موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: الأكلُ مِن جانِبِ القَصْعةِ وعَدَمُ الأكلِ مِن وَسَطِها وأعلاها


يُستَحَبُّ الأكلُ مِن جَوانِبِ القَصعةِ، لا مِن أعلاها ولا مِن وسَطِها [1421] قال ابنُ عثيمين: (الإنسانُ إذا قُدِّمَ إليه الطَّعامُ فلا يَأكُلْ مِن أعلاه، بَل يَأكُلُ مِنَ الجانِبِ، وإذا كان مَعَه جَماعةٌ فليَأكُلْ مِمَّا يَليه ولا يَأكُلْ مِمَّا يَلي غَيرَه، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ البَرَكةَ تَتَنَزَّلُ في وسَطِ الطَّعامِ" يَدُلُّ على أنَّ الإنسانَ إذا أكَل مِن أعلاه -أي: مِنَ الوسَطِ- نُزِعَتِ البَرَكةُ مِنَ الطَّعامِ، قال أهلُ العِلمِ: إلَّا إذا كان الطَّعامُ أنواعًا، وكان نَوعٌ مِنه في الوسَطِ وأرادَ أن يَأخُذَ مِنه شَيئًا، فلا بَأسَ، مِثلُ أن يوضَعَ اللَّحمُ في وسَطِ الصَّحفةِ؛ فإنَّه لا بَأسَ أن تَأكُلَ مِنَ اللَّحمِ ولو كان في وسَطِها؛ لأنَّه ليسَ له نَظيرٌ في جَوانِبِها، فلا حَرَجَ، كَما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ يَلتَقِطُها مِنَ الصَّحفةِ كُلِّها). ((شرح رياض الصالحين)) (ص: 831). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((البَرَكةُ تَنزِلُ وَسَطَ الطَّعامِ؛ فكُلوا مِن حافَتَيه، ولا تَأكُلوا مِن وَسَطِه)) [1422] أخرجه الترمذي (1805) واللفظ له، وابن ماجه (3277)، وأحمد (3190). صحَّحه ابن حبان (5245)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1805)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (7315)، وابن حجر في ((بلوغ المرام)) (314).
وفي رِوايةٍ: ((إذا أكَل أحَدُكُم طَعامًا فلا يَأكُلْ مِن أعلى الصَّحفةِ [1423] أي: مِن أعلى ثَريدِ الصَّحفةِ ونَحوِه مِنَ الجَوامِدِ، وأمَّا الأمراقُ فلا يَأكُلْ مِن وسَطِها، فإنَّه في مَعنى أعلى الثَّريدِ. يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (15/ 362). ، ولكِن ليَأكُلْ مِن أسفَلِها؛ فإنَّ البَرَكةَ تَنزِلُ مِن أعلاها)) [1424] أخرجها أبو داود (3772). صحَّحها ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (125)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3772)، وصحَّح إسنادَها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3772). .
وفي أُخرى: ((لا تَأكُلوا الطَّعامَ مِن فَوقِه، وكُلوا مِن جَوانِبِه؛ فإنَّ البَرَكةَ تَنزِلُ مِن فوقِه)) [1425] أخرجها أحمد (3214). صحَّح إسنادها أحمد شاكِر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/67)، وحسَّنها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3214). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كانَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَصْعةٌ يُقالُ لها: الغَرَّاءُ [1426] الغَرَّاءُ: تأنيثُ الأغَرِّ، بمعنى الأبيضِ الأنوَرِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 2738). وقال المُناويُّ: (الغَرَّاءُ: تَأنيثُ الأغَرِّ، مِنَ الغُرَّةِ، وهيَ بَياضُ الوَجهِ وإضاءَتُه، أو مِنَ الغُرَّةِ، وهيَ الشَّيءُ النَّفيسُ المَرغوبُ فيه أو لغَيرِ ذلك). ((فيض القدير)) (5/ 178). ، يَحمِلُها أربعةُ رِجالٍ، فلمَّا أضْحَوا [1427] أضحَوا: أي: دَخَلوا في الضُّحى. يُنظر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (4/ 582). وسَجَدوا الضُّحَى [1428] أي: صَلَّوا صلاةَ الضُّحى. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 528). أُتِيَ بتلك القَصْعةِ، يَعْني وقدْ ثُرِدَ فيها، فالْتَفُّوا عليها، فلمَّا كَثُروا جَثا [1429] أي: جلَس على رُكبَتَيه من ضيقِ المكانِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 528). رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال أعرابيٌّ: ما هذه الجِلسةُ؟ قال رَسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اللهَ جَعَلَني عَبدًا كَريمًا [1430] يعني: هذه الجِلسةُ أقرَبُ إلى التَّواضُعِ، والتَّواضُعُ أليَقُ بالعبيدِ، وأنا عبدٌ، فتَليقُني هذه الجِلسةُ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 528). ، ولم يَجعَلْني جَبَّارًا عَنيدًا، ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كُلوا مِن حَوالَيْها، ودَعُوا ذِرْوتَها [1431] أي: اترُكوا أعلاها. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 528). يُبارَكْ فيها)) [1432] أخرجه أبو داود (3773) واللفظ له، وابن ماجه (3263) مختصرًا. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3773)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (547)، وصحَّح إسناده البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (8/4)، وحسَّنه ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/452)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/43). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ المازِنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَعَثَني أبي إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أدعوه إلى طَعامٍ، فجاءَ مَعي، فلمَّا دَنَوتُ مِنَ المَنزِلِ أسرَعتُ فأعلَمتُ أبَويَّ فخَرَجا فتَلَقَّيا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَحَّبا به، ووضَعنا له قَطيفةً كانت عِندَنا زِئبِريَّةً [1433] الزِّئْبِرُ -بكَسرِ الباءِ وضَمِّها-: ما يَعلو الثَّوبَ الجَديدَ مِن مِثلِ الزَّغبِ والخَملِ، كالذي يَكونُ في القَطيفةِ والحَريرِ، وكُلِّ ما يَظهَرُ مِن دَرزِ "خياطةِ" الثَّوبِ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 314)، ((المعجم العربي لأسماء الملابس)) لرجب عبد الجواد (ص: 204). ، فقَعَدَ عليها، ثُمَّ قال أبي لأُمِّي: هاتِ طَعامَك، فجاءَت بقَصعةٍ فيها دَقيقٌ قد عَصَدَته [1434] العَصيدةُ: دَقيقٌ يُلَتُّ بالسَّمنِ ويُطبَخُ، وسُمِّيَت بذلك لأنَّها تُعصَدُ، أي: تُلفَتُ وتُلْوى، وعَصَدتُ العَصيدةَ وأعصَدتُها: أيِ: اتَّخَذتُها. يُنظر: ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 672)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 246). بماءٍ ومِلحٍ، فوضَعَته بَينَ يَدَي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: خُذوا باسمِ اللهِ مِن حَواليها، وذَروا ذِرْوَتَها؛ فإنَّ البَرَكةَ فيها. فأكَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأكَلنا مَعَه، وفضَل مِنها فَضلةٌ، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُمَّ اغفِرْ لهم وارحَمْهم، وبارِكْ عليهم، ووَسِّعْ عليهم في أرزاقِهم)) [1435] أخرجه أحمد (17678) واللَّفظُ له، والدَّارمي (2065)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6731) مُختَصَرًا بنحوِه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (5299)، وابن القَطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/299)، وصحَّح إسنادَه الحاكِم في ((المستدرك)) (7085)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/346)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (17678). .

انظر أيضا: