومَن لَم يَرضَ باللهِ فليس مِنَ اللهِ)) [2483] أخرجه ابن ماجه (2101) واللفظ له، والبيهقي (21240)، وقوام السنة في ((الترغيب والترهيب)) (1151). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2101)، وجَوَّد إسنادَه وقواه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/413)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (11/544). .
4- عن سالمِ بنِ عَبدِ اللهِ، عن أبيه رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، يَقولُ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَنهاكُم أن تَحلِفوا بآبائِكُم))، قال عُمَرُ: فواللهِ ما حَلَفتُ بها مُنذُ سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنها، ذاكِرًا ولا آثِرًا [2484] أخرجه البخاري (6647)، ومسلم (1646) واللفظ له. .
قال المازَريُّ: (هذا لئَلَّا يُشرَكَ في التَّعظيمِ بالقَسَمِ غَيرُ اللهِ سُبحانَه. وقد قال ابنُ عَبَّاسٍ: لأن أحلِفَ باللهِ فآثَمَ أحَبُّ إليَّ مِن أن أُضاهيَ. فقيلَ مَعناه: الحَلِفُ بغَيرِ اللهِ، وقيلَ مَعناه: الخَديعةُ، يُري أنَّه حَلَف وما حَلَف. وقد قال ابنُ عَبَّاسٍ أيضًا: لَئِن أحلِفْ باللهِ مِائةَ مَرَّةٍ فآثَمْ خَيرٌ مِن أن أحلِفَ بغَيرِه فأبَرَّ؛ ولهذا يُنهى عنِ اليَمينِ بسائِرِ المَخلوقاتِ) [2485] ((المعلم بفوائد مسلم)) (2/ 365). .
(وقَولُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه: "ما حَلَفتُ بها ذاكِرًا" أي: للنَّهيِ، "ولا آثِرًا"، أي: ولا راويًا ذلك عن أحَدٍ، وهو مِن قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف: 4] ، أي: رِوايةٍ، ومَآثِرُ العَرَبِ، أي: مَناقِبُها المَأثورةُ عنها) [2486] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (1/ 105). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّما نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الحَلِفِ بالآباءِ؛ لِما فيه مِن تَعظيمِهم بصِيَغِ الأيمانِ؛ لأنَّ العادةَ جاريةٌ بأنَّ الحالِفَ مِنَّا إنَّما يَحلِفُ بأعظَمِ ما يَعتَقِدُه، وإذا كان ذلك فلا أعظَمَ عِندَ المُؤمِنِ مِنَ اللهِ تعالى؛ فيَنبَغي ألَّا يَحلِفَ بغَيرِه، فإذا حَلَف بغَيرِ اللهِ فقد عَظَّمَ ذلك الغَيرَ بمِثلِ ما عَظَّمَ به اللهُ تعالى، وذلك مَمنوعٌ مِنه. وهذا الذي ذَكَرناه في الآباءِ جارٍ في كُلِّ مَحلوفٍ به غَيرِ اللهِ تعالى، وإنَّما جَرى ذِكرُ الآباءِ هنا لأنَّه هو السَّبَبُ الذي أثارَ الحَديثَ حينَ سَمعِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُمَرَ يَحلِفُ بأبيه [2487] لَفظُه: عن عبدِ اللهِ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أدرَكَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ في رَكبٍ، وعُمَرُ يَحلِفُ بأبيه، فناداهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَنهاكُم أن تَحلِفوا بآبائِكُم، فمَن كان حالِفًا فليَحلِفْ باللهِ أو ليَصمُتْ)). أخرجه البخاري (6108)، ومسلم (1646) واللفظ له. [2488] ((المفهم)) (4/ 621). .
5- عنِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، عن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه قال: لا وأبي! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَهْ [2489] مَهْ: بفَتحِ ميمٍ وسكونِ هاءٍ: اسمُ فِعلٍ بمعنى اكفُفْ وامتَنِعْ عن ذلك، فهي كَلِمةُ زَجرٍ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 65)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3054). ! إنَّه مَن حَلَف بشَيءٍ دونَ اللهِ فقد أشرَك)) [2490] أخرجه أحمد (329) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (826)، والحاكم (168). صحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((مسند الفاروق)) (1/431)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/166)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (329). .
6- عن سَعدِ بنِ عُبَيدةَ، قال: سَمِعَ ابنُ عُمَرَ رَجُلًا يَحلِفُ: لا والكَعبةِ، فقال له ابنُ عُمَرَ: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن حَلَف بغَيرِ اللهِ فقد أشرَكَ)) [2491] أخرجه أبو داود (3251) واللفظ له، والترمذي (1535)، وأحمد (6072). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (8024)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/458)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/29)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3251)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3251). .
7- عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ سَمُرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَحلِفوا بالطَّواغي ولا بآبائِكُم)) [2492] أخرجه مسلم (1648). .
8- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَحلِفوا بآبائِكُم، ولا بأُمَّهاتِكُم، ولا بالأندادِ، ولا تَحلِفوا إلَّا باللهِ، ولا تَحلِفوا باللهِ إلَّا وأنتُم صادِقونَ)) [2493] أخرجه أبو داود (3248) واللفظ له، والنسائي (3769). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4357)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/455)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3248)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1294). .
9- عنِ ابنِ بُرَيدةَ، عن أبيه رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَلَف بالأمانةِ فلَيسَ مِنَّا)) [2494] أخرجه أبو داود (3253) واللفظ له، وأحمد (22980). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4363)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3253)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (176)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (8026)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/124)، والنووي في ((الأذكار)) (456). .
ب- من الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ [2495] ممن نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبدِ البرِّ، وابنُ حزمٍ، وابنُ تيميةَ. قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (لا يَجوزُ الحَلِفُ بغَيرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في شَيءٍ مِنَ الأشياءِ، ولا على حالٍ مِنَ الأحوالِ، وهذا أمرٌ مُجتَمَعٌ عليه). ((التمهيد)) (14/ 366). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 531). وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ أيضًا: (أجمَع العُلَماءُ على أنَّ اليَمينَ بغَيرِ اللهِ مَكروهةٌ مَنهيٌّ عنها، لا يَجوزُ الحَلِفُ بها لأحَدٍ). ((التمهيد)) (14/ 367). وقال أيضًا: (لا يَنبَغي لأحَدٍ أن يَحلِفَ بغَيرِ اللهِ...؛ لإجماعِ العُلَماءِ أنَّ مَن وجَبَت له يَمينٌ على آخَرَ في حَقٍّ قِبَلَه أنَّه لا يَحلِفُ له إلَّا باللهِ، ولَو حَلف له بالنَّجمِ والسَّماءِ والطَّارِقِ، وقال: نَوَيتُ رَبَّ ذلك، لَم يَكُنْ عِندَهم يَمينًا). ((الاستذكار)) (5/ 203). وقال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفَقوا أنَّ مَن حَلَف مِمَّن ذَكَرْنا بحَقِّ زَيدٍ أو عَمرٍو أو بحَقِّ أبيه، أنَّه آثِمٌ، ولا كَفَّارةَ عليه). ((مراتب الإجماع)) (ص: 158). وقال ابنُ تيميَّةَ: (إذا حَلَف الرَّجُلُ يَمينًا مِنَ الأيمانِ، فالأيمانُ ثَلاثةُ أقسامٍ؛ أحَدُها: ما ليس مِن أيمانِ المُسلِمينَ، وهو الحَلِفُ بالمَخلوقاتِ، كالكَعبةِ والمَلائِكةِ والمَشايِخِ والمُلوكِ والآباءِ وتُربَتِهم ونَحوِ ذلك: فهذه يَمينٌ غَيرُ مُنعَقِدةٍ، ولا كَفَّارةَ فيها باتِّفاقِ العُلَماءِ، بَل هيَ مَنهيٌّ عنها باتِّفاقِ أهلِ العِلمِ، والنَّهيُ نَهيُ تَحريمٍ في أصَحِّ قَولَيهم... والثَّاني: اليَمينُ باللهِ تعالى، كقَولِه: واللهِ لأفعَلَنَّ. فهذه يَمينٌ مُنعَقِدةٌ، فيها الكَفَّارةُ إذا حَنِثَ فيها باتِّفاقِ المُسلِمينَ. وأيمانُ المُسلمينَ التي هيَ في مَعنى الحَلِفِ باللهِ، مَقصودُ الحالفِ بها تَعظيمُ الخالقِ -لا الحَلِفُ بالمَخلوقاتِ- كالحَلِفِ بالنَّذرِ والحَرامِ والطَّلاقِ والعِتاقِ... فهذه الأيمانُ للعُلَماءِ فيها ثَلاثةُ أقوالٍ). ((مجموع الفتاوى)) (33/ 68، 69). وقال أيضًا: (فأمَّا الحَلِفُ بالمَخلوقاتِ -كالحَلِفِ بالكَعبةِ أو قَبرِ الشَّيخِ أو بنِعمةِ السُّلطانِ أو بالسَّيفِ أو بجاهِ أحَدٍ مِنَ المَخلوقينَ- فما أعلَمُ بَينَ العُلَماءِ خِلافًا أنَّ هذه اليَمينَ مَكروهةٌ مَنهيٌّ عنها، وأنَّ الحَلِفَ بها لا يوجِبُ حِنثًا ولا كَفَّارةً). ((مجموع الفتاوى)) (35/ 243). ويُنظر منه: (11/ 506). .
فوائِدُ:
السِّرُّ في منعِ الحَلِفِ بغَيرِ اللهِ
قال ابنُ هبيرةَ: (والسِّرُّ في ذلك أنَّ الحالِفَ إنَّما يَحلِفُ لغَيرِه على قَولٍ يَقولُه له ليُصَدِّقَه، أو ليَعزِمَ هو على نَفسِه باليَمينِ ليَثبُتَ عليها، وذلك إنَّما يَتِمُّ له المَقصودُ فيه إذا حَلَف بأعَزِّ الأشياءِ عِندَه، فإذا حَلَف بغَيرِ اللهِ فقد قال بلسانِ حالِه: إنَّ هذا الذي حَلَفتُ به أعَزُّ عِندي مِن رَبِّي عَزَّ وجَلَّ، والمُؤمِنُ أعَزُّ الأشياءِ في قَلبِه رَبُّه عَزَّ وجَلَّ، فكَيف يَحلِفُ بغَيرِه لمَن يُريدُ أن يُصَدِّقَه في يَمينِه؟!) [2496] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (1/ 105). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قال العُلَماءُ: السِّرُّ في النَّهيِ عنِ الحَلِفِ بغَيرِ اللهِ أنَّ الحَلِفَ بالشَّيءِ يَقتَضي تَعظيمَه، والعَظَمةُ في الحَقيقةِ إنَّما هيَ للهِ وحدَه... اتَّفقَ الفُقَهاءُ على أنَّ اليَمينَ تَنعَقِدُ باللهِ وذاتِه وصِفاتِه العَليَّةِ) [2497] ((فتح الباري)) (11/ 531). ويُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (7/ 143). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (الحَلِفُ مَعناه تَأكيدُ الشَّيءِ بذِكرِ مُعظَّمٍ، والإنسانُ لا يَحلِفُ بشَيءٍ إلَّا لأنَّه عَظيمٌ في نَفسِه، فكَأنَّه يَقولُ: بقَدرِ عَظَمةِ هذا المَحلوفِ به إنِّي صادِقٌ؛ ولهذا كان الحَلِفُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ. احلِفْ باللهِ أو بصِفةٍ مِن صِفاتِه أو بأيِّ اسمٍ مِن أسمائِه) [2498] ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 452، 453). .
دفعُ إشكالينِ في الحلفِ بغيرِ الله
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إن قيلَ: كَيف يُحكَمُ بتَحريمِ الحَلِفِ بالآباءِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد حَلَف بذلك لَمَّا قال: ((أفلَحَ وأبيه إن صَدَقَ)) [2499] أخرجه مسلم (11) من مِن حَديثِ طَلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه. والحَديثُ أخرجَه البُخاريُّ (46) بلَفظِ: ((أفلَحَ إن صَدَقَ)). ؟ وكَيف يُحكَمُ بتَحريمِ الحَلِفِ بغَيرِ اللهِ، وقد أقسَمَ اللهُ تعالى بغَيرِه، فقال: وَالضُّحَى، وَالشَّمْسِ، وَالْعَادِيَاتِ، وَالنَّازِعَاتِ وغَيرِ ذلك مِمَّا في كِتابِ اللهِ تعالى مِن ذلك؟
فالجَوابُ: أمَّا عن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أفلَحَ وأبيه"... فحاصِلُه: أنَّ ذلك يحتملُ أن يَكونَ صَدَر مِنه قَبلَ أن يوحى إليه بهذا النَّهيِ. ويحتملُ أن يَكونَ جَرى هذا على لسانِه مِن غَيرِ قَصدٍ للحَلِفِ به، كما يَجري في لَغوِ اليَمينِ، الذي هو: لا واللَّهِ، وبَلى واللَّهِ [2500] قال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أفلَحَ وأبيه" ليس هو حَلِفًا، إنَّما هو كَلِمةٌ جَرَت عادةُ العَرَبِ أن تُدخِلَها في كَلامِها غَيرَ قاصِدةٍ بها حَقيقةَ الحَلِفِ، والنَّهيُ إنَّما وَرَد فيمَن قَصَدَ حَقيقةَ الحَلِفِ؛ لِما فيه مِن إعظامِ المَحلوفِ به ومُضاهاتِه به اللهَ سُبحانَه وتعالى. فهذا هو الجَوابُ المَرضيُّ. وقيلَ: يُحتَمَلُ أن يَكونَ هذا قَبلَ النَّهيِ عنِ الحَلفِ بغَيرِ اللهِ تعالى، واللهُ أعلَمُ). ((شَرح مُسلم)) (1/ 168). وقال أيضًا: ("أفلَحَ وأبيه إن صَدَقَ"... هذه كَلِمةٌ تَجري على اللِّسانِ لا تُقصَدُ بها اليَمينُ. فإن قيلَ: فقد أقسَمَ اللهُ تعالى بمَخلوقاتِه، كقَولِه تعالى: وَالصَّافَّاتِ وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ فالجَوابُ: أنَّ اللَّهَ تعالى يُقسِمُ بما شاءَ مِن مَخلوقاتِه؛ تَنبيهًا على شَرَفِه)). ((شرح مسلم)) (11/ 105). .
وأمَّا عن قَسَمِ اللهِ تعالى بتلك الأُمورِ فمِن وَجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّ المُقسَمَ به مَحذوفٌ، تَقديرُه: ورَبِّ الضُّحى، ورَبِّ الشَّمسِ، ونَحوِ ذلك. قاله أكثَرُ أئِمَّةِ المَعاني.
وثانيهما: أنَّ اللَّهَ تعالى يُقسِمُ بما يُريدُ كما يَفعَلُ ما يُريدُ؛ إذ لا حُكمَ عليه، ولا حاكِمَ فوقَه، ونَحنُ المَحكومُ عليهم، وقد أبلَغَنا حُكمَه على لسانِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: "مَن كان حالفًا فليَحلِفْ باللهِ أو ليَصمُتْ" [2501] أخرجه البخاري (2679)، ومسلم (1646) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، و "مَن كان حالِفًا فلا يحلِفْ إلَّا باللهِ" [2502] أخرجه البخاري (3836) واللفظ له، ومسلم (1646). ؛ فيَجِبُ الانقيادُ والامتِثالُ لحُكمِ ذي العِزَّةِ والجَلالِ) [2503] ((المفهم)) (4/ 622). ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/ 203). .
بَعضُ ألفاظِ الحَلِفِ الوارِدةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ
1- قال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: 53] .
وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] .
وقال عز وجل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] .
2- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كانت يَمينُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا ومُقَلِّبِ القُلوبِ)) [2504] أخرجه البخاري (6628). .
وفي رِوايةٍ: ((أكثَرُ ما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَحلِفُ: لا ومُقَلِّبِ القُلوبِ)) [2505] أخرجها البخاري (7391). .
وفي رِوايةٍ أُخرى: ((كانت أكثَرُ أيمانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا ومُصَرِّفِ القُلوبِ)) [2506] أخرجها النسائي (3762)، وابن ماجه (2092) واللفظ له صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4800). .
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، واللهِ لو تَعلمونَ ما أعلمُ لبَكَيتُم كَثيرًا ولضَحِكتُم قَليلًا)) [2507] أخرجه البخاري (6631)، ومسلم (901). .
4- عن جابِرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إذا هَلَكَ قَيصَرُ فلا قَيصَرَ بَعدَه، وإذا هَلَكَ كِسرى فلا كِسرى بَعدَه، والذي نَفسي بيَدِه لتُنفَقَنَّ كُنوزُهما في سَبيلِ اللهِ)) [2508] أخرجه البخاري (6629) واللفظ له، ومسلم (2918). .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: ((لا، والذي نَفسي بيَدِه، حتَّى أكونَ أحَبَّ إليك مِن نَفسِك)) [2509] أخرجه البخاري (6632) من حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه. .
وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَا والذي نَفسي بيَدِه لأقضيَنَّ بَينَكُما بكِتابِ اللهِ...)) الحديث [2510] أخرجه البخاري (6633، 6634) واللفظ له، ومسلم (1697، 1698) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما. .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، لو تَعلَمونَ ما أعلَمُ لبَكَيتُم كَثيرًا ولضَحِكتُم قَليلًا)) [2511] أخرجه البخاري (6637) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
6- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((انتَهَيتُ إليه وهو في ظِلِّ الكَعبةِ، يَقولُ: همُ الأخسَرونَ ورَبِّ الكَعبةِ، همُ الأخسَرونَ ورَبِّ الكَعبةِ)) الحديث [2512] أخرجه البخاري (6638) واللفظ له، ومسلم (990). .
7- وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِه عن سُليمانَ بنِ داودَ عليهما السَّلامُ: ((وايمُ [2513] قال التُّورِبِشتيُّ: (الأصلُ في "ايمُ اللَّهِ": أيمُنُ اللَّهِ، حُذِف مِنه النُّونُ، وهو اسمٌ وُضِعَ للقَسَمِ، هَكَذا بضَمِّ الميمِ والنُّونِ، وأَلِفُه ألفُ وصلٍ عِندَ أكثَرِ النَّحويِّينَ، ولمَ يَجئْ في الأسماءِ ألفُ الوَصلِ مَفتوحةً غَيرُها، وتَقديرُه: أيمنُ اللَّهِ قَسَمي، وإذا حُذِف عنه النُّونُ قيل: أيمُ اللَّهِ، وايمُ اللَّهِ بكَسرِ الهَمزةِ أيضًا). ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (4/ 1240). الذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، لو قال: إن شاءَ اللهُ، لجاهَدوا في سَبيلِ اللهِ فُرسانًا أجمَعونَ)) [2514] أخرجه البخاري (6639)، ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

انظر أيضا: