موسوعة الآداب الشرعية

حادي عشرَ: التَّناصُرُ والتَّعاوُنُ


مِنَ الحُقوقِ والآدابِ بينَ الإخوةِ والأصحابِ: التَّناصُرُ والتَّآزُرُ والتَّعاوُنُ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] .
2- قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] .
قال السَّعديُّ: (هذا عَقدٌ عقَده اللهُ بَينَ المُؤمِنينَ [1750] قال السَّعديُّ في تَفسيرِ قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ [المائِدة: 1] : (هذا أمرٌ مِن اللهِ تعالى لعِبادِه المُؤمِنينَ بما يقتَضيه الإيمانُ بالوفاءِ بالعُقودِ، أي: بإكمالِها، وإتمامِها، وعَدَمِ نَقضِها ونَقصِها. وهذا شامِلٌ للعُقودِ التي بَينَ العَبدِ وبَينَ رَبِّه مِن التِزامِ عُبوديَّتِه، والقيامِ بها أتَمَّ قيامٍ، وعَدَمِ الانتِقاصِ مِن حُقوقِها شَيئًا، والتي بَينَه وبَينَ الرَّسولِ بطاعَتِه واتِّباعِه، والتي بَينَه وبَينَ الوالدَينِ والأقارِبِ ببرِّهم وصِلَتِهم، وعَدَمِ قَطيعَتِهم، والتي بَينَه وبَينَ أصحابِه مِن القيامِ بحُقوقِ الصُّحبةِ في الغِنى والفقرِ، واليُسرِ والعُسرِ، والتي بَينَه وبَينَ الخَلقِ مِن عُقودِ المُعامَلاتِ، كالبَيعِ والإجارةِ، ونَحوِهما، وعُقودِ التَّبَرُّعاتِ، كالهِبةِ ونَحوِها، بَل والقيامِ بحُقوقِ المُسلمينَ التي عَقدَها اللهُ بَينَهم في قَولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ *الحجرات: 10* بالتَّناصُرِ على الحَقِّ، والتَّعاوُنِ عليه، والتَّآلُفِ بَينَ المُسلمينَ وعَدَمِ التَّقاطُعِ. فهذا الأمرُ شامِلٌ لأُصولِ الدِّينِ وفُروعِه؛ فكُلُّها داخِلةٌ في العُقودِ التي أمَرَ اللهُ بالقيامِ بها). ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 218). ، أنَّه إذا وُجِد مِن أيِّ شخصٍ كان في مَشرِقِ الأرضِ ومغرِبِها الإيمانُ باللهِ وملائِكتِه وكُتبِه ورُسلِه واليومِ الآخِرِ، فإنَّه أخٌ للمُؤمِنينَ أُخوَّةً تُوجِبُ أن يحِبَّ له المُؤمنونَ ما يُحِبُّونَ لأنفُسِهم، ويكرَهوا له ما يكرَهونَ لأنفُسِهم؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آمِرًا بحُقوقِ الأخوَّةِ الإيمانيَّةِ: "لا تَحاسَدوا، ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا، ولا يَبِعْ أحَدُكُم على بَيعِ بَعضٍ، وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا، المُؤمِنُ أخو المُؤمِنِ، لا يَظلِمُه، ولا يَخذُلُه، ولا يَحقِرُه" [1751] أخرجه مسلم (2564) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَحاسَدوا، ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يَبِعْ بَعضُكُم على بَيعِ بَعضٍ، وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا. المُسلمُ أخو المُسلِمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه ولا يَحقِرُه ...)). .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُؤمِنُ للمُؤمِنِ، كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا)) وشَبَّك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينَ أصابعِه [1752] أخرجه البخاري (2446) واللفظ له، ومسلم (2585) من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ولقَد أمَرَ اللَّهُ ورَسولُه بالقيامِ بحُقوقِ المُؤمِنينَ بَعضِهم لبَعضٍ، وبما به يَحصُلُ التَّآلُفُ والتَّوادُدُ، والتَّواصُلُ بينَهم، كُلُّ هذا تَأييدٌ لحُقوقِ بَعضِهم على بَعضٍ؛ فمِن ذلك إذا وقَعَ الاقتِتالُ بينَهم الموجِبُ لتَفرُّقِ القُلوبِ وتَباغُضِها وتَدابُرِها، فليُصلحِ المُؤمِنونَ بينَ إخوانِهم، وليَسْعَوا فيما به يَزولُ شَنآنُهم.
ثُمَّ أمَرَ بالتَّقوى عُمومًا، ورَتَّبَ على القيامِ بحُقوقِ المُؤمِنينَ وبتَقوى اللهِ الرَّحمةَ، فقال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] ، وإذا حَصَلتِ الرَّحمةُ حَصَل خيرُ الدُّنيا والآخِرةِ، ودَلَّ ذلك على أنَّ عَدَمَ القيامِ بحُقوقِ المُؤمِنينَ مِن أعظَمِ حَواجِبِ الرَّحمةِ) [1753] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 800). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((انصُرْ أخاك ظالِمًا أو مَظلومًا. فقال رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أنصُرُه إذا كان مَظلومًا، أفرَأيتَ إذا كان ظالِمًا، كيف أنصُرُه؟ قال: تَحجُزُه -أو تَمنَعُه- مِنَ الظُّلمِ؛ فإنَّ ذلك نَصرُه)) [1754] أخرجه البخاري (6952). .
وفي رِوايةٍ: ((قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هذا نَنصُرُه مَظلومًا، فكيف نَنصُرُه ظالِمًا؟ قال: تَأخُذُ فوقَ يَديه)) [1755] أخرجها البخاري (2444). .
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... ليَنصُرِ الرَّجُلُ أخاه ظالِمًا أو مَظلومًا، إن كان ظالِمًا فليَنْهَه، فإنَّه له نَصرٌ، وإن كان مَظلومًا فليَنصُرْه)) [1756] أخرجه مسلم (2584). .
3- عَنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسَبعٍ، ونَهانا عن سَبعٍ: أمَرَنا بعيادةِ المَريضِ، واتِّباعِ الجِنازةِ، وتَشميتِ العاطِسِ، وإبرارِ القَسَمِ أوِ المُقسِمِ، ونَصرِ المَظلومِ، وإجابةِ الدَّاعي، وإفشاءِ السَّلامِ، ونَهانا عن خَواتيم -أو عن تَختُّمٍ- بالذَّهَبِ، وعن شُربٍ بالفِضَّةِ، وعَنِ المياثِر [1757] المَياثِرُ: جَمعُ الميثَرةُ، سُمِّي بها لوثارَتِها ولِينِها، وهيَ وِطاءٌ كانتِ النِّساءُ يَضَعنَه لأزواجِهنَّ على السُّروجِ، وكان مِن مَراكِبِ العَجَمِ، ويَكونُ مِنَ الحَريرِ، ويَكونُ مِنَ الصُّوفِ وغَيرِه، وقيل: أغشيةٌ للسُّروجِ تُتَّخَذُ مِنَ الحَريرِ، وقيل: هيَ سُروجٌ مِنَ الدِّيباجِ، وقيل: هيَ شَيءٌ كالفِراشِ الصَّغيرِ تُتَّخَذُ مِن حَريرٍ تُحشى بقُطنٍ أو صوفٍ يَجعَلُها الرَّاكِبُ على البَعيرِ تَحتَه فوقَ الرَّحلِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 285)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 2146)، ((شرح السنة)) للبغوي (3/ 160)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 213)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 33). ، وعَنِ القَسِّيِّ [1758] القَسِّيُّ: ثيابُ حَريرٍ مُضَلَّعةٌ فيها خُطوطٌ عَريضةٌ كالأضلاعِ، كان يُؤتى بها مِن مِصرَ والشَّامِ، وقيل فيها غَيرُ ذلك. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (3/ 160)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 529)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 34)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 293). ، وعن لُبسِ الحَريرِ والإستَبرَقِ [1759] الإستَبْرَقُ: الغَليظُ مِنَ الدِّيباجِ، وهو فارِسيٌّ مُعَرَّبٌ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (5/ 269)، ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 516). والدِّيباجِ [1760] الدِّيباجُ: نَوعٌ مِنَ الثِّيابِ سَداه ولُحمَتُه حَريرٌ، مُتَّخَذٌ مِنِ إبريسَم، وهو فارِسيٌّ مُعرَّبٌ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 97)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 115)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 268). ) [1761] أخرجه البخاري (5175)، ومسلم (2066) واللفظ له. .
4- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، ثُمَّ شَبَّك بينَ أصابعِه. وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالسًا إذ جاءَ رَجُلٌ يَسألُ، أو طالِبُ حاجةٍ، أقبَل علينا بوَجهِه، فقال: اشفَعوا فلتُؤجَروا، وليَقضِ اللهُ على لسانِ نَبيِّه ما شاءَ)) [1762] أخرجه البخاري (6026، 6027) واللفظ له، ومسلم (2585). .
قال عياضٌ: (قولُه: "المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا" فيه الحَضُّ على تَعاوُنِ المُسلِمينَ، وتَناصُرِهم وتَآلُفِهم وتوادُدِهم وتَراحُمِهم) [1763] ((إكمال المعلم)) (8/ 56). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا» تَمثيلٌ يُفيدُ الحَضَّ على مَعونةِ المُؤمِنِ للمُؤمِنِ ونُصرتِه، وأنَّ ذلك أمرٌ مُتَأكَّدٌ لا بُدَّ مِنه، فإنَّ البناءَ لا يَتِمُّ أمرُه ولا تَحصُلُ فائِدَتُه إلَّا بأن يَكونَ بَعضُه يُمسِكُ بَعضًا ويُقَوِّيه، فإن لم يكُنْ كذلك انحَلَّت أجزاؤُه، وخَرِبَ بناؤُه. وكذلك المُؤمِنُ لا يَستَقِلُّ بأمورِ دُنياه ودينِه إلَّا بمَعونةِ أخيه ومُعاضَدَتِه ومُناصَرَتِه، فإن لم يكُنْ ذلك عَجَز عَنِ القيامِ بكُلِّ مَصالحِه، وعن مُقاوَمةِ مُضادِّه؛ فحينَئِذٍ لا يَتِمُّ له نِظامُ دُنيا ولا دينٍ، ويَلتَحِقُ بالهالِكينَ) [1764] ((المفهم)) (6/ 565). وقال ابنُ هُبَيرةَ: (لمَّا كان المُؤمِنونَ يرتَفِدون بالمُؤمِنينَ، ويَتَعاضَدونَ ويتساعَدون؛ فتَقوى شَوكتُهم، ويَعلو أمرُهم، كان ذلك مُشعِرًا بإيمانِهم؛ فإنَّهم على شَكلِ البُنيانِ الذي كُلُّ لَبِنةٍ مِنه مِن حيثُ إنَّها تَتَّصِلُ بأختِها، وأختُها بأخرى وهَكذا، وكُلٌّ مِنَ المُؤمِنينَ مُرتَفِدٌ به، كُلُّ المُؤمِنينَ: الكبيرُ والصَّغيرُ، والعالمُ والمُتَعَلِّمُ، والمَصحوبُ والصَّاحِبُ، فيَكونُ مَثَلُهم كمَثَلِ البُنيانِ الذي كلُّ شيءٍ مِنه نافِعٌ لشيءٍ مِنه، فكان ذلك مِنَ الإيمانِ). ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (6/ 398). .

انظر أيضا: