ثانيًا: مَحَبَّةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
يَجِبُ على العَبدِ أن يُحِبَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، وألَّا يُقدِّمَ على مَحَبَّتِه سُبحانَه شَيئًا
[26] قال ابنُ القيمِ: (أنفَعُ المُحِبَّةِ على الإطلاقِ وأوجَبُها وأعلاها وأجَلُّها مَحَبَّةُ مَن جُبِلَتِ القُلوبُ على مَحَبَّتِه، وفُطِرَتِ الخَليقةُ على تَأليهِه، وبِها قامَتِ الأرضُ والسَّمَواتُ، وعَليها فُطِرَتِ المَخلوقاتُ، وهيَ سِرُّ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ؛ فإنَّ الإلهَ هو الَّذي تَألَهه القُلوبُ بالمَحَبَّةِ والإجلالِ، والتَّعظيمِ والذُّلِّ له والخُضوعِ والتَّعَبُّدِ، والعِبادةُ لا تَصلُحُ إلَّا له وَحدَه، والعِبادةُ هيَ: كَمالُ الحُبِّ مَعَ كَمالِ الخُضوعِ والذُّلِّ، والشِّركُ في هذه العُبوديَّةِ مِن أظلَمِ الظُّلمِ الَّذي لا يَغفِرُه اللهُ، واللهُ تعالى يُحَبُّ لذاتِه مِن جَميعِ الوُجوهِ، وما سِواه فإنَّما يُحَبُّ تَبَعًا لمَحَبَّتِه) ((الداء والدواء)) لابن القيم (ص: 228). وقال ابنُ القَيِّمِ أيضًا عن مَنزِلةِ المَحَبَّةِ: (هي المنزِلةُ التي فيها تنافَسَ المتنافِسونَ، وإليها شَخَص العامِلونَ، وإلى عِلْمِها شَمَّر السَّابِقونَ، وعليها تَفانى المحبُّون، وبروحِ نَسيمِها ترَوَّح العابِدونَ، فهي قوتُ القُلوبِ، وغِذاءُ الأرواحِ، وقُرَّةُ العُيونِ، وهي الحياةُ الَّتي مَن حُرِمَها فهو من جملةِ الأمواتِ، والنُّورُ الَّذي مَن فَقَده فهو في بحارِ الظُّلُماتِ، والشِّفاءُ الذي مَن عَدِمَه حَلَّت بقَلْبِه جميعُ الأسقامِ، واللَّذَّةُ التي من لم يَظفَرْ بها فعَيشُه كُلُّه هُمومٌ وآلامٌ، وهي رُوحُ الإيمانِ والأعمالِ والمقاماتِ والأحوالِ، التي متى خَلَت منها فهي كالجَسَدِ الذي لا رُوحَ فيه). ((مدارج السالكين)) (3/ 8، 9). وقال أيضًا: (هيَ حَياةُ القُلوبِ، وغِذاءُ الأرواحِ، وليسَ للقَلبِ لذَّةٌ ولا نَعيمٌ ولا فلاحٌ ولا حَياةٌ إلَّا بها، وإذا فقَدَها القَلبُ كان ألمُه أعظَمَ مِن ألمِ العَينِ إذا فقدَت نورَها، والأُذُنِ إذا فقَدَت سَمعَها، والأنفِ إذا فقَدَ شَمَّه، واللِّسانِ إذا فقَدَ نُطقَه، بَل فَسادُ القَلبِ إذا خَلا مِن مَحَبَّةِ فاطِرِه وبارِئه وإلهِه الحَقِّ أعظَمُ مِن فَسادِ البَدَنِ إذا خَلا مِنَ الرُّوحِ، وهذا أمرٌ لا يُصَدِّقُ به إلَّا مَن فيه حَياةٌ، وما لجُرحٍ بمَيِّتٍ إيلامٌ). ((الداء والدواء)) (ص: 233، 234). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24] .
هذه الآيةُ الكريمةُ أعظَمُ دَليلٍ على وُجوبِ محَبَّةِ اللهِ ورَسولِه، وعلى تقديمِها على محبَّةِ كُلِّ شَيءٍ، وعلى الوعيدِ الشَّديدِ والمَقْتِ الأكيدِ على مَن كان شيءٌ من هذه المذكوراتِ أحَبَّ إليه مِن اللهِ ورَسولِه، وجِهادٍ في سَبيلِه.
وعلامةُ ذلك أنَّه إذا عُرِض عليه أمرانِ أحَدُهما يحبُّه اللهُ ورَسولُه، وليس لنَفْسِه فيه هوًى، والآخَرُ تحبُّه نَفْسُه وتَشتهيه، ولكنَّه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للهِ ورَسولِه، أو يَنقُصُه؛ فإنَّه إن قَدَّم ما تهواه نفسُه على ما يحِبُّه اللهُ، دلَّ ذلك على أنَّه ظالمٌ تارِكٌ لِما يَجِبُ عليه
[27] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 332). .
2- قال تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] .
فأخبَرَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ عِبادَه المُؤمِنينَ أشَدُّ حُبًّا له؛ وذلك لأنَّهم لم يُشرِكوا مَعَه في مَحَبَّتِه أحَدًا كَما فعَل مُدَّعُو مَحَبَّتِه مِنَ المُشرِكينَ الذينَ اتَّخَذوا مِن دونِه أندادًا يُحِبُّونَهم كحُبِّه، وعَلامةُ حُبِّ العَبدِ رَبَّه تَقديمُ مَحابِّه وإن خالفَت هَواه، وبُغضُ ما يُبغِضُ رَبَّه وإن مال إليه هَواه، وموالاةُ مَن والى اللَّهُ ورَسولُه، ومُعاداةُ مَن عاداه، واتِّباعُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واقتِفاءُ أثَرِه وقَبولُ هُداه. وكُلُّ هذه العَلاماتِ شُروطٌ في المَحَبَّةِ لا يُتَصَوَّرُ وُجودُ المَحَبَّةِ مَعَ عَدَمِ وُجودِ شَرطٍ مِنها
[28] ((معارج القبول)) لحافظ بن أحمد الحكمي (2/ 424). .
وفي هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ محبَّةَ اللهِ سُبحانَه مِن العِبادةِ؛ لأنَّ اللهَ جعَل مَن سوَّى غيرَه به فيها مشرِكًا متَّخِذًا للهِ نِدًّا؛ فالمحبَّةُ مِن العِبادةِ، بل هي أساسُ العِبادةِ؛ لأنَّ أساسَها مبنيٌّ على الحبِّ والتَّعظيمِ، وكلَّما ازداد إيمانُ العبدِ ازدادتْ محبَّتُه للهِ؛ وذلك لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى رتَّب شدَّةَ المحبَّةِ على الإيمانِ، فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وقد عُلِمَ أنَّ الحُكمَ إذا عُلِّق على وَصفٍ فإنَّه يَقْوى بقوَّةِ ذلك الوَصفِ، ويَنقُصُ بنَقصِه؛ فكُلَّما ازدادَ الإنسانُ إيمانًا باللهِ عَزَّ وجَلَّ ازدادَ حُبًّا له
[29] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/225، 226). .
3- قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31] .
قال السَّعديُّ: (هذه الآيةُ فيها وجوبُ مَحَبَّةِ اللهِ، وعَلاماتُها، ونَتيجتُها، وثَمَراتُها؛ فقال:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ أي: ادَّعَيتُم هذه المَرتَبةَ العاليةَ، والرُّتبةَ التي ليس فَوقَها رُتبةٌ، فلا يكفي فيها مُجَرَّدُ الدَّعوى، بل لا بُدَّ مِن الصِّدقِ فيها، وعلامةُ الصِّدقِ اتِّباعُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جميعِ أحوالِه؛ في أقوالِه وأفعالِه، في أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، في الظَّاهِرِ والباطِنِ؛ فمَن اتَّبَع الرَّسولَ دَلَّ على صِدقِ دَعواه مَحَبَّةَ اللهِ تعالى، وأحَبَّه اللهُ وغَفَر له ذَنْبَه، ورَحِمَه وسَدَّدَه في جميعِ حَرَكاتِه وسَكَناتِه، ومَن لم يتَّبِعِ الرَّسولَ فليس محِبًّا للهِ تعالى؛ لأنَّ محَبَّتَه للهِ تُوجِبُ له اتِّباعَ رَسولِه، فما لم يوجَدْ ذلك دَلَّ على عَدَمِها، وأنَّه كاذِبٌ إنِ ادَّعاها، مع أنَّها على تقديرِ وُجودِها غيرُ نافِعةٍ بدُونِ شَرْطِها، وبهذه الآيةِ يُوزَنُ جميعُ الخَلْقِ، فعلى حَسَبِ حَظِّهم مِن اتِّباعِ الرَّسولِ يكونُ إيمانُهم وحُبُّهم للهِ، وما نَقَص مِن ذلك نَقَص)
[30] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 128). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 22). .
4- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجدَ حَلاوةَ الإيمانِ: أن يَكونَ اللَّهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه مِمَّا سِواهما، وأن يُحِبَّ المَرءَ لا يُحِبُّه إلَّا للَّهِ، وأن يَكرَهَ أن يَعودَ في الكُفرِ كما يَكرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ)) [31] أخرجه البخاري (16) واللفظ له، ومسلم (43). .
2- عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((احتَبَسَ عنَّا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ غَداةٍ مِن صَلاةِ الصُّبحِ حتَّى كِدنا نَتَراءى عَينَ الشَّمسِ، فخَرَجَ سَريعًا فثُوِّب [32] التَّثويبُ هاهنا إقامةُ الصَّلاةِ، يُقالُ: ثَوَّب فلانٌ بالصَّلاةِ: إذا دَعا إليها، والأصلُ في التَّثويبِ أن يَجيءَ الرَّجُلُ مُستَصرِخًا فيُلوِّحَ بثَوبه ليُرى ويَشتَهِرَ، فسُمِّيَ الدُّعاءُ تَثويبًا لذلك، وكُلُّ داعٍ مُثَوِّبٌ. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (1/ 301)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 226). بالصَّلاةِ، فصَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَجوَّز [33] تَجوَّز في صَلاتِه: أي خَفَّفَها وأسرَعَ بها. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 315). في صَلاتِه، فلمَّا سَلَّمَ دَعا بصَوتِه فقال لنا: على مَصافِّكم [34] على مَصافِّكم، أي: اثبُتوا عليها، وهيَ جَمعُ مَصَفٍّ، وهو مَوضِعُ الصَّفِّ. يُنظر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (3/ 959). ، كما أنتم، ثُمَّ انفتَل [35] انفتَل، أي: انصَرَف مِنَ الصَّلاةِ، أو أقبَلَ مِنَ القِبلةِ إلينا. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/ 625). إلينا فقال: أمَا إنِّي سَأُحَدِّثُكُم ما حَبَسَني عنكُمُ الغَداةَ...)) الحَديثَ، وفيه:
((اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك فِعلَ الخَيراتِ، وتَركَ المُنكَراتِ، وحُبَّ المَساكينِ، وأن تَغفِرَ لي وتَرحَمَني، وإذا أرَدتَ فِتنةً في قَومٍ فتَوَفَّني غَيرَ مَفتونٍ، وأسألُك حُبَّك، وحُبَّ مَن يُحِبُّك، وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلى حُبِّك، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّها حَقٌّ، فادرُسوها ثُمَّ تَعَلَّموها)) [36] أخرجه الترمذي (3235) واللفظ له، وأحمد (22109). صححه البخاري كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (356)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/73)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3235)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
ج- من الإجماعِ-قال القُرطُبيُّ في قَولِ اللهِ تعالى:
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ... الآية
[التوبة: 24] : (في الآيةِ دَليلٌ على وُجوبِ حُبِّ اللَّهِ ورَسولِه، ولا خِلافَ في ذلك بَينَ الأُمَّةِ، وأنَّ ذلك مُقدَّمٌ على كُلِّ مَحبوبٍ)
[37] ((الجامع لأحكام القرآن)) (8/ 95). .
-قال أبو العَبَّاسِ ابنُ قُدامةَ: (اعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ مُجمِعةٌ على أنَّ الحُبَّ للهِ ولرَسولِه فَرضٌ)
[38] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 338). .
-وقال ابنُ القَيِّمِ: (قد دَلَّ على وُجوبِ مَحَبَّتِه سُبحانَه جَميعُ كُتُبِه المُنَزَّلةِ، ودَعوةُ جَميعِ رُسُلِه، وفِطرَتُه التي فَطَرَ عِبادَه عليها، وما رَكَّبَ فيهم مِنَ العُقولِ، وما أسبَغَ عليهم مِنَ النِّعَمِ؛ فإنَّ القُلوبَ مَفطورةٌ مَجبولةٌ على مَحَبَّةِ مَن أنَعَم عليها وأحسَنَ إليها، فكَيف بمَن كُلُّ الإحسانِ منه، وما بخَلقِه جَميعِهم مِن نِعمةٍ فمِنه وَحدَه لا شَريكَ له، كَما قال تعالى:
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53] .
وما تَعرَّف به إلى عِبادِه مِن أسمائِه الحُسنى وصِفاتِه العُلا، وما دَلَّت عليه آثارُ مَصنوعاتِه مِن كَمالِه ونِهايةِ جَلالِه وعَظَمَتِه)
[39] ((الداء والدواء)) (ص: 228). .
فوائِدُ:1- قال ابنُ تَيميَّةَ: (ليسَ للخَلقِ مَحبَّةٌ أعظَمَ ولا أكمَلَ ولا أتَمَّ مِن مَحبَّةِ المُؤمِنينَ لرَبِّهم، وليسَ في الوُجودِ ما يَستَحِقُّ أن يُحَبَّ لذاتِه مِن كُلِّ وجهٍ إلَّا اللَّهُ تعالى، وكُلُّ ما يُحَبُّ سِواه فمَحَبَّتُه تَبَعٌ لحُبِّه؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما يُحَبُّ لأجلِ اللهِ، ويُطاعُ لأجلِ اللهِ، ويُتَّبَعُ لأجلِ اللهِ، كما قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] )
[40] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 649). وقال ابنُ القَيِّمِ: (كُلُّ مَحَبَّةٍ وتَعظيمٍ للبَشَرِ فإنَّما تَجوزُ تَبَعًا لمَحَبَّةِ اللهِ وتَعظيمِه، كمَحَبَّةِ رَسولِه وتَعظيمِه؛ فإنَّها مِن تَمامِ مَحَبَّةِ مُرسِلِه وتَعظيمِه؛ فإنَّ أُمَّتَه يُحِبُّونَه لحُبِّ اللهِ له ويُعَظِّمونَه ويُجِلُّونَه لإجلالِ اللهِ له، فهيَ مَحَبَّةٌ للَّهِ مِن موجِباتِ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وكذلك مَحَبَّةُ أهلِ العِلمِ والإيمانِ ومَحَبَّةُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم وإجلالُهم تابعٌ لمَحَبَّةِ اللهِ ورَسولِه لهم). ((جلاء الأفهام)) (ص: 187). .
2- قال ابنُ القيمِ (والمَحَبَّة لها داعيانِ: الجَمالُ، والإجمالُ أي الإنعامُ والإحسانُ، والرَّبُّ تعالى له الكَمالُ المُطلَقُ مِن ذلك؛ فإنَّه جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، بَل الجَمالُ كُلُّه له، والإجمالُ كُلُّه مِنه؛ فلا يَستَحِقُّ أن يُحَبَّ لذاتِه مِن كُلِّ وجهٍ سِواه)
[41] ((الداء والدواء)) (ص: 228). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 269). .
3- قال ابنُ القَيِّمِ: (أعظَمُ أنواعِ المَحَبَّةِ المَذمومةِ: المَحَبَّةُ مَعَ اللهِ التي يُسَوِّي المُحِبُّ فيها بَينَ مَحَبَّتِه للهِ ومَحَبَّتِه للنِّدِّ الذي اتَّخَذَه مِن دونِه.
وأعظَمُ أنواعِها المَحمودةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ وَحدَه، وهذه المَحَبَّةُ هيَ أصلُ السَّعادةِ ورَأسُها، التي لا يَنجو أحَدٌ مِنَ العَذابِ إلَّا بها، والمحَبَّةُ المَذمومةُ الشِّركيَّةُ هيَ أصلُ الشَّقاوةِ ورَأسُها، التي لا يَبقى في العَذابِ إلَّا أهلُها، فأهلُ المَحَبَّةِ الذينَ أحَبُّوا اللَّهَ وعَبَدوه وحدَه لا شَريكَ له لا يَدخُلونَ النَّارَ، ومَن دَخَلها مِنهم بذُنوبِه فإنَّه لا يَبقى فيها مِنهم أحَدٌ.
ومَدارُ القُرآنِ على الأمرِ بتلك المَحَبَّةِ ولوازِمِها، والنَّهيِ عنِ المَحَبَّةِ الأُخرى ولوازِمِها، وضَربِ الأمثالِ والمَقاييسِ للنَّوعَينِ، وذِكرِ قَصَصِ النَّوعَينِ، وتَفصيلِ أعمالِ النَّوعَينِ وأوليائِهم ومَعبودِ كُلٍّ مِنهما، وإخبارِه عن فِعلِه بالنَّوعَينِ، وعن حالِ النَّوعَينِ في الدُّورِ الثَّلاثةِ: دارِ الدُّنيا، ودارِ البَرزَخِ، ودارِ القَرارِ. والقُرآنُ جاءَ في شَأنِ النَّوعَينِ.
وأصلُ دَعوةِ جَميعِ الرُّسُلِ مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم إنَّما هيَ عِبادةُ اللهِ وَحدَه لا شَريكَ له، المُتَضَمِّنةُ لكَمالِ حُبِّه، وكَمالِ الخُضوعِ والذُّلِّ له، والإجلالِ والتَّعظيمِ، ولوازِمِ ذلك مِنَ الطَّاعةِ والتَّقوى.
وقد ثَبَتَ في الصَّحيحَينِ من حديثِ أنَسٍ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «والذي نَفسي بيَدِه لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والدِه وولدِه والنَّاسِ أجمَعينَ»
[42] أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والِدِه وولَدِه والنَّاسِ أجمَعينَ)). ، وفي صحيحِ البُخاريِّ: «أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: يا رَسولَ اللهِ، واللهِ لأنت أحَبُّ إليَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِن نَفسي، فقال: لا يا عُمَرُ، حتَّى أكونَ أحَبَّ إليك مِن نَفسِك، قال: والذي بَعَثَك بالحَقِّ لأنت أحَبُّ إليَّ مِن نَفسي، قال: الآنَ يا عُمَرُ»
[43] أخرجه البخاري (6632). .
فإذا كان هذا شَأنَ مَحَبَّةِ عَبدِه ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووُجوبِ تَقديمِها على مَحَبَّةِ نَفسِ الإنسانِ ووَلَدِه ووالِدِه والنَّاسِ أجمَعينَ، فما الظَّنُّ بمَحَبَّةِ مُرسِلِه سُبحانَه وتعالى، ووُجوبِ تَقديمِها على مَحَبَّةِ ما سِواه؟!
ومحَبَّةُ الرَّبِّ سُبحانَه تَختَصُّ عن مَحَبَّةِ غَيرِه في قَدْرِها وصِفتِها وإفرادِه سُبحانَه بها؛ فإنَّ الواجِبَ له مِن ذلك كُلِّه أن يَكونَ أحَبَّ إلى العَبدِ مِن وَلَدِه ووَالِدِه، بَل مِن سَمعِه وبَصَرِه ونَفسِه التي بَينَ جَنبَيه، فيَكونُ إلهُه الحَقُّ ومَعبودُه أحَبَّ إليه مِن ذلك كُلِّه، والشَّيءُ قد يُحَبُّ مَن وجهٍ دونَ وَجهٍ، وقد يُحَبُّ بغَيرِه، وليسَ شَيءٌ يُحَبُّ لذاتِه مِن كُلِّ وجهٍ إلَّا اللَّهُ وَحدَه، ولا تَصلُحُ الأُلوهيَّةُ إلَّا له، و
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] .
والتَّألُّه: هو المَحَبَّةُ والطَّاعةُ والخُضوعُ)
[44] ((الداء والدواء)) (ص: 199، 200). ويُنظر منه: (ص: 229). .
3- قال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (مَحَبَّةُ اللهِ وسيلةٌ إلى أن يُعامِلَه العَبدُ مُعامَلةَ المُحِبِّ لحَبيبِه: في المُبادَرةِ إلى طاعَتِه، والمُسارَعةِ إلى كُلِّ ما يُرضيه، واجتِنابِ كُلِّ ما يُسخِطُه، والتَّحَرُّزِ مِن أسبابِ سَخَطِه، والاحتياطِ لأسبابِ رِضاه...
ويَنبَغي أن تَكونَ آثارُ مَحَبَّتِه أشَدَّ مِن آثارِ كُلِّ مَحَبَّةٍ وأعظَمَ، وألَّا يُشبِهَها شَيءٌ، كَما أنَّ المَحبوبَ بها لا يُشبِهُه شَيءٌ، وهو السَّميعُ البَصيرُ)
[45] ((شجرة المعارف والأحوال)) (ص: 49). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 429) و (3/ 8). .
4- عنِ الرَّبيعِ عن أنَسٍ، عن بَعضِ أصحابِه، قال: (عَلامةُ حُبِّ اللهِ تعالى كَثرةُ ذِكرِه؛ فإنَّك لن تُحِبَّ شَيئًا إلَّا أكثَرتَ ذِكرَه، ومِن علامةِ الدِّينِ الإخلاصُ للَّهِ، وعَلامةُ العِلمِ خَشيةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعَلامةُ الشُّكرِ الرِّضا بقَضاءِ اللهِ والتَّسليمُ لقَدَرِه)
[46] ((المحبة لله)) لأبي إسحاق الختلي (32). .
وقال أبو عَبدِ الرَّحمَنِ المغازِليُّ: (ليسَ يُعطى طَريقَ المَحَبَّةِ غافِلٌ ولا ساهٍ؛ المُحِبُّ للهِ طائِرُ القَلبِ، كَثيرُ الذِّكرِ، مُتَسَبِّبٌ إلى رِضوانِه بكُلِّ سَبيلٍ يَقدِرُ عليها مِنَ الوسائِل والنَّوافِلِ، دوبًا دوبًا، وشَوقًا شَوقًا)
[47] ((المحبة لله)) لأبي إسحاق الختلي (35). .
(وإذا أرَدتَ أن تَستَدِلَّ على ما في القَلبِ فاستَدِلَّ عليه بحَرَكةِ اللِّسانِ؛ فإنَّه يُطلِعُك على ما في القَلبِ، شاءَ صاحِبُه أم أبى)
[48] ((الداء والدواء)) لابن القيم (ص: 158). وقد قال يَحيى بنُ مُعاذٍ: (القُلوبُ كالقُدورِ في الصُّدورِ تَغلي بما فيها، ومَغارِفُها ألسِنَتُها؛ فانتَظِرِ الرَّجُلَ حتَّى يَتَكَلَّمَ فإنَّ لسانَه يَغتَرِفُ لك ما في قَلبِه، مِن بَينِ حُلوٍ وحامِضٍ، وعَذبٍ وأُجاجٍ، يُخبرُك عن طَعمِ قَلبِه اغتِرافُ لِسانِه). ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (10/ 63). .
5- قال ابنُ القَيِّمِ: (الأسبابُ الجالبةُ للمَحَبَّةِ والموجِبةُ لها عَشرةٌ:
أحَدُها: قِراءةُ القُرآنِ بالتَّدَبُّرِ والتَّفهُّمِ لمَعانيه وما أُريدَ به، كتَدَبُّرِ الكِتابِ الذي يَحفَظُه العَبدُ ويَشرَحُه؛ ليَتَفهَّمَ مُرادَ صاحِبِه منه.
الثَّاني: التَّقَرُّبُ إلى اللهِ بالنَّوافِلِ بَعدَ الفرائِضِ؛ فإنَّها توصِلُه إلى دَرَجةِ المحبوبيَّةِ بَعدَ المَحَبَّةِ.
الثَّالثُ: دَوامُ ذِكرِه على كُلِّ حالٍ: باللِّسانِ والقَلبِ، والعَمَلِ والحالِ؛ فنَصيبُه مِنَ المَحَبَّةِ على قَدرِ نَصيبِه مِن هذا الذِّكرِ.
الرَّابعُ: إيثارُ مَحابِّه على مَحابِّك عِند غَلَباتِ الهَوى، والتَّسَنُّمُ إلى مَحابِّه وإن صَعُبَ المُرتَقى.
الخامِسُ: مُطالَعةُ القَلبِ لأسمائِه وصِفاتِه، ومُشاهَدَتُها ومَعرِفتُها، وتَقَلُّبُه في رياضِ هذه المَعرِفةِ ومَباديها؛ فمَن عَرَف اللهَ بأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه أحَبَّه لا مَحالةَ...
السَّادِسُ: مُشاهَدةُ برِّه وإحسانِه وآلائِه، ونِعَمِه الباطِنةِ والظَّاهرةِ؛ فإنَّها داعيةٌ إلى مَحَبَّتِه.
السَّابعُ، وهو مِن أعجَبِها: انكِسارُ القَلبِ بكُلِّيَّتِه بَينَ يَدَيِ اللهِ تعالى، وليسَ في التَّعبيرِ عن هذا المَعنى غَيرُ الأسماءِ والعِباراتِ.
الثَّامِنُ: الخَلوةُ به وَقتَ النُّزولِ الإلهيِّ لمُناجاتِه وتِلاوةِ كَلامِه، والوُقوفُ بالقَلبِ والتَّأدُّبُ بأدَبِ العُبوديَّةِ بَينَ يَدَيه، ثُمَّ خَتمُ ذلك بالاستِغفارِ والتَّوبةِ.
التَّاسِعُ: مُجالَسةُ المُحِبِّينَ الصَّادِقينَ، والتِقاطُ أطايِبِ ثَمَراتِ كَلامِهم كَما يَنتَقي أطايِبَ الثَّمَرِ، ولا تَتَكَلَّمْ إلَّا إذا تَرَجَّحَت مَصلحةُ الكَلامِ، وعَلِمتَ أنَّ فيه مَزيدًا لحالِك، ومنفعةً لغَيرِك.
العاشِرُ: مُباعَدةُ كُلِّ سَبَبٍ يَحولُ بَينَ القَلبِ وبَينَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
فمِن هذه الأسبابِ العَشَرةِ وصَل المُحِبُّونَ إلى مَنازِلِ المَحَبَّةِ، ودَخَلوا على الحَبيبِ، ومِلاكُ ذلك كُلِّه أمرانِ: استِعدادُ الرُّوحِ لهذا الشَّأنِ، وانفِتاحُ عَينِ البَصيرةِ. وباللهِ التَّوفيقُ)
[49] ((مدارج السالكين)) (3/ 18، 19). .