خامسًا: الرِّفقُ وحُسنُ الخُلُقِ
يَنبَغي أن يَكونَ الآمِرُ بالمَعروفِ والنَّاهي عنِ المُنكَرِ حَسَنَ الخُلُقِ، رَفيقًا، مُشفِقًا على مَن يَأمُرُه ويَنهاه، فيَأمُرَ باللِّينِ، ولا يَكونَ فَظًّا غَليظًا
[2124] قال سُفيانُ الثَّوريُّ: (لا يَأمُرُ بالمَعروفِ ويَنهى عنِ المُنكَرِ إلَّا مَن كان فيه خِصالٌ ثَلاثٌ: رَفيقٌ بما يَأمُرُ، رَفيقٌ بما يَنهى، عَدلٌ بما يَأمُرُ، عَدلٌ بما يَنهى، عالِمٌ بما يَأمُرُ، عالِمٌ بما يَنهى). ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 256). وقال الغَزاليُّ: (أمَّا حُسنُ الخُلُقِ فليَتَمَكَّنَ به مِنَ اللُّطفِ والرِّفقِ، وهو أصلُ البابِ وأساسُه، والعِلمُ والورَعُ لا يَكفيانِ فيه؛ فإنَّ الغَضَبَ إذا هاجَ لم يَكفِ مُجَرَّدُ العِلمِ والورَعِ في قَمعِه ما لم يَكُنْ في الطَّبعِ قَبولُه بحُسنِ الخُلُقِ، وعلى التَّحقيقِ فلا يَتِمُّ الورَعُ إلَّا مَعَ حُسنِ الخُلُقِ، والقُدرةِ على ضَبطِ الشَّهوةِ والغَضَبِ، وبه يَصبرُ المُحتَسِبُ على ما أصابَه في دينِ اللهِ، وإلَّا فإذا أُصيبَ عِرْضُه أو مالُه أو نَفسُه بشَتمٍ أو ضَربٍ، نَسيَ الحِسبةَ وغَفَل عن دينِ اللهِ واشتَغَل بنَفسِه، بَل رُبَّما يُقدِمُ عليه ابتِداءً لطَلَبِ الجاهِ والاسمِ). ((إحياء علوم الدين)) (2/ 333). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال الله سبحانه لموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44] .
أي: اذهَبا إلى فِرعَونَ؛ لأنَّه تَمَرَّد وتَجاوَزَ الحَدَّ في الكُفرِ والعِصيانِ، والتَّكَبُّرِ والعُدوانِ، فقُولا له عِندَ دَعوتِه إلى اللهِ قَولًا رَقيقًا لطيفًا، لا غِلظةَ فيه ولا تَنفيرَ.
كما قال تعالى:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19] .
وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ لا بُدَّ أن يَكونَ بالحِكمةِ والرِّفقِ واللِّينِ، وأنَّه يُستَحَبُّ إلانةُ القَولِ للظَّالمِ عِندَ وَعظِه؛ لعَلَّه يَرجِعُ، فإذا كان موسى أُمِرَ بأن يَقولَ لفِرعَون قَولًا ليِّنًا، فمَن دونَه أحرى بأن يَقتَديَ بذلك في خِطابِه، وأمرِه بالمَعروفِ في كَلامِه. وقد قال اللهُ تعالى:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] [2125] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (16/ 424، 440). .
2- قال تعالى لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عائِشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ الرِّفقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَه)) [2126] أخرجه مسلم (2594). .
وفي رِوايةٍ:
((يا عائِشةُ، إنَّ اللَّهَ رَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، ويُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنفِ، وما لا يُعطي على ما سِواه)) [2127] أخرجها مسلم (2593) وقَولُه: ((إنَّ اللَّهَ رَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ)) أخرجه البخاري (6927). .
2- عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ)) [2128] أخرجه مسلم (2592). .
3- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أُعطِيَ حَظَّه مِنَ الرِّفقِ فقَد أُعطيَ حَظَّه مِنَ الخَيرِ، ومَن حُرِمَ حَظَّه مِنَ الرِّفقِ فقَد حُرِمَ حَظَّه مِنَ الخَيرِ)) [2129] أخرجه الترمذي (2013) واللفظ له، وأحمد (27553) مُطوَّلًا دونَ ذِكرَ "ومَن حُرِم..". صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2013)، وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27553): بَعضُه صحيحٌ، وبَعضُه صحيحٌ لغَيرِه. .
4- عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((إنَّ فتًى شابًّا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ائذَنْ لي بالزِّنا، فأقبَل القَومُ عليه فزَجَروه وقالوا: مَه مَه [2130] مَهْ: بفَتحِ ميمٍ وسكونِ هاءٍ: اسمُ فِعلٍ بمعنى اكفُفْ وامتَنِعْ عن ذلك، فهي كَلِمةُ زَجرٍ، قيل: أصلُه: ما هذا، ثمَّ حُذِف استِخفافًا، وتقالُ مكرَّرةً ومُفردةً. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 65)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3054). ! فقال: ادْنُه، فدَنا مِنه قَريبًا. قال: فجَلسَ قال: أتَحُبُّه لأُمِّك؟ قال: لا واللَّهِ، جَعَلني اللهُ فِداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهاتِهم. قال: أفتُحِبُّه لابنَتِك؟ قال: لا واللَّهِ يا رَسولَ اللهِ جَعَلني اللهُ فداءَك، قال: ولا النَّاس يُحِبُّونَه لبَناتِهم. قال: أفتُحِبُّه لأُختِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأخَواتِهم. قال: أفتُحِبُّه لعَمَّتِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعَمَّاتِهم. قال: أفتُحِبُّه لخالتِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم. قال: فوضعَ يَدَه عليه وقال: اللهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّنْ فرجَه. قال: فلم يَكُنْ بَعدَ ذلك الفتى يَلتَفِتُ إلى شَيءٍ)) [2131] أخرجه أحمد (22211) واللفظ له، والطبراني (8/190) (7679)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5415). صحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (501)، وصحَّح إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/712)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22211)، وجَوَّده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/411). .
5- عن مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((بَيْنا أنا أُصَلِّي مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ عَطَس رجُلٌ من القومِ، فقُلتُ: يرحمُك اللَّهُ! فرماني القومُ بأبصارِهم، فقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاه [2132] الثُّكلُ: الحُزنُ لفقدِ الولدِ. والمَرأةُ الثَّكلى: الفاقِدةُ لولدِها، الحَزينةُ عليه. وأمِّياه: مُضافٌ إلى ثُكلٍ، وكِلاهما مُنادى مَندوبٌ، وأمِّياه أصلُه: أُمِّي، زيدَت عليها الألفُ لمَدِّ الصَّوتِ، وأردِفَت بهاءِ السَّكتِ الثَّابتةِ في الوقفِ، المَحذوفةِ في الوَصلِ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (2/ 137، 138)، ((شرح مسلم)) للنووي (5/ 20). ! ما شأنُكم تَنظُرون إليَّ؟! فجَعَلوا يَضرِبون بأيديهم على أفخاذِهم، فلمَّا رأيتُهم يُصَمِّتُونني [2133] يُصَمِّتونَني: يأمرونَني بالصَّمتِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 233). لكِنِّي سكَتُّ، فلمَّا صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ مُعَلِّمًا قَبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليمًا منه، فواللهِ ما كَهَرني [2134] أي: ما انتَهَرَني ولا أغلَظَ لي، والكَهرُ: الانتِهارُ. وقيل: الكَهرُ: استِقبالُك الإنسانَ بالعُبوسِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (3/ 114)، ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 221، 222). ولا ضرَبني، ولا شتَمَني. قال: إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقراءةُ القرآنِ، أو كَما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...)) الحَديثَ
[2135] أخرجه مسلم (537). .
مِن أقوالِ السَّلفِ في الرِّفقِ1- عن حَنبَلٍ أنَّه سَمِعَ أبا عَبدِ اللَّهِ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ يَقولُ: (النَّاسُ يحتاجون إلى مُداراةٍ ورِفقٍ، والأمرِ بالمعروفِ بلا غِلظةٍ، إلَّا رجُلٌ مُعلِنٌ بالفِسقِ فقد وجب عليك نهيُه وإعلامُه؛ لأنَّه يُقالُ: ليس لفاسِقٍ حُرمةٌ، فهذا لا حُرمةَ له)
[2136] رواه الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 24). .
وعن مُهَنَّا، قال: (سَألتُ أبا عَبدِ اللَّهِ عنِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، كَيف يَنبَغي أنْ يأمُرَ؟ قال: يَأمُرُ بالرِّفقِ والخُضوعِ، ثُمَّ قال: إن أسمَعوه ما يَكرَه لا يَغضَبُ؛ فيَكونَ يُريدُ يَنتَصِرُ لنَفسِه)
[2137] رواه الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 28). .
وعن أبي طالِبٍ أنَّه قال لأحمَدَ بنِ حَنبَلٍ: (إذا أمَرتُه بالمَعروفِ فلم يَنتَهِ أدَعُه، لا أقولُ له شَيئًا؟ قال: لا، مُرْ بالمَعروفِ، قُلتُ له: فإن أسمَعَني؟ قال: دَعْه، إن رَدَدتَ عليه ذَهَبَ الأمرُ بالمَعروفِ، وصِرتَ تَنتَصِرُ لنَفسِك؛ فتَخرُجُ إلى الإثمِ، فإذا أمَرتَ بالمَعروفِ فإن قَبِل مِنك وإلَّا فدَعْه)
[2138] رواه الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 28، 29). ثُمَّ رَوى عن أرطاةَ بنِ المُنذِرِ، قال: (المُؤمِنُ لا يَنتَصِرُ لنَفسِه، يَمنَعُه مِن ذلك القُرآنُ والسُّنَّةُ، فهو مُلجَمٌ). .
2- عن مُعتَمِرٍ، قال: سَمِعتُ أبي يَقولُ: (ما أغضَبتَ رَجُلًا فقَبِلَ مِنك)
[2139] رواه الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 26، 27). .
3- عن مَيمونِ بنِ مِهرانَ، عن عَبدِ المَلِكِ بنِ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ، قال لأبيه: يا أبَتِ، ما يَمنَعُك أن تَمضيَ لِما تُريدُه مِنَ العَدلِ، فواللهِ ما كُنتُ أُبالي لو غَلَت بي وبك القُدورُ في ذلك؟! قال: (يا بُنَيَّ، إنِّي إنَّما أُرَوِّضُ النَّاسَ رياضةَ الصَّعبِ، إنِّي أُريدُ أن أُحييَ الأمرَ مِنَ العَدلِ، فأُؤَخِّرَ ذلك حتَّى أُخرِجَ مَعَه طَمَعًا مِن طَمَعِ الدُّنيا، فيَنفِروا مِن هذه، ويَسكُنوا لهذه)
[2140] رواه الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 26). .
نماذجُ حسنةٌ في الرِّفقِ1- عن مُهَنَّا، قال: قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (كان أصحابُ ابنِ مَسعودٍ إذا مَرُّوا بقَومٍ يَرَونَ مِنهم ما يَكرَهونَ، يَقولونَ: مَهلًا رَحِمَكُمُ اللهُ)
[2141] رواه الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 25). .
2- عن عُمارةَ، قال: (حَضَرتُ الحَسَنَ ودُعيَ إلى عُرسٍ، فجيءَ بجامٍ
[2142] الجامُ: هو إناءٌ مِن فِضَّةٍ. يُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (7/ 573)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 136)، ((عمدة القاري)) للعيني (14/ 76)، ((انتقاض الاعتراض)) لابن حجر (2/ 215). مِن فِضَّةٍ عليه خَبيصٌ
[2143] يقال: خَبَصه يخبِصُه: خَلَطه، فهو خَبيصٌ ومخبوصٌ، ومنه الخَبيصُ: المعمولُ من التَّمرِ والسَّمنِ، حَلواءُ، معروفٌ يُخبَصُ بَعضُه في بعضٍ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (17/ 542). أو طَعامٌ، فتَناوَلَه فقَلَبَه على رَغيفٍ فأصابَ مِنه، فقال رَجُلٌ إلى جانِبي: هذا نَهيٌ في سُكونٍ!)
[2144] رواه الخلال في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 25، 26). .
3- قال الغَزاليُّ: (ويدُلُّ على وُجوبِ الرِّفْقِ ما استدَلَّ به المأمونُ إذ وعظه واعظٌ وعَنَّف له في القولِ، فقال: يا رجُلُ، ارفُقْ؛ فقد بعث اللهُ مَن هو خيرٌ منك إلى من هو شَرٌّ منِّي، وأمَره بالرِّفْقِ، فقال تعالى:
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44] ؛ فليكُنْ اقتداءُ المحتَسِبِ في الرِّفْقِ بالأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم...
وقيل للفُضَيلِ بنِ عِياضٍ رَحِمَه اللهُ: إنَّ سُفيانَ بنَ عُيَينةَ قَبِلَ جَوائِزَ السُّلطانِ! فقال الفُضَيلُ: ما أخَذَ مِنهم إلَّا دونَ حَقِّه. ثُمَّ خَلا به وعَذَله
[2145] عَذَله يَعذِلُه عَذلًا: لامَه. يُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (2/ 81). ووبَّخَه! فقال سُفيانُ: يا أبا عليٍّ، إن لم نَكُنْ مِنَ الصَّالحينَ فإنَّا لنُحِبُّ الصَّالحينَ!
وقال حَمَّادُ بنُ سَلَمةَ: إنَّ صِلةَ بنَ أشيَمَ مَرَّ عليه رَجُلٌ قد أسبَل إزارَه فهَمَّ أصحابُه أن يَأخُذوه بشِدَّةٍ، فقال: دَعَوني أنا أكفيكُم، فقال: يا ابنَ أخي، إنَّ لي إليك حاجةً، قال: وما حاجَتُك يا عَمِّ؟ قال: أُحِبُّ أن تَرفَعَ مِن إزارِك، فقال: نَعَم وكَرامةً! فرَفعَ إزارَه، فقال لأصحابِه: لو أخَذتُموه بشِدَّةٍ لقال: لا ولا كَرامةَ، وشَتَمَكم
[2146] يُنظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن أبي الدنيا (48). .
وقال مُحَمَّدُ بنُ زَكَريَّا الغَلَّابيُّ شَهِدتُ عَبدَ اللَّهِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ عائِشةَ ليلةً وقد خَرَجَ مِنَ المَسجِدِ بَعدَ المَغرِبِ يُريدُ مَنزِلَه، وإذا في طَريقِه غُلامٌ مِن قُرَيشٍ سَكرانُ وقد قَبَضَ على امرَأةٍ فجَذَبَها فاستَغاثَت فاجتَمَعَ النَّاسُ عليه يَضرِبونَه، فنَظَرَ إليه ابنُ عائِشةَ فعَرَفه، فقال للنَّاسِ: تَنَحَّوا عن ابنِ أخي، ثُمَّ قال: إليَّ يا ابنَ أخي، فاستَحيا الغُلامُ، فجاءَ إليه فضَمَّه إلى نَفسِه، ثُمَّ قال له: امضِ مَعي، فمَضى مَعَه حتَّى صارَ إلى مَنزِلِه، فأدخَله الدَّارَ وقال لبَعضِ غِلمانِه: بَيِّتْه عِندَك، فإذا أفاقَ مِن سُكرِه فأعلِمْه بما كان مِنه، ولا تَدعْه يَنصَرِفُ حتَّى تَأتيَني به، فلمَّا أفاقَ ذُكِر له ما جَرى فاستَحيا مِنه وبَكى وهمَّ بالانصِرافِ، فقال الغُلامُ: قد أمَرَ أن تَأتيَه، فأدخَله عليه فقال له: أمَا استَحيَيتَ لنَفسِك؟! أمَا استَحيَيتَ لشَرَفِك؟! أما تَرى مِن وَلَدِك؟! فاتَّقِ اللَّهَ وانزِعْ عَمَّا أنتَ فيه، فبَكى الغُلامُ مُنَكِّسًا رَأسَه، ثُمَّ رَفعَ رَأسَه وقال: عاهَدتُ اللَّهَ تعالى عَهدًا يَسألُني عنه يَومَ القيامةِ أنِّي لا أعودُ لشُربِ النَّبيذِ ولا لشَيءٍ مِمَّا كُنتُ فيه، وأنا تائِبٌ، فقال: ادنُ مِنِّي، فقَبَّل رَأسَه، وقال: أحسَنتَ يا بُنَيَّ، فكان الغُلامُ بَعدَ ذلك يَلزَمُه ويَكتُبُ عنه الحَديثَ، وكان ذلك ببَرَكةِ رِفقِه، ثُمَّ قال: إنَّ النَّاسَ يَأمُرونَ بالمَعروفِ ويَنهَونَ عنِ المُنكَرِ، ويَكونُ مَعروفُهم مُنكَرًا؛ فعليكُم بالرِّفقِ في جَميعِ أُمورِكُم تَنالونَ به ما تَطلُبونَ.
وعنِ الفَتحِ بنِ شُخْرُفٍ قال: تَعَلَّق رَجُلٌ بامرَأةٍ وتَعَرَّض لها وبيَدِه سِكِّينٌ، لا يَدنو مِنه أحَدٌ إلَّا عَقَرَه، وكان الرَّجُلُ شَديدَ البَدَنِ، فبَينا النَّاسُ كذلك والمَرأةُ تَصيحُ في يَدِه إذ مَرَّ بِشرُ بنُ الحارِثِ، فدَنا مِنه وحَكَّ كَتِفَه بكَتِفِ الرَّجُلِ، فوقَعَ الرَّجُلُ على الأرضِ! ومَشى بِشرٌ فدَنَوا مِنَ الرَّجُلِ وهو يَتَرَشَّحُ عَرَقًا كَثيرًا ومَضَتِ المَرأةُ لحالها! فسَألوه: ما حالُك؟ فقال: ما أدري! ولكِن حاكَّني شَيخٌ وقال لي: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ ناظِرٌ إليك وإلى ما تَعمَلُ! فضَعُفَت لقَولِه قدَمايَ وهِبْتُه هَيبةً شَديدةً، ولا أدري مَن ذلك الرَّجُلُ؟! فقالوا له: هو بِشرُ بنُ الحارِثِ، فقال: واسَوأَتاه! كَيف يَنظُرُ إليَّ بَعدَ اليَومِ، وحُمَّ الرَّجُلُ مِن يَومِه وماتَ يَومَ السَّابعِ! فكَذا كانت عادةُ أهلِ الدِّينِ في الحِسبةِ)
[2147] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 334، 335). .