رابعَ عشرَ: الصَّبرُ على أذَى الجارِ
يَنبَغي الصَّبرُ على أذى الجارِ
[2086] قال الغَزاليُّ: (اعلَمْ أنَّه ليس حَقُّ الجِوارِ كفَّ الأذى فقَط، بَل احتِمالُ الأذى؛ فإنَّ الجارَ أيضًا قَد كفَّ أذاه فليس في ذلك قَضاءُ حَقٍّ، ولا يَكفي احتِمالُ الأذى بَل لا بُدَّ مِنَ الرِّفقِ وإسداءِ الخيرِ والمَعروفِ). ((إحياء علوم الدين)) (2/ 213). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَشكو جارَه، فقال: اذهَبْ فاصبِرْ، فأتاه مَرَّتينِ أو ثَلاثًا، فقال: اذهَبْ فاطرَحْ مَتاعَك في الطَّريقِ. فطَرَحَ مَتاعَه في الطَّريقِ، فجَعَل النَّاسُ يَسألونَه فيُخبرُهم خَبَرَه، فجَعَل النَّاسُ يَلعَنونَه: فعَل اللهُ به، وفَعَل وفَعَل! فجاءَ إليه جارُه فقال له: ارجِعْ لا تَرى مِنِّي شيئًا تَكرَهُه)) [2087] أخرجه من طرق أبو داود (5153) واللفظ له، وابن حبان (520)، والحاكم (7508) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط مسلم، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5153): حسن صحيح، وجود إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/321)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5153) .
2- عن مُطَرِّفِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ، قال: (بَلَغَني عن أبي ذَرٍّ حَديثٌ، فكُنتُ أحِبُّ أن ألقاه، فلقيتُه فقُلتُ له: يا أبا ذَرٍّ، بَلَغَني عَنك حَديثٌ، فكُنتُ أُحِبُّ أن ألقاك فأسألَك عَنه، فقال: قَد لقيتَ فاسألْ. قال: قُلتُ: بَلغَني أنَّك تَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: "ثَلاثةٌ يُحِبُّهمُ اللهُ، وثَلاثةٌ يُبغِضُهمُ اللَّهُ" قال: نَعَمْ، فما إخالُني أكذِبُ على خَليلي مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثَلاثًا يَقولُها، قال: قُلتُ: مَنِ الثَّلاثةُ الذينَ يُحِبُّهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ؟ قال: رَجُلٌ غَزا في سَبيلِ اللهِ، فلقيَ العَدوَّ مُجاهدًا مُحتَسِبًا فقاتَلَ حتَّى قُتِل، وأنتُم تَجِدونَ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصف: 4] ، ورَجُلٌ له جارٌ يُؤذيه، فيَصبرُ على أذاه ويَحتَسِبُه حتَّى يَكفيَه اللهُ إيَّاه بمَوتٍ أو حياةٍ، ورَجُلٌ يَكونُ مَعَ قَومٍ فيَسيرونَ حتَّى يَشُقَّ عليهمُ الكرى
[2088] الكَرَى: النَّوْمُ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/ 187). والنُّعاسُ، فيَنزِلونَ في آخِرِ اللّيلِ، فيَقومُ إلى وَضوئِه
[2089] الوَضوءُ -مَفتوحةَ الواوِ-: اسمٌ للماءِ الذي يُتَوضَّأُ به. والوُضوءُ -بالضَّمِّ-: الفِعلُ، مِثلُ السَّحورِ مَفتوحةَ السِّينِ: اسمٌ لِما يُتَسَحَّرُ به، والسُّحورُ: أكلُ السَّحَرِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (12/ 70)، ((غريب الحديث)) للخطابي (3/ 130)، ((الصحاح)) للجوهري (1/ 81). وصَلاتِه. قال: قُلتُ: مَنِ الثَّلاثةُ الذينَ يُبغِضُهمُ اللَّهُ؟ قال: الفَخورُ المُختالُ، وأنتُم تَجِدونَ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] ، والبَخيلُ المَنَّانُ، والتَّاجِرُ أوِ البيَّاعُ الحَلَّافُ. قال: قُلتُ: يا أبا ذَرٍّ، ما المالُ؟ قال: فِرْقٌ لنا وذَوْدٌ
[2090] الفِرقُ: القِطعةُ مِنَ الغَنَمِ، ويُقالُ أيضًا: فِرقٌ مِنَ الطَّيرِ ومِنَ النَّاسِ، ولا يُقالُ إلَّا في القَليلِ، وهذا الحَديثُ يَدُلُّ عليه. والذَّودُ مِنَ الإبِلِ: ما دونَ العَشَرةِ، اسمُ جَماعةٍ لا واحِدَ لها مِن لفظِها، كالإبِلِ، ويُجمَعُ على الأذوادِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/ 460)، ((غريب الحديث)) للخطابي (2/ 275)، ((الفائق)) للزمخشري (3/ 111). ، يَعني بالفِرْقِ: غَنَمًا يَسيرةً، قال: قُلتُ: لستُ عن هذا أسألُ، إنَّما أسألُك عن صامِتِ المالِ
[2091] صامِتُ المالِ: هو الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وضِدُّه النَّاطِقُ، وهو الحَيَوانُ، كالإبِلِ والغَنَمِ ونَحوِ ذلك. يُنظر: ((الفتح الرباني)) للساعاتي (19/ 189). ؟ قال: ما أصبَحَ لا أمسى، وما أمسى لا أصبحَ. قال: قُلتُ: يا أبا ذَرٍّ، ما لَك ولإخوتِك قُرَيشٍ؟ قال: واللهِ لا أسألُهم دُنيا ولا أستَفتيهم عن دينِ اللهِ حتَّى ألقى اللهَ ورَسولَه، ثَلاثًا يَقولُها)
[2092] أخرجه أحمد (21530) واللَّفظُ له، والطبراني (2/152) (1637)، والحاكِم (2481). صَحَّحَه الحاكِمُ وقال: على شَرطِ مسلمٍ، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (1791)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (272)، وصَحَّحَ إسنادَه على شَرطِ مسلم شُعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21530). .
مِن أقوالِ العلماءِ في الصَّبرِ على أذى الجارِ:1- قال السَّمَرقَنديُّ: (قال الحَسَنُ البَصريُّ: ليس حُسنُ الجِوارِ كفَّ الأذى عَنِ الجارِ، ولكِنَّ حُسنَ الجِوارِ الصَّبرُ على الأذى مِنَ الجارِ.
وقال عَمرُو بنُ العاصِ: ليس الواصِلُ الذي يَصِلُ مَن وَصَله ويَقطَعُ مَن قَطَعَه، وإنَّما ذلك المُنصِفُ، وإنَّما الواصِلُ الذي يَصِلُ مَن قَطَعَه ويَعطِفُ على مَن جَفاه، وليس الحَليمُ الذي يَحلُمُ عن قَومِه ما حَلُموا عَنه، فإذا جَهِلوا عليه جاهَلَهم، وإنَّما ذلك المُنصِفُ، إنَّما الحَليمُ الذي يَحلُمُ إذا حَلُموا، فإذا جَهِلوا عليه حَلُمَ عَنهم.
ويَنبَغي للمُسلمِ أن يَصبرَ على أذى الجارِ، ولا يُؤذيَ جارَه، ويَكونَ بحالٍ يَكونُ جارُه آمِنًا مِنه...
وتَمامُ حُسنِ الجِوارِ في أربَعةِ أشياءَ؛ أوَّلها: أن يواسيَه بما عِندَه.
والثَّاني: أن لا يَطمَعَ فيما عِندَه.
والثَّالِثُ: أن يَمنَعَ أذاه عَنه.
والرَّابعُ: أن يَصبرَ على أذاه)
[2093] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 143، 144). .
2- قال ابنُ حَزمٍ: (مَن أساءَ إلى أهلِه وجيرانِه فهو أسقَطُهم، ومَن كافأَ مَن أساءَ إليه مِنهم فهو مِثلُهم، ومَن لم يُكافِئْهم بإساءَتِهم فهو سيِّدُهم وخَيرُهم وأفضَلُهم)
[2094] ((رسائل ابن حزم)) (1/ 342). .
3- جاءَ رَجُلٌ إلى أبي العَبَّاسِ أحمَدَ بنِ يَحيى ثَعلَبٍ يُشاوِرُه في الانتِقالِ عن مَحلَّةٍ إلى أخرى لتَأذِّي الجِوارِ، فقال: (العَرَبُ تَقولُ: صَبرُك على أذى مَن تَعرِفُه خيرٌ لك مِنِ استِحداثِ مَن لا تَعرِفُه)
[2095] ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 17)، وقال: (كان الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ يَقولُ هذا المَعنى أيضًا). .