عاشرًا: التَّعاطُفُ والتَّوادُدُ والتَّراحُمُ
مِن آكَدِ الحُقوقِ والآدابِ بينَ الإخوةِ والأصحابِ: التَّعاطُفُ والتَّوادُدُ والتَّراحُمُ.
الدَّليلُ على ذلك من الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] .
إنَّ (مِن حَقِّ المُسلِمينَ في كُلِّ زَمانٍ أن يُراعوا هذا التَّذَلُّلَ وهذا التَّعَطُّفَ، فيُشَدِّدوا على مَن ليس مِن دينِهم ويَتَحامَوه، ويُعاشِروا إخوانَهمُ المُؤمِنينَ في الإسلامِ مُتَعَطِّفينَ بالبِرِّ والصِّلةِ والمَعونةِ، وكَفِّ الأذى، والاحتِمالِ مِنهم)
[1739] ((السراج المنير)) للشربيني (4/ 57). .
2- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .
قولُه:
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فيه الثَّناءُ على مَن كان ذليلًا على المؤمنين، وهو الذي يَخفِضُ جناحَه لهم ويتطامَن ويتواضَع؛ فإنَّ هذه من الصفاتِ التي يحبُّها الله عزَّ وجلَّ، أما ترفُّعُ الإنسانِ على إخوانِه المسلمينَ فليس محمودًا عندَ اللهِ، بل ولا عندَ الخَلْق
[1740] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/43). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عَنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَثَلُ المُؤمِنينَ في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفِهم مَثَلُ الجَسَدِ؛ إذا اشتَكى مِنه عُضوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)) [1741] أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللفظ له. .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (لمَّا كان الإيمانُ ضامًّا شَملَ المُؤمِنينَ، يَتَراحَمونَ به، ويَتَوادُّونَ فيه، ويَتَواصَلونَ مِن أجلِه، كان تَواصُلُ المُؤمِنينَ وتَوادُّهم وتَراحُمُهم دالًّا على إيمانِ كُلٍّ مِنهم)
[1742] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (6/ 397، 398). .
2- عن عِياضٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ:
((أَلَا إنَّ رَبِّي أمرَني أن أُعلِّمَكم ما جَهِلتُم ممَّا عَلَّمَني يَومي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلتُه [1743] نَحَلتُه: أي: أعطَيتُه، والنِّحلةُ: العَطيَّةُ. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 120)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 619). عَبدًا حَلالٌ، وإنِّي خلَقتُ عبادي حُنَفاءَ [1744] حُنَفاءَ: أي: مُسلِمينَ، وقيل: طاهِرينَ مِنَ المَعاصي، وقيل: مُستَقيمينَ مُنيبينَ لقَبولِ الهدايةِ، وقيل: المرادُ حينَ أُخِذَ عليهمُ العَهدُ في الذَّرِّ، وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف: 172] .. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (17/ 197). كُلَّهم، وإنَّهم أتَتهم الشَّياطينُ فاجتالَتْهم [1745] اجتالتهم: أي: استَخَفَّتهم فجالوا مَعَهم في الضَّلالِ، يُقالُ للقَومِ إذا تَرَكوا القَصدَ والهدى: اجتالتهمُ الشَّياطينُ، أي: جالوا مَعَهم في الضَّلالةِ، وجال واجتال: إذا ذَهَبَ وجاءَ، ومِنه الجَولانُ في الحَربِ، واجتال الشَّيءَ: إذا ذَهَبَ به وساقَه، والجائِلُ: الزَّائِلُ عن مَكانِه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 317)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 750). عن دينِهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحلَلتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنزِلْ به سُلطانًا...، قال: وأهلُ الجَنَّةِ ثَلاثةٌ: ذو سُلطانٍ مُقسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، ورَجُلٌ رَحيمٌ رَقيقُ القَلبِ لكُلِّ ذي قُربى ومُسلِمٍ، وعَفيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذو عِيالٍ)) [1746] أخرجه مسلم (2865). .
قال الطِّيبيُّ: (قَولُه: "رَقيقُ القَلبِ" مُفسِّرٌ لقولِه: "رَحيمٌ"، أي: يَرِقُّ قَلبهُ ويَتَرَحَّمُ لكُلِّ مَن بينَه وبينَه لُحمةُ القَرابةِ، أو صِلةُ الإسلامِ)
[1747] ((الكاشف عن حقائق السنن)) (10/ 3179). .
وقال ابنُ علَّانَ: (أي: إنَّه لصَفاءِ قَلبِه ورَحمَتِه اللَّتينِ قامَتا به: خالٍ عَنِ الغِلَظِ والعُنفِ على الخَلائِقِ، بَل يَحنو عليهم ويُشفِقُ في أحوالِهم)
[1748] ((دليل الفالحين)) (5/ 125). .
فائِدةٌ:قال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (كان الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ وغيرُه يَقولُ: نَظَرُ الأخِ إلى وَجهِ أخيه على المَودَّةِ والرَّحمةِ عِبادةٌ، فلا تَصِحُّ المَحَبَّةُ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ إلَّا بما شَرط فيها مِنَ الرَّحمةِ في الاجتِماعِ، والخُلطةِ عِندَ الافتِراقِ؛ بظُهورِ النَّصيحةِ، واجتِنابِ الغِيبةِ، وتَمامِ الوفاءِ، ووُجودِ الأُنسِ، وفَقدِ الجَفاءِ، وارتفاعِ الوَحشةِ، ووَجْدِ الانبساطِ، وزَوالِ الاحتِشامِ، وكان الفُضَيلُ يَقولُ: إذا وقَعَتِ الغِيبةُ ارتَفعَتِ الأخُوَّةُ. وقال الجُنَيدُ: ما تواخى اثنانِ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ فاستَوحَشَ أحَدُهما مِن صاحِبِه واحتَشَمَ مِنه إلَّا لعِلَّةٍ في أحَدِهما...
وقال ابنُ عَبَّاسٍ في وصيَّتِه لمُجاهدٍ: ولا تَذكُرْ أخاك إذا تَغيَّبَ عَنك إلَّا بمِثلِ ما تُحِبُّ أن تُذكَرَ به إذا غِبتَ، وأعْفِه بما تُحِبُّ أن تُعفى به.
وكان بَعضُهم يَقولُ: ما ذُكِرَ أخي عِندي في غَيبٍ إلَّا تَمَثَّلتُه جالسًا، فقُلتُ فيه ما يُحِبُّ أن يَسمَعَ في حُضورِه.
وقال آخَرُ: ما ذُكِرَ أخٌ لي في غَيبةٍ إلَّا تَصَوَّرتُ نَفسي في صورَتِه، فقُلتُ فيه ما أُحِبُّ أن يُقالَ فيَّ.
فهذا حَقيقةٌ في صِدقِ الإسلامِ، لا يَكونُ مُسلِمًا حتَّى يَرضى لأخيه ما يَرضى لنَفسِه، ويَكرَهُ له ما يَكرَهُ لنَفسِه.
وقال بَعضُ الأدَباءِ: مَنِ اقتَضى مِن إخوانِه ما لا يَقتَضونَ مِنه ظَلَمهم، ومَنِ اقتَضى مِنهم ما يَقتَضونَ مِنه فقَد أتعَبَهم، ومَن لم يقتَضِهم فقَد تَفضَّل عليهم، وبمَعناه رُوِّينا عن بَعضِ الحُكماءِ: مَن جَعَل نَفسَه فوقَ قَدْرِه عِندَ الإخوانِ أثِمَ وأثِموا، ومَن جَعَل نَفسَه في قَدرِه تَعِبَ وأتعَبَهم، ومَن جَعَلها دونَ قَدرِه سَلِمَ وسَلِموا)
[1749] ((قوت القلوب)) (2/ 365). .