ثالثَ عشرَ: عَدَمُ أذيَّةِ الجارِ
تَحرُمُ أذيَّةُ الجارِ بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ الأذى
[2075] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 343)، ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 494). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ الكِتابِ:قال تعالى:
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58] .
وفي الآيةِ تحريمُ أذى المؤمِنِ إلَّا بوَجهٍ شَرعيٍّ؛ كالمُعاقَبةِ على ذَنْبٍ، ويَدخُلُ في هذه الآيةِ كُلُّ ما يُؤدِّي للإيذاءِ؛ كالبَيعِ على بَيعِ غَيرِه، والسَّومِ على سَومِه، والخِطبةِ على خِطبتِه
[2076] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 213). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤذِ جارَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ)) [2077] أخرجه البخاري (6136) واللَّفظ له، ومسلم (47). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((قال رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كثرةِ صَلاتِها وصيامِها وصَدَقَتِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بلسانِها! قال: هي في النَّارِ. قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدَقتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَصَدَّقُ بالأثوارِ مِنَ الأقِطِ [2078] الأثوارُ: جَمعُ ثَورٍ، والثَّورُ: القِطعةُ مِنَ الأقِطِ، والأقِطُ: شيءٌ يُعمَلُ مِنَ اللَّبَنِ ويُجَفَّفُ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (9/ 189)، ((الصحاح)) للجوهري (2/ 607)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 581). ، ولا تُؤذي جيرانَها بلسانِها! قال: هي في الجَنَّةِ)) [2079] أخرجه أحمد (9675) واللَّفظُ له، وابن حِبان (5764)، والحاكم (7510). صَحَّحَه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2560)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكِمُ، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/321). .
ج- مِنَ الآثارِ1- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (مِن حَقِّ الجارِ أن تَبسُطَ إليه مَعروفَك، وتَكُفَّ عنه أذاك)
[2080] ذَكرَه ابنُ عبد البر في ((بهجة المَجالس)) (1/ 292). .
2- عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال للعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنه: ما بَقيَ مِن كرَمِ إخوانِك؟ قال: (الإفضالُ على الإخوانِ، وتَركُ أذى الجيرانِ)
[2081] ذَكرَه ابنُ عبد البر في ((بهجة المَجالس)) (1/ 292). .
3- عن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (ما مِن رَجُلينِ يَتَصارَمانِ فوقَ ثَلاثةِ أيَّام، فيَهلِكُ أحَدُهما، فماتا وهما على ذلك مِنَ المُصارَمةِ، إلَّا هلكا جَميعًا، وما مِن جارٍ يَظلمُ جارَه ويَقهَرُه، حتَّى يَحمِلَه ذلك على أن يَخرُجَ مِن مَنزِلِه، إلَّا هَلَك)
[2082] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (127). صَحَّحَ إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (94). .
فَوائِدُ:1- عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ القاسِمِ، عن أبيه: (أنَّ أبا بَكرٍ مَرَّ بعَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بَكرٍ وهو يُماظُّ جارًا له، قال: لا تُماظَّ
[2083] أي: لا تُنازِعْه. والمُماظَّةُ: شِدَّةُ المُنازَعةِ والمُخاصَمةِ، مَعَ طولِ اللُّزومِ لذلك. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (4/ 125)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 273)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/ 340). جارَك؛ فإنَّ هذا يَبقى، ويَذهَبُ النَّاسُ)
[2084] أخرجه ابنُ المُبارَك في ((الزهد والرقائق)) (699) واللفظ له، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (246). .
2- (الجارُ له حَقٌّ عَظيمٌ، ومَكانةٌ عاليةٌ، ومَعَ عِظَمِ تلك المَكانةِ للجارِ في الإسلامِ فإنَّ هناك تَفريطًا كبيرًا يَقَعُ في هذا الجانِبِ؛ وذلك أنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ لا يَرعى حَقَّ الجارِ، ولا يَقدُرُه قَدرَه، بَل يُسيءُ إليه، ويُؤذيه بأنواعٍ مِنَ الأذى:
فمِنَ النَّاسِ مَن لا يَعرِفُ جارَه المُلاصِقَ لبابِه، ورُبَّما دامَتِ الجيرةُ سَنَواتٍ عَديدةً وهم لم يَتَعارَفوا.
ومِنَ النَّاسِ مَن يُضايِقُ جيرانَه بإلقاءِ الزِّبلِ أمامَ أبوابِهم، أو بإيقافِ سيَّارَتِه بمُحاذاةِ بابِ الجيرانِ؛ مِمَّا يَشُقُّ مَعَه دُخولُهم إلى المَنزِلِ وخُروجُهم مِنه.
ومِنَ النَّاسِ مَن يُريقُ الماءَ الكثيرَ أمامَ بيتِ الجيرانِ.
ومِنهم مَن يُؤذيهم بالرَّوائِحِ الكريهةِ، ورَفع الأصواتِ، وإزعاجِهم وقتَ راحَتِهم.
ومِنهم مَن يَقومُ أبناؤُه بإثارةِ المُشكِلاتِ مَعَ أبناءِ الجيرانِ. ومَعَ ذلك لا يَكُفُّ أذاهم عَنِ الجيرانِ، بَل رُبَّما دافعَ عَنهم.
وأقبَحُ ما في ذلك تَتَبُّعُ عَوراتِ الجارِ والنَّظَرُ إلى مَحارِمِه عَبرَ سَطحِ المَنزِلِ، أو عَبرَ النَّوافِذِ المُطِلَّةِ عليه.
فذلك العَمَلُ يُعَدُّ مِن أقبَحِ الخِصالِ وأسوئِها، والعَرَبُ كانت تَأنَفُ هذه الخَصلةَ، وتُفاخِرُ بمُحاماتِها عَنِ الجارِ ورِعايَتِها لحَقِّه، بَل إنَّ أهلَ الجاهليَّةِ يَتَرَفَّعونَ عَنِ النَّظَرِ إلى مَحارِمِ الجيرانِ، ويَرَونَ ذلك التَّرَفُّعَ مِنَ المَحامِدِ التي يُفاخِرونَ بها)
[2085] يُنظر: ((سوء الخلق)) (ص: 59-61). .