موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في مكانةِ العُلَماءِ وأهميَّةِ التَّأدُبِ معَهم


العُلَماءُ ورَثةُ الأنبياءِ، وقد رَفعَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ دَرَجَتَهم، وأثنى عليهم، ولَم يُسَوِّ بَينَهم وبَينَ غَيرِهم، وقَرَن شَهادَتهم بشَهادَتِه؛ قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] ، وقال عَزَّ وجَلَّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28] ، وقال جَلَّ ثناؤه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9] ، وقال سُبحانَه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18] ، ((بَدَأ بنَفسِه الشَّريفةِ، وثَنَّى بالمَلائِكةِ، وثَلَّث بأولي العِلمِ، وناهيكَ بذلك فَضلًا وشَرَفًا!) [881] ((المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح)) للدمياطي (ص: 5). وقال ابنُ القَيِّمِ: (استَشْهَد سُبحانَه بأُولي العِلمِ على أجَلِّ مَشهودٍ عليه، وهو توحيدُه، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] . وهذا يدُلُّ على فَضْلِ العِلمِ وأهلِه مِن وُجوهٍ: أحَدُها: استِشهادُهم دونَ غَيرِهم مِنَ البَشَرِ. والثَّاني: اقتِرانُ شَهادتِهم بشَهادتِه. والثَّالِثُ: اقترانُها بشَهادةِ مَلائِكَتِه. والرَّابعُ: أنَّ في ضِمنِ هذا تَزكِيَتَهم وتَعديلَهم؛ فإنَّ اللهَ لا يَستَشهِدُ مِن خَلْقِه إلَّا العُدولَ ... الخامِسُ: أنَّه وصَفَهم بكَونِهم أُولي العِلمِ، وهذا يدُلُّ على اختِصاصِهم به، وأنَّهم أهلُه وأصحابُه، ليس بمُستعارٍ لهم. السَّادِسُ: أنَّه سُبحانَه استَشهَدَ بنَفسِه -وهو أجَلُّ شاهِدٍ-، ثُمَّ بخِيارِ خَلقِه -وهم ملائِكَتُه والعُلَماءُ مِن عِبادِه-، ويَكفي بهذا فَضلًا وشَرَفًا. السَّابعُ: أنَّه استَشهَد بهم على أجَلِّ مَشهودٍ به وأعظَمِه وأكبَرِه، وهو شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا هو. والعَظيمُ القَدْرِ إنَّما يَستَشهِدُ على الأمرِ العَظيمِ أكابِرَ الخَلقِ وساداتِهم. الثَّامِنُ: أنَّه سُبحانَه جَعَل شَهادَتَهم حُجَّةً على المُنكِرينَ، فهم بمَنزِلةِ أدِلَّتِه وآياتِه وبَراهينِه الدَّالَّةِ على تَوحيدِه. التَّاسِعُ: أنَّه سُبحانَه أفرَدَ الفِعلَ المتَضَمِّنَ لهذه الشَّهادةِ الصَّادرةِ منه ومِن ملائِكَتِه ومنهم، ولم يَعطِفْ شَهادَتَهم بفِعلٍ آخَرَ غيرِ شَهادتِه، وهذا يدُلُّ على شِدَّةِ ارتِباطِ شَهادتِهم بشَهادتِه، فكأنَّه سُبحانَه شَهِدَ لنَفسِه بالتَّوحيدِ على ألسِنَتِهم، وأنطَقَهم بهذه الشَّهادةِ، فكان هو الشَّاهِدَ بها لنَفسِه إقامةً وإنطاقًا وتعليمًا، وهم الشَّاهِدونَ بها له إقرارًا واعترافًا وتصديقًا وإيمانًا. العاشِرُ: أنَّه سُبحانَه جعَلَهم مُؤَدِّينَ لحَقِّه عند عِبادِه بهذه الشَّهادةِ، فإذا أدَّوها فقد أدَّوُا الحَقَّ المشهودَ به، فثَبَت الحَقُّ المشهودُ به، فوجَب على الخَلقِ الإقرارُ به، وكان في ذلك غايةُ سَعادتِهم في مَعاشِهم ومَعادِهم. وكُلُّ من ناله هُدًى بشهادتِهم، وأقَّر بهذا الحَقِّ بسَبَبِ شَهادتِهم، فلهم مِثلُ أجرِه. وهذا فَضلٌ عَظيمٌ لا يُدرِكُ قَدْرَه إلَّا اللهُ. وكذلك كُلُّ من شَهِدَ بها عن شَهادتِهم، فلهم من الأجرِ مِثلُ أجرِه أيضًا). ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 131-133). وقال ابنُ رَجَبٍ: (قد يُطلَقُ اسمُ العُلَماءِ ويُرادُ إدخالُ الأنبياءِ فيهم، كما في قَولِه تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] ، فلَم يُفرِدِ الأنبياءَ بالذِّكرِ، بَل أدخَلَهم في مُسَمَّى العُلَماءِ، وكَفى بهذا شَرَفًا للعُلَماءِ أنَّهم يُسَمَّونَ باسمٍ يَجتَمِعونَ هم والأنبياءُ فيه! ومِن هنا قال مَن قال: إنَّ العُلَماءَ العامِلينَ هم أولياءُ اللهِ). ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/ 50). .
فلذا يَنبَغي الأدَبُ مَعَهم، وحِفظُ حُرمَتِهم، والتَّنَزُّهُ عَنِ الوقيعةِ فيهم والنَّيلِ مِن مَراتِبهمُ الرَّفيعةِ، ومَعرِفةُ قَدرِهم وحُقوقِهمُ المُتَعَدِّدةِ؛ إذ لَهم حُقوقُ المُسلمينَ عامَّةً، ثُمَّ لَهم حُقوقٌ أُخرى خاصَّةٌ، فلَهم كُلُّ ما ثَبَتَ مِن حُقوقِ المُسلمِ على أخيه المُسلمِ، ولَهم حُقوقُ المُسِنِّينَ والأكابرِ [882] قال الحَكيمُ التِّرمِذيُّ: (الإجلالُ للكَبيرِ هو حَقٌّ سَنَّه اللهُ تعالى أنَّه تَقَلَّبَ في العُبودةِ للَّهِ تعالى في مُدَّةٍ طَويلةٍ... ومَعرِفةُ حَقِّ العالمِ هو حَقُّ العِلمِ أن يُعرَفَ قَدرُه بما رَفعَ اللهُ مِن قَدرِه وآتاه العِلمَ؛ قال تعالى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] ، فيَعرِفَ دَرَجاتِه التي رَفعَ اللهُ له بما آتاه مِنَ العِلمِ). ((نوادر الأصول)) (1/ 187). ، ولهم حُقوقُ حَمَلةِ القُرآنِ الكَريمِ، ولَهم حُقوقُ العُلَماءِ العامِلينَ، والأولياءِ الصَّالحينَ... ومِنَ المَعلومِ أنَّه لا يَستَوي ما حَرَّمَه اللهُ مِن جِهةٍ واحِدةٍ، وما حَرَّمَه مِن جِهاتٍ مُتَعَدِّدةٍ؛ فالجُرمُ يَعظُمُ بتَعَدُّدِ جِهاتِ الانتِهاكِ، ويَعظُمُ تَبَعًا لذلك الإثمُ، ويَتَضاعَفُ العِقابُ [883] يُنظر: ((الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام)) للمقدم (ص: 8-10). .
و(التَّأدُّبُ مَعَ العُلَماءِ الموقِّعينَ عن رَبِّ العالَمينَ هو تَأدُّبٌ مَعَ اللهِ تعالى، وتَعظيمُ العُلَماءِ تَعظيمٌ لشَعائِرِ اللهِ، وقد قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] ، و "الشَّعيرةُ" هيَ كُلُّ ما أشعَرَ اللَّهُ بتَعظيمِه مِن أعلامِ الدِّينِ. وتَوقيرُ حَمَلةِ الشَّرعِ وحُماتِه مِن تَوقيرِ الشَّارِعِ نَفسِه عَزَّ وجَلَّ؛ قال تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَرجْوُنَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح: 13] ، قال سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ: "ما لكم لا تُعَظِّمونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِه" [884] ذكره الثعلبي في ((التفسير)) (10/44). ورُوِي من قولِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. أخرجه الطبري في ((التفسير)) (23/634) عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ من قولِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. وأخرجه البخاري معلَّقًا بصيغةِ الجزمِ قبل حديث (4920)، وأخرجه موصولًا الطبري في ((التفسير)) (23/634)، وابنُ أبي حاتم في ((التفسير)) (19486)، ولفظُ البخاريِّ: قال ابنُ عبَّاسٍ: وَقَارًا عَظَمةً. قال ابنُ حجر في ((تهذيب التهذيب)) (1/306): وصَله ابنُ أبي حاتم. ، وكُلُّ ما يَشرُفُ بالإضافةِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ فإنَّ حَقَّه التَّعظيمُ، قال سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ رَحِمَه اللهُ: "لا تَقولوا: مُصَيحِفٌ، ولا مُسَيجِدٌ؛ ما كان للَّهِ فهو عَظيمٌ حَسَنٌ جَميلٌ".
وقد بَلَغَ أمرُ تَعظيمِ العُلَماءِ، ووُجوبِ صيانةِ تاريخِ أكابرِ المُسلمينَ إلى حَدِّ النَّصِّ عليه في مُتونِ "الاعتِقادِ" التي لا تَضُمُّ إلَّا أُمَّهاتِ قَضايا العَقيدةِ المُتَّفَقَ عليها عِندَ أهلِ السُّنَّةِ، بحَيثُ لا يُخالِفُ فيها إلَّا شاذٌّ خارِجٌ عَنِ الجَماعةِ؛ قال الإمامُ الطَّحاويُّ في "عَقيدَتِه" المَشهورةِ:
"وعُلَماءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابقينَ، ومَن بَعدَهم مِنَ التَّابِعينَ، أهلُ الخَيرِ والأثَرِ، وأهلُ الفِقهِ والنَّظَرِ، لا يُذكَرونَ إلَّا بالجَميلِ، ومَن ذَكَرهم بسوءٍ فهو على غَيرِ سَبيلٍ") [885] ((الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام)) (ص: 197، 198). .
وفيما يَلي بيانُ أهمِّ الآدابِ التي يَنْبغي مراعاتُها معَ العلماءِ:

انظر أيضا: