موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: الدُّعاءُ لَهما في حَياتِهما وبَعدَ مَماتِهما


مِنَ الأدَبِ مَعَ الوالدَينِ: الدُّعاءُ لَهما حالَ الحَياةِ وبَعدَ الوفاةِ [1129] والدعاءُ يصلُ إلى الميتِ وينتفعُ به بالإجماعِ قال ابنُ قُدامَة: (وأيُّ قُربةٍ فعَلَها، وجعَل ثوابَها للميِّت المُسلِم، نفعَه ذلك إنْ شاء اللهُ؛ أمَّا الدُّعاء، والاستغفار، والصَّدقة، وأداءُ الواجباتِ، فلا أعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجباتُ ممَّا تدخُله النِّيابةُ). ((المغني)) (2/423). قال النوويُّ: (الدُّعاء يصلُ ثوابُه إلى الميِّت، وكذلك الصَّدقةُ، وهما مُجمَعٌ عليهما). ((شرح مسلم)) (11/85). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24] .
قال السَّعديُّ: (وقُل رَبُّ ارحَمهما، أي: ادعُ لَهما بالرَّحمةِ أحياءً وأمواتًا؛ جَزاءً على تَربيَتِهما إيَّاكَ صَغيرًا.
وفُهِمَ مِن هذا أنَّه كُلَّما ازدادَتِ التَّربيةُ ازدادَ الحَقُّ، وكَذلك مَن تَولَّى تَربيةَ الإنسانِ في دينِه ودُنياه تَربيةً صالحةً غَيرُ الأبَوينِ، فإنَّ له على مَن رَبَّاه حَقَّ التَّربيةِ) [1130] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 456). .
وقال ابنُ عاشورٍ: (أمَرَ بالدُّعاءِ لَهما برَحمةِ اللَّهِ إيَّاهما، وهيَ الرَّحمةُ التي لا يَستَطيعُ الولَدُ إيصالَها إلى أبَويه إلَّا بالابتِهالِ إلى اللهِ تعالى.
وهذا قدِ انتُقِلَ إليه انتِقالًا بَديعًا مِن قَولِه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] فكان ذِكرُ رَحمةِ العَبدِ مُناسِبةً للانتِقالِ إلى رَحمةِ اللهِ، وتَنبيهًا على أنَّ التَّخَلُّقَ بمَحَبَّةِ الولَدِ الخَيرَ لأبَويه يَدفعُه إلى مُعامَلَتِه إيَّاهما به فيما يَعلَمانِه وفيما يَخفى عَنهما، حَتَّى فيما يَصِلُ إليهما بَعدَ مَماتِهما.
وفي الآيةِ إيماءٌ إلى أنَّ الدُّعاءَ لَهما مُستَجابٌ؛ لأنَّ اللَّهَ أذِنَ فيه. والحَديثُ [1131] يَعني قَولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عَنه عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالحٍ يَدعو له)). أخرَجَه مُسلم (1631) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. مُؤَيِّدٌ ذلك؛ إذ جَعَلَ دُعاءَ الولَدِ عَمَلًا لأبَويه.
وحُكمُ هذا الدُّعاءِ خاصٌّ بالأبَوينِ المُؤمِنَينِ بأدِلَّةٍ أُخرى دَلَّت على التَّخصيصِ) [1132] ((التحرير والتنوير)) (15/ 72). .
2- ومِن دُعاءِ نَبيِّ اللهِ نوحٍ عليه السَّلامُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح: 28] .
ب- من السُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عَنه عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالحٍ يَدعو له)) [1133] أخرجه مسلم (1631). .
2- عن أبي كَثيرٍ يَزيدَ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ، قال: حَدَّثَني أبو هُرَيرةَ، قال: ((كُنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ وهي مُشرِكةٌ، فدعوتُها يومًا، فأسمعَتْني في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أكرَهُ! فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أبكي، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ إنِّي كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ، فتأبى عليَّ، فدعوتُها اليومَ فأسمعَتْني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدِيَ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فقال: اللهمَّ اهْدِ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فخرجتُ مُستبشِرًا بدعوةِ نَبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا جِئتُ فصِرْتُ إلى البابِ، فإذا هو مُجافٌ [1134] المُجافُ: المُغلَقُ، يُقالُ: أجَفْتُ البابَ: إذا أغلَقتَه، فهو مُجافٌ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 594)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 375). ، فسمعَتْ أمِّي خَشْفَ [1135] خَشْفَ قَدَميَّ: أي: صَوتَ وَقعِهما بالأرضِ، والخَشْفُ والخَشفةُ: الصَّوتُ والحَرَكةُ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 533)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 375). قَدَميَّ، فقالت: مكانَك يا أبا هُرَيرةَ، وسمعتُ خَضخَضةَ [1136] خَضحَضةَ الماءِ: صوتَ تحريكِه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 594). الماءِ، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها [1137] دِرعُ المرأةِ: قميصُها. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (6/ 235). ، وعَجِلَت عن خمارِها، ففتَحَت البابَ، ثُمَّ قالت: يا أبا هُرَيرةَ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه! فرجعتُ إلى رَسولِ اللهِ فأتيتُه وأنا أبكي من الفَرَحِ! قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ، قد استجاب اللهُ دعْوَتَك، وهدى أمَّ أبي هُرَيرةَ، فحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، وقال خَيرًا، قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ادعُ اللَّهَ أن يُحَبِّبَني أنا وأُمِّي إلى عِبادِه المُؤمِنينَ، ويُحَبِّبَهم إلينا، قال: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُمَّ حَبِّبْ عُبيدَك هذا -يَعني: أبا هُرَيرةَ- وأُمَّه إلى عِبادِك المُؤمِنينَ، وحَبِّبْ إليهمُ المُؤمِنينَ، فما خُلِقَ مُؤمِنٌ يَسمَعُ بي ولا يَراني إلَّا أحَبَّني)) [1138] أخرجه مسلم (2491). .
ج- مِنَ الآثارِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (تُرفَعُ للمَيِّتِ بَعدَ مَوتِه دَرَجَتُه. فيَقولُ: أيْ رَبِّ، أيُّ شَيءٍ هذه؟ فيُقالُ: ولدُك استَغفَر لَك) [1139] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (36). حسن إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (27) .
2- عن أبي مُرَّةَ مَولى أمِّ هانِئٍ ابنةِ أبي طالِبٍ: (أنَّه رَكِبَ مَعَ أبي هُرَيرةَ إلى أرضِه بالعَقيقِ، فإذا دَخَلَ أرضَه صاحَ بأعلى صَوتِه: عليكِ السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه يا أُمَّتاه، تَقولُ: وعليك السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه، يَقولُ: رَحِمَكِ اللهُ كما رَبَّيتِني صَغيرًا، فتَقولُ: يا بُنَيَّ، وأنتَ فجَزاك اللهُ خَيرًا ورَضيَ عَنك كما بَرَرْتَني كَبيرًا) [1140] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (14). حسن إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (11). .
3- قال مُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ: (كُنَّا عِندَ أبي هُرَيرةَ لَيلةً، فقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لأبي هُرَيرةَ، ولأُمِّي، ولمَنِ استَغفرَ لَهما. قال لي مُحَمَّدٌ: فنَحنُ نَستَغفِرُ لَهما حَتَّى نَدخُلَ في دَعوةِ أبي هُرَيرةَ) [1141] ((الأدب المفرد)) للبخاري (37). .
فائدةٌ:
قال محمَّد رشيد رضا في قَولِه تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 24-25] : (يُعَبِّرُ عَنِ العَطفِ في المُعامَلةِ بخَفضِ الجَناحِ، وأصلُه أنَّ الطَّائِرَ يَخفِضُ جَناحَه لفَرخِه يَقيه به تارةً، ويُعَلِّمُه الطَّيَرانَ أُخرى. وخَفضُ الجَناحِ مِنَ الذُّلِّ أبلَغُ مِن خَفضِه لأجلِ العَطفِ؛ فهذا مِن رِعايةِ الكَبيرِ للصَّغيرِ، ومِنه قَولُه تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ، وذاكَ مِن عِنايةِ الصَّغيرِ بالكَبيرِ، ولَم يُؤمَرْ أحَدٌ به لغَيرِ الوالدَينِ.
وفي تَشبيهِ ما أُمِرَ الولَدُ أن يَطلُبَه مِن رَحمةِ رَبِّه لوالدَيه برَحمَتِهما له عِندَما رَبَّياه في صِغَرِه تَعظيمٌ كَبيرٌ لرَحمةِ الوالدَينِ؛ ليَتَدَبَّرَ الأولادُ ذلك، ويَعلَموا أنَّ رَحمَتَهم لوالِدَيهم في الكِبَرِ والتَّذَلُّلَ لَهما لا يَكفي في أداءِ حُقوقِهما، وإنَّما عليهم أن يَدعوا اللَّهَ تعالى أن يُكافِئَهما عَنهم برَحمَتِه التي وسِعَت كُلَّ شَيءٍ، ولا يَعلوها شَيءٌ؛ ذلك بأنَّ رَحمةَ الوالدَينِ للولَدِ في صِغَرِه -ولا سيَّما الأُمِّ التي تَتَولَّى إزالةَ أقذارِه وغَيرَ ذلك- إنَّما تَكونُ مَعَ اللَّذَّةِ والرَّغبةِ والسُّرورِ، ولَن تَبلُغَ رَحمةُ الولَدِ بهما هذا الحَدَّ.
ولمَّا كان بُلوغُ هذا الحَدِّ مِنَ البرِّ والإحسانِ بالوالدَينِ عَزيزَ المَنالِ، ذَكَّر اللهُ عِبادَه بأنَّ المَدارَ فيه على حُسنِ النِّيَّةِ وصَلاحِ النَّفسِ، فإن وَقَع مَعَ ذلك تَقصيرٌ ما فإنَّه لا بُدَّ أن يُقرَنَ بالتَّوبةِ وحُسنِ الأوبةِ إلى التَّشميرِ بَعدَ التَّقصيرِ، واللَّهُ تعالى غَفورٌ للأوَّابينَ، أي: الكَثيري الرُّجوعِ إلى الحَقِّ والخَيرِ كُلَّما عَرَضَ لَهم ما يَصُدُّهم عَنِ المُضيِّ فيه أوِ الثَّباتِ عليه) [1142] ((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 358-360). .

انظر أيضا: