موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: إثبات عدالتهم


مِن الأدبِ معَ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إثباتُ عدالتِهم [857] العدالةُ لُغةً: صِفةٌ تُوجِبُ مُراعاتُها الاحترازَ عمَّا يُخِلُّ بالمروءةِ عادةً، والعَدْلُ مِنَ النَّاسِ: المَرْضِيُّ المُستوي الطَّريقةِ، وأصلُ (عدل): يدُلُّ على استواءٍ. يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 246)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 397). وأمَّا العَدالةُ في الِاصطِلاحِ فقد تَنَوَّعَت عِباراتُ العُلَماءِ مِنَ المُحَدِّثِينَ والأصوليِّينَ والفُقَهاءِ في تَعريفِها، وجِماعُ القَولِ في ذلك أنَّ العَدْلَ هو: من عُرِفَ بأداءِ فرائِضِه، ولُزومِ ما أُمِرَ به، وتَوَقِّي ما نُهيَ عنه، وتَجَنُّبِ الفَواحِشِ المُسقْطةِ، وتَحَرِّي الحَقِّ والواجِبِ في أفعالِه ومُعامَلَتِه، والعَدْلُ مَعروفٌ بالصِّدقِ في حَديثِه، واستِقامةِ السِّيرةِ والدِّينِ، ومُلازَمةِ التَّقوى والمُروءةِ، والعَدْلُ يَخافُ اللهَ تعالى خَوفًا وازِعًا عنِ الكَذِبِ واجتِنابِ الأعمالِ السَّيِّئةِ من شِركٍ أو فِسقٍ أو بِدعةٍ، وغَلَب خَيرُهُ شَرَّهُ، وبِهَذا يَطمَئِنُّ القَلبُ إلى خَبرِه، وتَسْكُنُ النَّفسُ إلى ما يَرويه. يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 78-80)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 125)، ((نزهة النظر)) لابن حجر (ص: 68)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 384)، ((ثمرات النظر في علم الأثر)) للصنعاني (ص: 55 - 59)، ((سبل السلام)) للصنعاني (4/ 129). جميعًا دونَ استِثناءِ أحَدٍ مِنهم [858] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (ثَبَتَت عَدالةُ جَميعِهِم بثَناءِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وثَناءِ رَسولِه عليه السَّلامُ، ولا أعدَلَ مِمَّنِ ارتَضاه اللهُ لصُحبةِ نَبيِّه ونُصرَتِه، ولا تَزكيةَ أفضَلُ من ذلك، ولا تَعديلَ أكمَلُ مِنه). ((الاستيعاب)) (1/ 2). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
ورَدَت في القُرآنِ الكَريمِ عِدَّةُ آياتٍ تَذكُرُ صِفاتٍ كريمةً للصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم تُفيدُ في جُملَتِها ثُبوتَ العَدالةِ لهم. ومِن ذلك:
1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218] .
قال قَتادةُ: (أثنى اللهُ عَلى أصحابِ نَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسَنَ الثَّناءِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218] ) [859] ((جامع البيان)) للطبري (3/ 669). .
2- قال اللهُ سُبحانَه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .
قال الزَّجَّاجُ: (قال بَعضُهم: مَعنى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هذا الخِطابُ أصلُهُ أنَّهُ خُوطِبَ به أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهوَ يَعُمُّ سائِرَ أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [860] ((معاني القرآن وإعرابه)) (1/456). .
3- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
4- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 117] .
قال الجَصَّاصُ: (قَولُهُ تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ فيه مَدْحٌ لأصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذينَ غَزَوا مَعَهُ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وإخبارٌ بصِحَّةِ بواطِنِ ضَمائِرِهِم وطَهارَتِهِم؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُخبِرُ بأنَّه قَد تابَ عليهِم إلَّا وقَد رَضِيَ عنهم ورَضِيَ أفعالَهم، وهَذا نَصٌّ في رَدِّ قَولِ الطَّاعِنين عليهِم والنَّاسِبين إليهِم غَيرَ ما نَسَبهُمُ اللهُ إلَيه مِنَ الطَّهارةِ ووَصفَهم به من صِحَّةِ الضَّمائِرِ وصَلاحِ السَّرائِرِ، رَضِيَ اللهُ عنهم) [861] ((أحكام القرآن)) (3/ 205). .
5- قال اللهُ سُبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] .
قال ابن حجر الهيتمي: (صَرَّح تعالى برِضاهُ عن أولَئِكَ وهم ألفٌ ونَحوُ أربَعِمِائةٍ، ومَن رَضِيَ اللهُ عنه تعالى لا يُمكِنُ مَوتُهُ عَلى الكُفرِ؛ لأنَّ العِبرةَ بالوَفاةِ عَلى الإسلامِ، فلا يَقَعُ الرِّضا مِنهُ تعالى إلَّا عَلى من عَلِمَ مَوتَه عَلى الإسلامِ، وأمَّا من عَلِمَ مَوتَه عَلى الكُفرِ فلا يُمكِنُ أن يُخبِرَ اللهُ تعالى بأنَّه رَضِيَ عنه؛ فعُلِمَ أنَّ كُلًّا من هَذِه الآيةِ وما قَبلَها صَريحٌ في رَدِّ ما زَعَمَهُ وافتَراهُ أولَئِكَ المُلْحِدونَ الجاحِدونَ حَتَّى للقُرآنِ العَزيزِ؛ إذ يَلزَمُ مِنَ الإيمانِ به الإيمانُ بما فيه، وقَد عَلِمْتَ أنَّ الَّذي فيه أنَّهم خَيرُ الأمَمِ، وأنَّهم عُدولٌ أخيارٌ، وأنَّ اللهَ لا يُخزيهِم، وأنَّه راضٍ عنهم؛ فمَن لم يُصَدِّقْ بذلك فيهِم فهوَ مُكَذِّبٌ لِما في القُرآنِ، ومَن كذَّبَ بما فيه مِمَّا لا يَحتَمِلُ التَّأويلَ كانَ كافِرًا جاحِدًا مُلحِدًا مارِقًا) [862] ((الصواعق المحرقة)) (2/ 605). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
اشتَمَلَتِ السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ على أحاديثَ كثيرةٍ تُبَيِّنُ فضلَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وهيَ تدلُّ عَلى عَدالَتِهِم. ومِن ذلك:
1- عن عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْني، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ يَجيءُ قَومٌ تَسبِقُ شَهادةُ أحَدِهِم يَمينَهُ، ويَمينُهُ شَهادَتَه)) [863] رواه البخاري (3651) واللَّفظُ له، ومسلم (2533). .
 قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ دَليلٌ عَلى أنَّ خَيرَ النَّاسِ الَّذينَ صَحِبوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَأوهُ، ثُمَّ التَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، كما قال عَزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) [864] ((الإفصاح)) (2/ 49). .
2- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا أصحابي، فلَو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَه)) [865] رواه البخاري (3673) واللَّفظُ له، ومسلم (2541). .
 قال العينيُّ: (يدُلُّ على فَضلِ الصَّحابةِ كُلِّهم على غَيرِهم) [866] ((عمدة القاري)) (16/ 187). .
3- عن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صَلَّينا المَغرِبَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ قُلْنا: لو جَلَسْنا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ العِشاءَ. قال: فجَلَسْنا فخَرجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما زِلتُم هاهُنا؟ قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ صَلَّينا مَعَكَ المَغرِبَ، ثُمَّ قُلْنا: نَجلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ العِشاءَ، قال: أحسَنْتُمُ أو أصبَتُم. قال: فرَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ -وكانَ كثيرًا ما يَرفَعُ رَأسَهُ إلى السَّماءِ- فقال: النُّجومُ أَمَنةٌ للسَّماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النُّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتي فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعَدونَ)) [867] رواه مسلم (2531). .
4- عن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في خُطبةِ الوَداعِ: ((ألا لِيُبلغِ الشَّاهِدُ مِنكم الغائِبَ)) [868] رواه مطولًا البخاري (105) واللَّفظُ له، ومسلم (1679). .
قال ابنُ حِبَّانَ: (في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ألا لِيُبلغِ الشَّاهِدُ مِنكم الغائِبَ» أعظَمُ الدَّليلِ عَلى أنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم عُدولٌ ليسَ فيهِم مَجروحٌ ولا ضَعيفٌ؛ إذ لو كانَ فيهِم مَجروحٌ أو ضَعيفٌ أو كانَ فيهِم أحَدٌ غَيرُ عَدْلٍ، لاستَثنى في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: ألَّا لِيُبلغْ فُلانٌ وفُلانٌ مِنكم الغائِبَ، فلَمَّا أجمَلَهم في الذِّكْرِ بالأمرِ بالتَّبليغِ مَن بَعدَهم، دَلَّ ذلك عَلى أنَّهم كُلَّهم عُدولٌ، وكَفى بمَن عَدَّلَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرَفًا!) [869] ((التقاسيم والأنواع)) لابن حبان (1/ 116)، ((الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان)) لابن بلبان (1/ 162). .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (ثَبَتَت عَدالةُ جَميعِهِم بثَناءِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وثَناءِ رَسولِه عليه السَّلامُ، ولا أعدَلَ مِمَّنِ ارتَضاه اللهُ لصُحبةِ نَبيِّه ونُصرَتِه، ولا تَزكيةَ أفضَلُ من ذلك، ولا تَعديلَ أكمَلُ مِنه) [870] يُنظر: ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (1/1). .
وقال الخَطيبُ البَغْداديُّ: (عَلى أنَّه لو لم يَرِدْ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهِم شَيءٌ مِمَّا ذَكَرْناهُ، لأوجَبَتِ الحالُ الَّتي كانوا عليها مِنَ الهِجرةِ والجِهادِ والنُّصرةِ، وبَذْلِ المُهَجِ والأموالِ، وقَتْلِ الآباءِ والأولادِ، والمُناصَحةِ في الدِّينِ، وقوَّةِ الإيمانِ واليَقينِ- القَطعَ عَلى عَدالَتِهِم، والاعتِقادَ لنَزاهَتِهِم، وأنَّهم أفضَلُ من جَميعِ المُعَدَّلين والمُزَكِّينَ الَّذينَ يَجِيئونَ من بَعدِهِم أبَدَ الآبِدِينَ) [871] ((الكفاية)) (ص: 48). .
ج- مِن الإجماعِ
حَكى عَدَدٌ من أهلِ العِلمِ إجماعَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ عَلى أنَّ جَميعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم عُدولٌ؛ منهم: ابنُ عَبدِ البَرِّ [872] يُنظر: ((الاستيعاب)) (1/19)، ((التمهيد)) (22/47). ، وابنُ الصَّلاحِ [873] يُنظر: ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 397). ، والقرطبيُّ [874] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 299). ، والنوويُّ [875] يُنظر: ((التقريب والتيسير)) (ص: 92). ، وابنُ تيميةَ [876] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 292). ، وابنُ كثيرٍ [877] يُنظر: ((اختصار علوم الحديث)) (ص: 181). ، والمناويُّ [878] يُنظر: ((فيض القدير)) (1/263). ، والشوكانيُّ [879] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) (1/ 185). ، وأبو الثناءِ الألوسيُّ [880] يُنظر: ((الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية)) (ص: 9). .

انظر أيضا: