موسوعة الآداب الشرعية

رابعَ عشرَ: عدمُ ذَبحِ الحَلوبِ


يُكرَهُ ذَبحُ الحَلوبِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بَكرٍ وعُمَرَ، فقال: ما أخرَجَكُما مِن بُيوتِكُما هذه السَّاعةَ؟ قالا: الجوعُ، يا رَسولَ اللهِ! قال: وأنا، والذي نَفسي بيَدِه لأخرَجَني الذي أخرَجَكُما! قوموا، فقاموا مَعَه، فأتى رَجُلًا مِنَ الأنصارِ، فإذا هو ليسَ في بَيتِه، فلمَّا رَأته المَرأةُ قالت: مَرحَبًا وأهلًا! فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أينَ فُلانٌ؟ قالت: ذَهَبَ يَستَعذِبُ [2691] أي: يَأتينا بماءٍ عَذبٍ، وهو الطَّيِّبُ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (13/ 213). لنا مِنَ الماءِ، إذ جاءَ الأنصاريُّ فنَظَرَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبَيه، ثُمَّ قال: الحَمدُ للَّه، ما أحَدٌ اليَومَ أكرَمَ أضيافًا مِنِّي! قال: فانطَلقَ فجاءَهم بعِذقٍ [2692] العِذقُ -بكَسرِ العَينِ-: الكِباسةُ، وهيَ: العُرجونُ. والعَذقُ -بفتحِ العَينِ-: النَّخلةُ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (5/ 306). فيه بُسرٌ وتَمرٌ ورُطَبٌ [2693] البُسرُ: ثَمَرُ النَّخلِ قَبلَ أن يُرطِبَ، فالبُسرُ أوَّلُه طَلعٌ، ثُمَّ خَلَالٌ، ثُمَّ بَلحٌ، ثُمَّ بُسرٌ، ثُمَّ رُطَبٌ، ثُمَّ تَمرٌ. الواحِدةُ بُسْرةٌ وبُسُرةٌ، والجَمعُ بُسْراتٌ وبُسُراتٌ. وأبسَرَ النَّخلُ: صارَ ما عليه بُسرًا. يُنظر: ((العين)) للخليل (7/ 250)، ((الصحاح)) للجوهري (2/ 589)، ((المحكم)) لابن سيده (8/ 488)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 56). ، فقال: كُلوا مِن هذه [2694] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّما قدَّمَ لهم هذا العُرجونَ؛ لأنَّه الذي تَيَسَّرَ له بغَيرِ كُلفةٍ، لا سيَّما مَعَ تَحَقُّقِه حاجَتَهم، ولأنَّ فيه ألوانًا مِنَ التَّمرِ، والبُسرِ، والرُّطَبِ، ولأنَّ الابتِداءَ بما يُتَفَكَّهُ به مِنَ الحَلاوةِ أَولى مِن حَيثُ إنَّه أقوى للمَعِدةِ؛ لأنَّه أسرَعُ هَضمًا). ((المفهم)) (5/ 306). ، وأخَذَ المُديةَ [2695] المُديةُ: السِّكِّينُ. يُنظر: ((العين)) للخليل (5/ 313). ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إيَّاكَ والحَلوبَ، فذَبَحَ لهم، فأكَلوا مِنَ الشَّاةِ، ومِن ذلك العِذقِ، وشَرِبوا، فلمَّا أن شَبِعوا ورَوُوا، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَكرٍ وعُمَرَ: والذي نَفسي بيَدِه، لتُسألُنَّ عن هذا النَّعيمِ يَومَ القيامةِ، أخرَجَكُم مِن بُيوتِكُمِ الجوعُ، ثُمَّ لم تَرجِعوا حتَّى أصابَكُم هذا النَّعيمُ)) [2696] أخرجه مسلم (2038). .
وفي رِوايةٍ: ((...فانطَلقَ أبو الهَيثَمِ ليَصنَعَ لهم طَعامًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَذبَحَنَّ ذاتَ دَرٍّ [2697] ذاتَ دَرٍّ: أي: ذاتَ لَبَنٍ، وهيَ الحَلوبُ أيضًا. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 694). ، قال: فذَبَحَ لهم عَناقًا [2698] العَناقُ: الأُنثى مِن وَلَدِ المَعزِ، وقيل: هيَ أُنثى المَعزِ لها أربَعةُ أشهُرٍ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 694)، ((أشرف الوسائل)) للهيتمي (ص: 549). أو جَدْيًا، فأتاهم بها فأكَلوا)) [2699] أخرجها الترمذي (2369) واللفظ له، والطبراني (19/256) (570)، والحاكم (7374). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2369)، وصحَّح إسنادَه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (36/477). .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ في فوائِدِ الحَديثِ: (... فيه كَراهيةُ ذَبحِ ما يَجري نَفعُه مُياوَمةً ومُداومةً كَراهيةَ إرشادٍ لا كَراهيةَ تَحريمٍ) [2700] ((التمهيد)) (24/ 339). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (الحَلوبُ: الشَّاةُ التي تَحلُبُ لبَنًا كَثيرًا. وإنَّما نَهاه عنها؛ لأنَّ ذَبحَها تَضييعٌ للبَنِها، مَعَ أنَّ غَيرَ ذاتِ اللَّبَنِ تَتَنَزَّلُ مَنزِلتَها عِندَ الضَّيفِ، ويَحصُلُ بها المَقصودُ) [2701] ((المفهم)) (5/ 306). وقال عِياضٌ في شَرحِ الحَديثِ: (وفيه حُجَّةُ لِمَن لم يَرَ مِن أصحابِنا ذَبحَ حَوامِلِ الماشيةِ، وكذلك فيما كان يَصلُحُ مِنَ البَقَرِ للحريثِ؛ لأنَّ هذا -إذا لم يُضطَرَّ إليه- مِنَ الفسادِ). ((إكمال المعلم)) (6/ 512). .
فائِدةٌ في مِيزاتِ الذَّبحِ الإسلاميِّ:
أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإحسانِ الذَّبحِ، وبَيَّنَ لَنا صُوَرَ هذا الإحسانِ، فقال: ((وإذا ذَبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ، وليُحِدَّ أحَدُكُم شَفرَتَه، وليُرِحْ ذَبيحَتَه)) [2702] أخرجه مسلم (1955). .
وهذه قِمَّةُ الرَّحمةِ والرَّأفةِ بالحَيَوانِ؛ لأنَّ الذَّبحَ السَّريعَ بالسِّكِّينِ الحادَّةِ يُخَفِّفُ شُعورَ الحَيَوانِ بالألَمِ، والإحساسُ بالألَمِ يَنتُجُ عن تَأثيرِ الأعصابِ الخاصَّةِ بالألَمِ تَحتَ الجِلدِ.
وقَلبُ الحَيَوانِ الواعي الذي لَم يَفقِدْ حِسَّه قَبلَ ذَبحِه يُساعِدُ في إخراجِ الدَّمِ وتَمامِ نَزفِه، إلى جانِبِ الانقِباضاتِ العَضَليَّةِ وحَرَكةِ القَوائِم.
وبمُجَرَّدِ قَطعِ الوَدَجَينِ ومَنعِ وُصولِ الدَّمِ إلى المُخِّ (بما يَحمِلُه الدَّمُ مِن مَوادَّ غِذائيَّةٍ وأُكسُجين) يَفقِدُ الحَيَوانُ حِسَّه، بعَكسِ ما يُدَّعى مِن أنَّ الذَّبحَ بالسِّكِّينِ تَعذيبٌ للحَيَوانِ!
كذلك أمَرَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإراحةِ الذَّبيحةِ قَبلَ ذَبحِها؛ لأنَّ هذا يُؤَدِّي إلى تَمامِ النَّزفِ نَتيجةً للانقِباضاتِ العَضَليَّةِ التي تَحدُثُ كرَدِّ فِعلٍ مُنعَكِسٍ لعَمَليَّةِ الذَّبحِ، وهذا يُسَبِّبُ جَودةَ اللَّحمِ؛ بسَبَبِ الاستِنزافِ الكامِلِ للدِّماءِ مِنَ الذَّبيحةِ.
كما أنَّ نِسبةَ النَّشا الحَيَوانيِّ في لُحومِ الحَيَواناتِ التي توفَّرَ لَها قِسطٌ مِنَ الرَّاحةِ قَبلَ ذَبحِها تَكونُ أعلى مِنها في لُحومِ الحَيَواناتِ المُجهَدةِ، وللجِلايكوجينِ دَورٌ هامٌّ في المُحافَظةِ على اللُّحومِ وجَودتِها وحُسنِ مَذاقِها.
كما أنَّ تَوفيرَ قِسطٍ كافٍ مِنَ الرَّاحةِ للحَيَوانِ قَبلَ الذَّبحِ يُساعِدُ أجهزةَ المَناعةِ في الجِسمِ على التَّغَلُّبِ على كَثيرٍ مِنَ المَيكروباتِ التي تَغزو الجِسمَ.
إنَّ ما يَحدُثُ في الدُّوَلِ غَيرِ الإسلاميَّةِ إمَّا أنَّه إزهاقٌ للحَيَوانِ وقَتلٌ، وليس ذَبحًا له، أو أنَّه يَتَنافى مَعَ مَبدَأِ: «وإذا ذَبَحتُم فأحسِنوا الذِّبحةَ»؛ لأنَّه يَتِمُّ بإحدى هذه الطُّرُقِ:
1 - إفقادُ الحَيَوانِ وَعيَه باستِخدامِ قَذيفةٍ ناريَّةٍ بواسِطةِ المُسَدَّسِ ذي الواقِذةِ تُصَوَّبُ على رَأسِه، فتَختَرِقُ الجُمجُمةَ، وتَهتِكُ خَلايا المُخِّ، وتُحدِثُ بها نَزيفًا.
2 - يَضرَبُ الحَيَوانُ على رَأسِه بمِطرَقةٍ تُفقِدُه الوَعيَ.
3 - يُصعَقُ الحَيَوانُ بتَيَّارٍ كَهرَبائيٍّ لتَدويخِه.
4 - تَدويخُ الحَيَوانِ باستِعمالِ ثاني أُكسيدِ الكَربونِ.
ثُمَّ يُرفَعُ الحَيَوانُ آليًّا ورَأسُه مُنَكَّسٌ إلى أسفَلَ، ويُشَقُّ جِلدُ الرَّقَبةِ طوليًّا، ويُطعَنُ في قَلبِه مُباشَرةً؛ لتَفريغِه مِنَ الدَّمِ، دونَ قَطعِ الوَدَجَينِ والحُلقومِ والمَرِيءِ!
وبهذا لا يَتِمُّ الإدماءُ الكامِلُ، بَل يُحتَجَزُ جُزءٌ كَبيرٌ مِنَ الدَّمِ بالذَّبيحةِ، يَتَحَوَّلُ إلى وَزنٍ، ومِن ثَمَّ إلى دولاراتٍ في جُيوبِ تُجَّارِ اللُّحومِ!
إنَّ الدَّمَ المُحتَجَزَ داخِلَ جِسمِ الحَيَوانِ يُعتَبَرُ بيئةً صالحةً جِدًّا لتَكاثُرِ المَيكروباتِ الضَّارَّةِ بصِحَّةِ الإنسانِ، كما يُعَجِّلُ بتَلَفِ اللُّحومِ [2703] يُنظر: ((فقه الإحسان إلى الحيوان)) لمحمد بن إسماعيل المقدم (ص: 82-85). .


انظر أيضا: