خامسًا: الإمساكُ عنِ الخَوضِ فيما شَجَرَ بَينَهم
مِنَ الأدَبِ مَعَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهمُ: السُّكوتُ عَمَّا كان بَينَهم، والتِماسُ أحسَنِ التَّأويلاتِ لهم
[847] يُنظر: ((شعب الإيمان)) للبيهقي (3/ 94). .
الدَّليلُ على ذلك إجماعُ أهلِ السنَّةِ:قال النووي: (ومَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والحَقِّ إحسانُ الظَّنِّ بهِم، والإمساكُ عَمَّا شَجَرَ بينَهم، وتَأويلُ قِتالِهِم وأنَّهم مُجتَهِدونَ مُتَأوِّلونَ لم يَقصِدوا مَعصيةً ولا مَحْضَ الدُّنيا، بَلِ اعتَقَدَ كُلُّ فريقٍ أنَّه المُحِقُّ، ومُخالِفُهُ باغٍ، فوَجَبَ عليه قِتالُهُ ليَرجِعَ إلى أمرِ اللَّهِ، وكانَ بَعضُهم مُصيبًا، وبَعضُهم مُخطِئًا مَعذورًا في الخَطَأِ؛ لِأنَّه لِاجتِهادٍ، والمُجتَهِدُ إذا أخطَأ لا إثمَ عليه)
[848] ((شرح مسلم)) (18/11). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (اتَّفَقَ أهلُ السُّنَّةِ عَلى وُجوبِ مَنعِ الطَّعنِ عَلى أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ بسَبَبِ ما وقَعَ لهم مِن ذلك، ولَو عُرِفَ المُحِقُّ مِنهم؛ لِأنَّهم لم يُقاتِلوا في تِلكَ الحُروبِ إلَّا عنِ اجتِهادٍ، وقَد عَفا اللهُ تعالى عنِ المُخْطِئِ في الِاجتِهادِ، بَل ثَبتَ أنَّه يُؤْجَرُ أجرًا واحِدًا، وأنَّ المُصيبَ يُؤْجَرُ أجرَينِ)
[849] ((فتح الباري)) (13/34). .
وقال مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ: (أجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ عَلى السُّكوتِ عَمَّا شَجَر بينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا يُقالُ فيهِم إلَّا الحُسنى)
[850] ((مختصر سيرة الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) (ص 317). .
وقال حافِظٌ الحَكَميُّ: (أجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ الذينَ هم أهلُ الحَلِّ والعَقدِ -الذينَ يُعتَدُّ بإجماعِهم- على وُجوبِ السُّكوتِ عنِ الخَوضِ في الفِتَنِ التي جَرَت بَينَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بَعدَ قَتلِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، والاستِرجاعِ على تلك المَصائِبِ التي أُصيبَت بها هذه الأُمَّةُ، والاستِغفارِ للقَتلى مِنَ الطَّرَفينِ، والتَّرَحُّمِ عليهم، وحِفظِ فضائِلِ الصَّحابةِ، والاعتِرافِ لهم بسَوابقِهم، ونَشرِ مَناقِبِهم)
[851] ((معارج القبول بشرح سلم الوصول)) (3/ 1208). .
فائدةٌ:قال عِياضٌ: (مِن تَوقيرِه وبِرِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَوقيرُ أصحابِه وبِرُّهم، ومَعرِفةُ حَقِّهم والاقتِداءُ بهم، وحُسنُ الثَّناءِ عليهم، والاستِغفارُ لهم والإمساكُ عَمَّا شَجَرَ بَينَهم، ومُعاداةُ مَن عاداهم، والإضرابُ عن أخبارِ المُؤَرِّخينَ وجَهَلةِ الرُّواةِ وضُلَّالِ الشِّيعةِ والمُبتَدِعينَ القادِحةِ في أحَدٍ مِنهم، وأن يُلتَمَسَ لهم فيما نُقِلَ عنهم مِن مِثلِ ذلك فيما كان بَينَهم مِنَ الفِتَنِ أحسَنُ التَّأويلاتِ، ويُخرَجَ لهم أصوَبُ المَخارِج؛ إذ هم أهلُ ذلك، ولا يُذكَرَ أحَدٌ مِنهم بسُوءٍ، ولا يُغمَصَ عليه أمرٌ، بَل نَذكُرُ حَسَناتِهم وفضائِلَهم وحَميدَ سِيَرِهم، ويُسكَتُ عَمَّا وراءَ ذلك)
[852] ((متن الطحاوية)) (ص: 81، 82). .
وقال ابنُ تيميَّةَ في اعتِقادِ الفِرقةِ النَّاجيةِ المَنصورةِ إلى قيامِ السَّاعةِ؛ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: (ويُمسِكونُ عَمَّا شَجَر بينَ الصَّحابةِ، ويَقولونَ: إنَّ هَذِه الآثارَ المَرويَّةَ في مَساويهِم مِنها ما هو كَذِبٌ، ومِنها ما قَد زِيدَ فيه ونُقِصَ، وغُيِّرَ عن وَجهِه، والصَّحيحُ منه هم فيه مَعذورونَ، إمَّا مُجتَهِدونَ مُصيبونَ، وإمَّا مُجتَهِدونَ مُخطِئونَ.
وهم مَعَ ذلك لا يَعتَقِدونَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ مَعصومٌ عن كَبائِرِ الإثمِ وصَغائِرِه، بَل يَجوزُ عليهمُ الذُّنوبُ في الجُملةِ، ولهم مِنَ السَّوابقِ والفَضائِل ما يوجِبُ مَغفِرةَ ما يَصدُرُ مِنهم إن صَدَر، حَتَّى إنَّه يُغفَرُ لهم مِنَ السَّيِّئاتِ ما لا يُغفَرُ لِمَن بَعدَهم؛ لأنَّ لهم مِنَ الحَسَناتِ التي تَمحو السَّيِّئاتِ ما ليس لمَن بَعدَهم.
وقد ثَبَتَ بقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّهم خَيرُ القُرونِ»
[853] لَفظُه: عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ النَّاسِ قَرني، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم)). أخرجه البخاري (2652) واللفظ له، ومسلم (2533). ، وأنَّ المُدَّ مِن أحَدِهم إذا تَصَدَّقَ به كان أفضَلَ مِن جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعدَهم
[854] لَفظُه: عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحَدَكُم أنفقَ مِثلَ أحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه)). أخرجه البخاري (3673) واللفظ له، ومسلم (2541). .
ثُمَّ إذا كان قد صَدَرَ عن أحَدِهم ذَنبٌ فيَكونُ قد تابَ مِنه، أو أتى بحَسَناتٍ تَمحوه، أو غُفِرَ له بفَضلِ سابقَتِه، أو بشَفاعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذينَ هم أحَقُّ النَّاسِ بشَفاعَتِه، أوِ ابتُليَ ببَلاءٍ في الدُّنيا كُفِّر به عنه.
فإذا كان هذا في الذُّنوبِ المُحَقَّقةِ، فكَيف بالأُمورِ التي كانوا فيها مُجتَهِدينَ: إن أصابوا فلهم أجرانِ، وإن أخطؤوا فلهم أجرٌ واحِدٌ، والخَطَأُ مَغفورٌ؟!
ثُمَّ القَدْرُ الذي يُنكَرُ مِن فِعلِ بَعضِهم قَليلٌ نَزْرٌ مَغمورٌ في جَنبِ فضائِلِ القَومِ ومَحاسِنِهم مِن الإيمانِ باللهِ ورَسولِه، والجِهادِ في سَبيلِه، والهِجرةِ، والنُّصرةِ، والعِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ الصَّالحِ.
ومَن نَظَرَ في سيرةِ القَومِ بعِلمٍ وبَصيرةٍ، وما مَنَّ اللهُ به عليهم مِنَ الفضائِلِ، عَلِمَ يَقينًا أنَّهم خَيرُ الخَلقِ بَعدَ الأنبياءِ، لا كان ولا يَكونُ مِثلُهم، وأنَّهم هم صَفوةُ الصَّفوةِ مِن قُرونِ هذه الأُمَّةِ، التي هيَ خَيرُ الأُمَمِ وأكرَمُها على اللهِ
[855] لَفظُه: عن معاويةَ بنِ حَيْدةَ رضِي الله عنه أنَّه سمِع النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ في قولِه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] قال: ((إنَّكم تُتِمُّونَ سَبعينَ أمَّةً أنتُم خيرُها وأكرُمها على الله)). أخرجه التِّرمذيُّ (3001) واللفظُ له، وابنُ ماجه (4288)، وأحمدُ (20029). صحَّحه ابنُ العربيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (6/112)، وابنُ بازٍ في ((مجموع الفتاوى)) (5/59)، وجوَّده ابنُ تيميةَ في ((الجواب الصحيح)) (2/232)، وحسَّنه التِّرمذيُّ، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1115). [856] ((العقيدة الواسطية)) (ص: 120-122). .