موسوعة الآداب الشرعية

عاشرًا: العَفوُ عن زَلَّاتِهم، وعَدَمُ قَطعِ المَعروفِ عَنهم


يَنبَغي العَفوُ عن زَلَّاتِ أولي القُربى، وعَدَمُ قَطعِ المَعروفِ بما يَكونُ مِنهم.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:
قال تعالى: وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (وَلَا يَأْتِلِ مِنَ الألِيَّةِ، وهيَ: الحَلِفُ، أي: لا يَحلِفْ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي: الطَّولِ والصَّدَقةِ والإحسانِ وَالسَّعَةِ، أي: الجِدَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي: لا تَحلِفوا ألَّا تَصِلوا قَراباتِكُمُ المَساكِينَ والمُهاجِرينَ. وهذه في غايةِ التَّرَفُّقِ والعَطفِ على صِلةِ الأرحامِ؛ ولهذا قال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أي: عَمَّا تَقدَّمَ مِنهم مَنِ الإساءةِ والأذى، وهذا مِن حِلمِه تعالى وكَرَمِه ولُطفِه بخَلقِه مَعَ ظُلمِهم لأنفُسِهم.
وهذه الآيةُ نَزَلَت في الصِّدِّيقِ حينَ حَلَف ألَّا يَنفَعَ مِسطَحَ بنَ أُثاثةَ بنافِعةٍ بَعدَما قال في عائِشةَ ما قال، فلَمَّا أنزَلَ اللهُ بَراءةَ أُمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ، وطابَتِ النُّفوسُ المُؤمِنةُ واستَقَرَّت، وتابَ اللهُ على مَن كان تَكَلَّم مِنَ المُؤمِنينَ في ذلك، وأُقيمَ الحَدُّ على مَن أُقيمَ عليه؛ شَرَعَ تَبارَكَ وتعالى -ولَه الفَضلُ والمِنَّةُ- يُعَطِّفُ الصِّدِّيقَ على قريبِه ونَسيبِه، وهو مِسطَحُ بنُ أُثاثةَ؛ فإنَّه كان ابنَ خالةِ الصِّدِّيقِ، وكان مِسكينًا لا مالَ له إلَّا ما يُنفِقُ عليه أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وكان من المهاجِرين في سبيلِ اللَّهِ، وقد وَلَق [1343] وَلَقَ: الواوُ واللَّامُ والقافُ: كَلمةٌ تَدُلُّ على إسراعٍ وخِفَّةٍ، والوَلْقُ: أخَفُّ الطَّعنِ، يُقالُ: ولَقَه بالسَّيفِ وَلَقاتٍ، ووَلَق يَلِقُ: كَذَبَ. يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/ 145). وَلْقةً تاب اللَّهُ عليه منها، وضُرِبَ الحَدَّ عليها. وكان الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنه معروفًا بالمعروفِ، له الفَضلُ والأيادي على الأقارِبِ والأجانِبِ. فلمَّا نزلت هذه الآيةُ إلى قولِه: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: فإنَّ الجزاءَ من جِنسِ العَمَلِ، فكما تَغفِرُ عن المذنِبِ إليك نغفِرُ لك، وكما تصفَحُ نصفَحُ عنك. فعِندَ ذلك قال الصِّدِّيقُ: بَلى، واللهِ إنَّا نُحِبُّ -يا رَبَّنا -أن تَغفِرَ لنا. ثُمَّ رَجَعَ إلى مِسطَحٍ ما كان يَصِلُه مِنَ النَّفَقةِ، وقال: واللهِ لا أنزِعُها منه أبَدًا [1344] لفظُه: ((...فلَمَّا أنزَلَ اللهُ هذا في بَراءَتي قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه -وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثاثةَ لقرابتِه منه-: واللهِ لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعدَ ما قال لعائشةَ، فأنزل اللهُ تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا [النور: 22] إلى قولِه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] ، فقال أبو بكرٍ: بلى واللهِ، إني لأحِبُّ أن يغفِرَ اللهُ لي، فرجَع إلى مِسطَحٍ النَّفَقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللَّهِ لا أنزِعُها منه أبدًا...)). أخرجه البخاري (4750) واللفظ له، ومسلم (2770) من حديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنه. ، في مُقابَلةِ ما كان قال: واللهِ لا أنفعُه بنافِعةٍ أبَدًا؛ فلهذا كان الصِّدِّيقُ هو الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللهُ عنه وعن بِنتِه) [1345] ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 31). .

انظر أيضا: