موسوعة الآداب الشرعية

سابعَ عشرَ: تَركُ اليَأسِ وعَدَمُ الِانقِطاعِ عنِ الدَّعوةِ


يَنبَغي للدَّاعي إلى اللهِ ألَّا يَنقَطِعَ عنِ الدَّعوةِ وإن لَم يُستَجَبْ له، ولا يَستَعجِلَ الثَّمَرةَ، ولا يَيأَسَ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125]
إنَّ (الدَّعوة بوَجهَيها الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ يَجِبُ أن تَكونَ عامَّةً، والجِدالُ على وَجهِه عامٌّ مِثلُها، ثُمَّ يَكونُ حَظُّ كُلِّ أحَدٍ مِنَ الهُدى والضَّلالِ على حَسَبِ استِعدادِه وقابِليَّتِه، وما سَبَقَ عليه مِن أمرِ رَبِّه، وتَكونُ مُجازاتُه على ذلك للخالِقِ الذي هو العالِمُ بمَن خَرَجَ عن طَريقِه وأعرَضَ عن هُداه، وبالذينِ قَبِلوا هُداه، فاهتَدَوا وساروا في سَبيلِه.
والعَدلُ الحَقيقيُّ التَّامُّ في الجَزاءِ إنَّما يَكونُ مِمَّن يَعلَمُ السِّرَّ والعَلَنَ، وليس ذلك إلَّا للَّهِ، فلا يَكونُ الجَزاءُ على الهُدى والضَّلالِ مِن سِواه؛ ولهذا خُتِمَت هذه الآيةُ الكَريمةُ بقَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وثَمَرةُ العِلمِ بهذا أنَّ الدَّاعيَ يَدعو ولا يَنقَطِعُ عنِ الدَّعوةِ ولَو لَم يَتبَعْه أحَدٌ؛ لأنَّه يَعلَمُ أنَّ أمرَ الهُدى والضَّلالِ إلى اللهِ، وإنَّما عليه البَلاغُ، وأنَّه يَصبِرُ على ما يَلقى مِن إعراضٍ وعِنادٍ وكَيدٍ وأذًى، دونَ أن يُجازيَ بالمِثلِ، أو يَفتُرَ في دَعوتِه مِن أذاه؛ لعِلمِه بأنَّ الذي يُجازي إنَّما هو اللهُ.
جَعَلَنا اللَّهُ والمُسلِمينَ مِنَ الدُّعاةِ إلى سَبيلِه كَما أمَرَ، الصَّابِرينَ المُحتَسِبينَ أمامَ مَن آمَنَ وشَكَرَ، ومَن جَحَدَ وكَفرَ؛ غَير مُنتَظَرينَ إلَّا جَزاءَه، ولا مُتَّكِلينَ إلَّا عليه، وهو حَسبُنا ونِعمَ الوَكيلُ) [2315] ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 326، 327). .
2- قال تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] .
3- قال تعالى عن نوحٍ عليه السَّلامُ: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] ، وهو الذي لَبِثَ فيهم أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 14] ، وقال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح: 5 - 9] .
4- قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل: 35 - 37] .
5- قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((عُرِضَتْ عليَّ الأمَمُ، فرَأيتُ النَّبيَّ ومَعَه الرُّهَيطُ [2316] الرُّهَيطُ: تصغيرُ الرَّهطِ، وهي الجماعةُ دونَ العَشَرةِ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (3/ 94). ، والنَّبيَّ ومَعَه الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنَّبيَّ ليس معه أحَدٌ)) [2317] أخرجه البخاري (5752)، ومسلم (220) واللفظ له. .
2- عن ابنِ المُسَيِّبِ، عن أبيه ((أنَّ أبا طالِبٍ لمَّا حَضَرَته الوفاةُ دَخَلَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعِندَه أبو جَهلٍ، فقال: أي عَمِّ، قُلْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَلِمةً أُحاجُّ لَك بها عِندَ اللهِ، فقال أبو جَهلٍ وعَبدُ اللَّهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالِبٍ، تَرغَبُ عن مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلِبِ، فلَم يَزالا يُكَلِّمانِه، حتَّى قال آخِرَ شَيءٍ كَلَّمَهم به: على مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلِبِ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لأَستَغفِرَنَّ لَك ما لَم أُنْهَ عنه، فنَزَلَت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] . ونَزَلَت: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] )) [2318] أخرجه البخاري (3884) واللفظ له، ومسلم (24). .

انظر أيضا: