موسوعة الآداب الشرعية

ثالثًا: التَّذَلُّلُ والخُضوعُ للهِ تعالى


مِنَ الأدَبِ مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: التَّذَلُّلُ لَه والخُضوعُ والِاستِكانةُ [50] والتَّذلُّلُ والخضوعُ مِن أركانِ العُبوديَّةِ: قال ابنُ تَيميَّةَ: (العِبادةُ تَجمَعُ كَمالَ المحَبَّةِ، وكَمالَ الذُّلِّ؛ فالعابِدُ مُحِبٌّ خاضِعٌ، بخِلافِ مَن يُحِبُّ مَن لا يَخضَعُ لَه، بَل يُحِبُّه ليَتَوسَّلَ به إلى مَحبوبٍ آخَرَ، وبِخِلافِ مَن يَخضَعُ لمَن لا يُحِبُّه، كَما يَخضَعُ للظَّالِمِ؛ فإنَّ كُلًّا مِن هَذَينِ لَيسَ عِبادةً مَحضةً). ((جامع الرسائل)) (2/ 284). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/ 449). وقال ابنُ القَيِّمِ: (العُبوديَّةُ مَدارُها على قاعِدَتَينِ هما أصلُها: حُبٌّ كامِلٌ، وذُلٌّ تامٌّ. ومَنشَأُ هذين الأصلَينِ عن مُشاهَدةِ المِنَّةِ التي تورِثُ المحَبَّةَ، ومُطالَعةِ عَيبِ النَّفسِ والعَمَلِ، التي تورِثُ الذُّلَّ التَّامَّ). يُنظر: ((الوابل الصيب)) (ص: 8). وقال أيضًا: (اللَّهُ سُبحانَه إنَّما خَلَقَ الخَلقَ لعِبادَتِه الجامِعةِ لمَحَبَّتِه والخُضوعِ لَه وطاعَتِه، وهذا هو الحَقُّ الذي خُلِقَت به السَّمَواتُ والأرضُ، وهو غايةُ الخَلقِ والأمرِ، ونَفيُه -كما يَقولُ أعداؤُه- هو الباطِلُ والعَبَثُ الذي نَزَّهَ اللَّهُ نَفسَه عنه، وهو السُّدَى الذي نَزَّهَ نَفسَه عنه أن يَترُكَ الإنسانَ عليه، وهو سُبحانَه يُحِبُّ أن يُعبَدَ ويُطاعَ، ولا يَعبَأُ بخَلقِه شَيئًا لَولا مَحَبَّتُهم لَه، وطاعَتُهم لَه، ودُعاؤُهم لَه). ((مدارج السالكين)) (1/ 230). وقال ابنُ كَثيرٍ: (العِبادةُ في اللُّغةِ مِنَ الذِّلَّةِ، يُقالُ: طَريقٌ مُعَبَّدٌ، وبَعيرٌ مُعَبَّدٌ، أي: مُذَلَّلٌ، وفي الشَّرعِ: عِبارةٌ عَمَّا يَجمَعُ كَمالَ المحَبَّةِ، والخُضوعَ، والخَوفَ). ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 134). وقال ابنُ عُثَيمين: (العِبادةُ مَبنيَّةٌ على هذينِ الأمرَينِ: غايةُ الحُبِّ، وغايةُ الذُّلِّ؛ ففي الحُبِّ الطَّلَبُ، وفي الذُّلِّ الخَوفُ والهَرَبُ، فهذا هو الإحسانُ في عِبادةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ. وإذا كان الإنسانُ يَعبُدُ اللهَ على هذا الوَجهِ، فإنَّه سوف يكونُ مُخلِصًا للهِ عزَّ وجَلَّ، لا يريدُ بعِبادتِه رِياءً ولا سُمعةً، ولا مَدحًا عندَ النَّاسِ، وسواءٌ اطَّلَع النَّاسُ عليه أم لم يَطَّلِعوا، الكُلُّ عِندَه سَواءٌ، وهو مُحسِنٌ العِبادةَ على كُلِّ حالٍ). ((شرح ثلاثة الأصول)) (ص: 120). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:
1- قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] .
قال الطَّبَريُّ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ادْعُوا أيُّها النَّاسُ رَبَّكُمْ وَحْدَه، فأخلِصوا له الدُّعاءَ دُونَ ما تَدْعُونَ مِن دُونِه مِنَ الآلِهةِ والأصنامِ، تَضَرُّعًا يقولُ: تذَلُّلًا واسِتكانةً لطاعتِه، وَخُفْيَةً يقولُ: بخُشوعِ قُلوبِكم وصِحَّةِ اليَقينِ منكم بوَحدانيَّتِه فيما بينكم وبينه، لا جِهارًا مُراءاةً وقلوبُكم غيرُ مُوقِنةٍ بوَحدانيَّتِه ورُبوبِيَّته، فِعلَ أهلِ النِّفاقِ والخِداعِ للهِ ولرَسولِه... عنِ الحَسَنِ، قال: "إن كان الرَّجُلُ لَقد جَمَع القُرآنَ وما يَشعُرُ جارُه، وإن كان الرَّجُلُ لَقد فَقِهَ الفِقهَ الكَثيرَ وما يَشعُرُ به النَّاسُ، وإن كان الرَّجُلُ ليُصَلِّي الصَّلاةَ الطَّويلةَ في بَيتِه وعِندَه الزُّوَّارُ وما يَشعُرونَ به. ولَقد أدرَكنا أقوامًا ما كان على الأرضِ مِن عَمَلٍ يَقدِرونَ على أن يَعمَلوه في السِّرِّ فيَكونُ عَلانيةً أبَدًا. ولَقد كان المُسلِمونَ يَجتَهدونَ في الدُّعاءِ وما يُسمَعُ لَهم صَوتٌ، إن كان إلَّا هَمسًا بَينَهم وبَينَ رَبِّهم؛ وذلك أنَّ اللَّهَ يَقولُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] ؛ وذلك أنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عبدًا صالِحًا، فرَضيَ فِعلَه، فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3] ) [51] ((جامع البيان)) (10/ 247، 248). .
وقال السمعاني: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا أي: ضارِعينَ مُتَذَلِّلينَ خاشِعينَ، وَخُفْيَةً أي: سِرًّا) [52] ((تفسير القرآن)) (2/ 189). .
2- قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 205-206] .
3- قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90] .
فَوائِدُ:
1- قال ابنُ تَيميَّةَ: (العَبدُ كُلَّما كان أذَلَّ للهِ وأعظَمَ افتِقارًا إليه وخُضوعًا له، كان أقرَبَ إليه، وأعَزَّ لَه، وأعظَمَ لقَدرِه؛ فأسعَدُ الخَلقِ أعظَمُهم عُبوديَّةً للَّهِ، وأمَّا المَخلوقُ فكَما قيلَ: احتَجْ إلى مَن شِئتَ تَكُنْ أسيرَه، واستَغنِ عَمَّن شِئتَ تَكُنْ نَظيرَه، وأحسِنْ إلى مَن شِئتَ تَكُنْ أميرَه.
فأعظَمُ ما يَكونُ العَبدُ قَدرًا وحُرمةً عِندَ الخَلقِ إذا لم يَحتَجْ إليهم بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ، فإن أحسَنتَ إليهم مَعَ الِاستِغناءِ عنهم كُنتَ أعظَمَ ما يَكونُ عِندَهم، ومَتى احتَجتَ إليهم -ولَو في شَربةِ ماءٍ- نَقَصَ قدرُك عِندَهم بقدَرِ حاجَتِك إليهم! وهذا مِن حِكمةِ اللهِ ورَحمَتِه؛ ليَكونَ الدِّينُ كُلُّه للَّهِ، ولا يُشرَكَ به شَيءٌ؛ ولهذا قال حاتِمٌ الأصَمُّ لمَّا سُئِلَ: فيمَ السَّلامةُ مِنَ النَّاسِ؟ قال: أن يَكونَ شَيئُك لَهم مَبذولًا، وتَكونَ مِن شَيئِهم آيِسًا. لَكِنْ إن كُنتَ مُعَوِّضًا لَهم عن ذلك وكانوا مُحتاجينَ، فإن تَعادَلَتِ الحاجتانِ تَساويتُم، كالمُتَبايِعَينِ لَيسَ لأحَدِهما فضلٌ على الآخَرِ، وإن كانوا إليك أحوجَ خَضَعوا لك.
فالرَّبُّ سُبحانَه أكرَمُ ما تَكونُ عليه أحوجُ ما تَكونُ إليه، وأفقَرُ ما تَكونُ إليه. والخَلقُ أهونُ ما يَكونُ عليهم أحوجُ ما يَكونُ إليهم...
وسَعادةُ العَبدِ في كَمالِ افتِقارِه إلى رَبِّه واحتياجِه إليه، أي: في أن يَشهَدَ ذلك ويَعرِفَه، ويَتَّصِفَ مَعَه بموجِبِ ذلك مِنَ الذُّلِّ والخُضوعِ والخُشوعِ، وإلَّا فالخَلقُ كُلُّهم مُحتاجونَ، لَكِن يَظنُّ أحَدُهم نَوعَ استِغناءٍ فيَطغى، كَما قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7] ، وقال: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] ، وفي الآية الأخرى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء: 83] ) [53] ((مجموع الفتاوى)) (1/ 39، 50). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ: (سِرُّ الخَلقِ والأمرِ، والكُتُبِ والشَّرائِعِ، والثَّوابِ والعِقابِ: انتَهى إلى هاتَينِ الكَلِمَتَينِ، وعليهما مَدارُ العُبوديَّةِ والتَّوحيدِ، حتَّى قيلَ: أنزَل اللَّهُ مِائةَ كِتابٍ وأربَعةَ كُتُبٍ، جَمع مَعانيَها في التَّوراةِ والإنجيلِ والقُرآنِ، وجَمَعَ مَعانيَ هذه الكُتُبِ الثَّلاثةِ في القُرآنِ، وجَمع مَعانيَ القُرآنِ في المُفَصَّلِ، وجَمَع مَعانيَ المُفَصَّلِ في الفاتِحةِ، ومَعانيَ الفاتِحةِ في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعينُ [الفاتحة: 5] .
وهما الكَلِمَتانِ المَقسومَتانِ بَينَ الرَّبِّ وبَينَ عَبدِه نِصفَينِ [54] قال القُرطُبيُّ في قَولِه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] : (جَعَلَها بَينَه وبَينَ عَبدِه؛ لأنَّها تَضَمَّنَت تَذَلُّلَ العَبدِ وطَلَبَ الِاستِعانةِ مِنه، وذلك يَتَضَمَّنُ تَعظيمَ اللَّهِ تعالى). ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 94). ؛ فنِصفُهما لَه تعالى، وهو إِيَّاكَ نَعبُدُ، ونِصفُهما لعَبدِه، وهو وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] .
والعبادةُ تجمَعُ أصلَينِ: غايةَ الحُبِّ بغايةِ الذُّلِّ والخُضوعِ، والعَرَبُ تقولُ: طَريقٌ مُعَبَّدٌ، أي: مُذَلَّلٌ، والتَّعَبُّدُ: التَّذَلُّلُ والخُضوعُ، فمن أحبَبتَه ولم تكنْ خاضِعًا له لم تكُنْ عابِدًا له، ومن خضَعتَ له بلا مَحَبَّةٍ لم تكُنْ عابدًا له، حتَّى تكونَ محِبًّا خاضِعًا، ومِن هاهنا كان المُنكِرونَ مَحَبَّةَ العِبادِ لرَبِّهم مُنكِرينَ حَقيقةَ العُبوديَّةِ، والمُنكِرونَ لكَونِه مَحبوبًا لَهم -بَل هو غايةُ مَطلوبِهم، ووَجهُه الأعلى نِهايةُ بُغيَتِهم- مُنكِرينَ لكَونِه إلَهًا، وإن أقَرُّوا بكَونِه رَبًّا للعالَمينَ وخالِقًا لَهم؛ فهذا غايةُ تَوحيدِهم، وهو تَوحيدُ الرُّبوبيَّةِ الذي اعتَرَف به مُشرِكو العَرَبِ، ولَم يَخرُجوا به عنِ الشِّركِ، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89] ؛ ولهذا يَحتَجُّ عليهم به على تَوحيدِ إلَهيَّتِه، وأنَّه لا يَنبَغي أن يُعبَدَ غَيرُه، كَما أنَّه لا خالِقَ غَيرُه، ولا رَبَّ سِواه) [55] ((مدارج السالكين)) (1/ 95، 96). .
3- قال ابنُ القَيِّمِ: (تَمامُ العُبوديَّةِ هو بتَكميلِ مَقامِ الذُّلِّ والِانقيادِ، وأكمَلُ الخَلقِ عُبوديَّةً أكمَلُهم ذُلًّا للهِ وانقيادًا وطاعةً، والعَبدُ ذَليلٌ لمَولاه الحَقِّ بكُلِّ وجهٍ مِن وُجوهِ الذُّلِّ؛ فهو ذَليلٌ لعِزِّه، وذَليلٌ لقَهرِه، وذَليلٌ لرُبوبيَّتِه وتَصَرُّفِه فيه، وذَليلٌ لإحسانِه إليه وإنعامِه عليه؛ فإنَّ مَن أحسَنَ إليك فقدِ استَعبَدَك وصارَ قَلبُك مَعبَّدًا له، وذَليلًا لغِناه؛ لحاجَتِه إليه على مَدى الأنفاسِ في جَلبِ كُلِّ ما يَنفَعُه، ودَفعِ كُلِّ ما يَضُرُّه.
وبَقيَ نَوعانِ مِن أنواعِ التَّذَلُّلِ والتَّعَبُّدِ، لَهما أثَرٌ عَجيبٌ، ويَقتَضيانِ مِن صاحِبِهما مِنَ الطَّاعةِ والفوزِ ما لا يَقتَضيه غَيرُهما:
أحَدُهما: ذُلُّ المَحَبَّةِ، وهذا نَوعٌ آخَرُ غَيرُ ما تَقدَّم، وهو خاصَّةُ المَحَبَّةِ ولُبُّها، بَل روحُها وقِوامُها وحَقيقَتُها، وهو المُرادُ على الحَقيقةِ مِنَ العَبدِ لَو فَطِنَ، وهذا يَستَخرِجُ مِن قَلبِ المُحِبِّ مِن أنواعِ التَّقَرُّبِ والتَّودُّدِ والتَّمَلُّقِ والإيثارِ والرِّضا والحَمدِ والشُّكرِ والصَّبرِ والتَّقدُّمِ، وتَحمُّلِ العَظائِم ما لا يَستَخرِجُه الخَوفُ وَحدَه، ولا الرَّجاءُ وَحدَه، كما قال بَعضُ الصَّحابةِ: "إنَّه ليَستَخرِجُ مَحَبَّتُه مِن قَلبي مِن طاعَتِه ما لا يَستَخرِجُه خَوفُه"، أو كَما قال. فهذا ذُلُّ المُحِبِّينَ.
الثَّاني: ذُلُّ المَعصيةِ) [56] ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 820، 821). .
4- قال ابنُ القَيِّمِ: (ذُلُّ العُبوديَّةِ أربَعُ مَراتِبَ:
المَرتَبةُ الأولى: مُشتَركةٌ بَينَ الخَلقِ، وهي ذُلُّ الحاجةِ والفَقرِ إلى اللهِ؛ فأهلُ السَّمَواتِ والأرضِ جَميعًا محتاجونَ إليه، فُقَراءُ إليه، وهو وَحدَه الغَنيُّ عنهم، وكُلُّ أهلِ السَّمَواتِ والأرضِ يَسألونَه، وهو لا يَسأَلُ أحَدًا.
المَرتَبةُ الثَّانيةُ: ذُلُّ الطَّاعةِ والعُبوديَّةِ، وهو ذُلُّ الاختيارِ، وهذا خاصٌّ بأهلِ طاعتِه، وهو سِرُّ العُبوديَّةِ.
المَرتَبةُ الثَّالِثةُ: ذُلُّ المحبَّةِ؛ فإنَّ المحِبَّ ذَليلٌ بالذَّاتِ، وعلى قَدرِ محَبَّتِه له يكونُ ذُلُّه؛ فالمَحَبَّةُ أُسِّسَت على الذِّلَّةِ للمَحبوبِ، كما قيلَ:
اخضَعْ وذِلَّ لمَن تُحِبُّ فلَيسَ في
حُكمِ الهَوى أنفٌ يُشالُ ويُعقَدُ
وقال آخَرُ:
مَساكينُ أهلُ الحُبِّ حتَّى قُبورُهم
عليها تُرابُ الذُّلِّ بَينَ المَقابِرِ
المَرتَبةُ الرَّابِعةُ: ذُلُّ المَعصيةِ والجِنايةِ.
فإذا اجتَمَعَت هذه المراتِبُ الأربَعُ كان الذُّلُّ للهِ والخُضوعُ له أكمَلَ وأتَمَّ؛ إذ يَذِلُّ له خوفًا وخَشيةً، ومحَبَّةً وإنابةً، وطاعةً وفَقرًا وفاقةً) [57] ((مدارج السالكين)) (1/ 224). .
وقال أيضًا: (قالوا: إنَّ للعُبوديَّةِ لَوازِمَ وأحكامًا وأسرارًا وكَمالاتٍ لا تَحصُلُ إلَّا بها، ومِن جُملَتِها تَكميلُ مَقامِ الذُّلِّ للعَزيزِ الرَّحيمِ؛ فإنَّ اللَّهَ سُبحانَه يُحِبُّ مِن عَبدِه أن يُكمِلَ مَقامَ الذُّلِّ لَه، وهذه هيَ حَقيقةُ العُبوديَّةِ، واشتِقاقُها يَدُلُّ على ذلك؛ فإنَّ العَرَبَ تَقولُ: طَريقٌ مُعَبَّدٌ، أي: مُذَلَّلٌ بوَطءِ الأقدامِ.
والذُّلُّ أنواعٌ: أكمَلُها ذُلُّ المُحِبِّ لمَحبوبِه، الثَّاني: ذُلُّ المَملوكِ لمالِكِه، الثَّالِثُ: ذُلُّ الجاني بَينَ يَدَيِ المُنعِمِ عليه المُحسِنِ إليه المالِكِ لَه، الرَّابِعُ: ذُلُّ العاجِزِ عن جَميعِ مَصالِحِه وحاجاتِه بَينَ يَدَيِ القادِرِ عليها، التي هيَ في يَدِه وبِأمرِه.
وتَحتَ هذا قِسمانِ؛ أحَدُهما: ذُلٌّ لَه في أن يَجلِبَ لَه ما يَنفعُه. والثَّاني: ذُلٌّ لَه في أن يَدفعَ عنه ما يَضُرُّه على الدَّوامِ. ويَدخُلُ في هذا ذُلُّ المَصائِبِ، كالفقرِ والمَرَضِ، وأنواعِ البَلاءِ والمِحَنِ.
فهذه خَمسةُ أنواعٍ مِنَ الذُّلِّ إذا وفَّاها العَبدُ حَقَّها، وشَهِدَها كَما يَنبَغي، وعَرَف ما يُرادُ به مِنه، وقامَ بَينَ يَدَي رَبِّه مُستَصحِبًا لَها، شاهدًا لذُلِّه مِن كُلِّ وَجهٍ، ولعِزَّةِ رَبِّه وعَظمَتِه وجَلالِه؛ كان قَليلُ أعمالِه قائِمًا مَقامَ الكَثيرِ مِن أعمالِ غَيرِه.
قالوا: وهذه أسرارٌ لا تُدرَكُ بمُجَرَّدِ الكَلامِ، فمَن لا نَصيبَ لَه مِنها فلا يَضُرُّه أن يُخَلِّيَ المَطيَّ وحاديَها، ويُعطيَ القَوسَ باريَها) [58] ((طريق الهجرتين)) (ص: 234). .
5- قال ابنُ القَيِّمِ: (يُحكى عن بَعضِ العارِفينَ أنَّه قال: دَخَلتُ على اللهِ مِن أبوابِ الطَّاعاتِ كُلِّها، فما دَخَلتُ مِن بابٍ إلَّا رَأيتُ عليه الزِّحامَ، فلَم أتَمَكَّنْ مِنَ الدُّخولِ حتَّى جِئتُ بابَ الذُّلِّ والِافتِقارِ، فإذا هو أقرَبُ بابٍ إليه وأوسَعُه، ولا مُزاحِمَ فيه ولا مُعَوِّقَ، فما هو إلَّا أن وضَعتُ قدَمي في عَتَبتِه، فإذا هو سُبحانَه قد أخَذَ بيَدي وأدخَلَني عليه.
وكان شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: مَن أرادَ السَّعادةَ الأبَديَّةَ فليَلزَمْ عَتَبةَ العُبوديَّةِ.
وقال بَعضُ العارِفينَ: لا طَريقَ أقرَبُ إلى اللهِ مِنَ العُبوديَّةِ، ولا حِجابَ أغلَظُ مِنَ الدَّعوى، ولا يَنفعُ مَعَ الإعجابِ والكِبرِ عَمَلٌ واجتِهادٌ، ولا يَضُرُّ مَعَ الذُّلِّ والِافتِقارِ بَطالةٌ. يَعني: بَعدَ فِعلِ الفرائِضِ.
والقَصدُ: أنَّ هذه الذِّلَّةَ والكَسرةَ الخاصَّةَ تُدخِلُه على اللهِ، وتَرميه على طَريقِ المَحَبَّةِ، فيُفتَحُ لَه مِنها بابٌ لا يُفتَحُ لَه مِن غَيرِ هذه الطَّريقِ، وإن كانت طُرُقُ سائِرِ الأعمالِ والطَّاعاتِ تَفتَحُ للعَبدِ أبوابًا مِنَ المَحَبَّةِ، لَكِنَّ الذي يُفتَحُ مِنها مِن طَريقِ الذُّلِّ والِانكِسارِ والِافتِقارِ، وازدِراءِ النَّفسِ ورُؤيَتها بعَينِ الضَّعفِ والعَجزِ والعَيبِ والنَّقصِ والذَّمِّ، بحَيثُ يُشاهِدُها ضَيعةً وعَجزًا، وتَفريطًا وذَنبًا وخَطيئةً: نَوعٌ آخَرُ وفَتحٌ آخَرُ، والسَّالِكُ بهذه الطَّريقِ غَريبٌ في النَّاسِ، وهم في وادٍ وهو في وادٍ، وهيَ تُسَمَّى طَريقَ الطَّيرِ، يَسبِقُ النَّائِمُ فيها على فِراشِه السُّعاةَ، فيُصبِحُ وقد قَطَعَ الطَّريقَ، وسَبَق الرَّكبَ، بَينا هو يُحَدِّثُك إذا به قد سَبَقَ الطَّرفَ وفاتَ السُّعاةَ! فاللَّهُ المُستَعانُ، وهو خَيرُ الغافِرينَ) [59] ((مدارج السالكين)) (1/ 430). .

انظر أيضا: