موسوعة الآداب الشرعية

ثالثًا: الإحسانُ إلى الجارِ


مِنَ الأدَبِ مَعَ الجارِ: الإحسانُ إليه وإكرامُه.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتاب:
قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء: 36] .
والجارُ ذو القُربى: هو الجارُ ذو القَرابةِ والرَّحِمِ، والجارُ ذو الجَنابةِ: هو الغَريبُ الذي ليست بينَكُم وبينَه قَرابةٌ، مُسلِمًا كان أو مُشرِكًا، يَهوديًّا كان أو نَصرانيًّا؛ ففي الآيةِ وصيَّةٌ بجَميعِ أصنافِ الجيرانِ؛ قَريبِهم وبعيدِهم [1989] يُنظر: ((جامِع البيان)) لابن جرير الطبري (7/ 10، 11). ، فإذا كان الجارُ قَريبَه وهو مُسلِمٌ، فله حَقُّ القَرابةِ، وحَقُّ الإسلامِ، وحَقُّ الجِوارِ، وأمَّا الذي له حَقَّانِ فالجارُ المُسلِمُ؛ فله حَقُّ الإسلامِ، وحَقُّ الجِوارِ، وأمَّا الذي له حَقٌّ واحِدٌ فجارُك الذِّمِّيُّ؛ فله حَقُّ الجِوارِ، فيَنبَغي أن يَعرِفَ حَقَّ الجارِ وإن كان ذِمِّيًّا [1990] يُنظر: ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 142). وقال ابنُ حَجَرٍ: (الجيرانُ ثَلاثةٌ: جارٌ له حَقٌّ، وهو المُشرِكُ له حَقُّ الجِوارِ، وجارٌ له حَقَّانِ، وهو المُسلمُ له حَقُّ الجِوارِ وحَقُّ الإسلامِ، وجارٌ له ثَلاثةُ حُقوقٍ، مُسلمٌ له رَحِمٌ؛ له حَقُّ الجِوارِ والإسلامِ والرَّحِمِ). ((فتح الباري)) (10/ 442). .
قال السَّعديُّ: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: أحسِنوا إليهم بالقَولِ الكريمِ والخِطابِ اللَّطيفِ والفِعلِ الجَميلِ؛ بطاعةِ أمرِهما، واجتِنابِ نَهيِهما، والإنفاقِ عليهما، وإكرامِ مَن له تَعَلُّقٌ بهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا رَحِمَ لك إلَّا بهما. وللإحسانِ ضِدَّانِ: الإساءةُ، وعَدَمُ الإحسانِ. وكِلاهما مَنهيٌّ عنه.
وَبِذِي الْقُرْبَى أيضًا إحسانًا، ويَشمَلُ ذلك جَميعَ الأقارِبِ، قَرُبوا أو بَعُدوا، بأن يُحسِنَ إليهم بالقَولِ والفِعلِ، وألَّا يَقطَعَ برَحِمِه بقَولِه أو فِعلِه.
وَالْيَتَامَى أي: الذينَ فقَدوا آباءَهم وهم صِغارٌ، فلهم حَقٌّ على المُسلِمينَ، سَواءٌ كانوا أقارَبَ أو غيرَهم، بكفالتِهم وبِرِّهم وجَبرِ خَواطِرِهم وتَأديبِهم، وتَربيَتِهم أحسنَ تَربيةٍ في مَصالحِ دينِهم ودُنياهم.
وَالْمَسَاكِينِ وهمُ الذينَ أسكنَتهمُ الحاجةُ والفَقرُ، فلم يَحصُلوا على كِفايَتِهم ولا كِفايةِ مَن يَمونونَ؛ فأمَر اللهُ تعالى بالإحسانِ إليهم، بسَدِّ خَلَّتِهم، وبدَفعِ فاقَتِهم، والحَضِّ على ذلك، والقيامِ بما يُمكِنُ مِنه.
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى أي: الجارِ القَريبِ الذي له حَقَّانِ؛ حَقُّ الجِوارِ، وحَقُّ القَرابةِ، فله على جارِه حَقٌّ وإحسانٌ راجِعٌ إلى العُرفِ. وَ كذلك الْجَارِ الجُنُبِ أي: الذي ليس له قَرابةٌ. وكُلَّما كان الجارُ أقرَبَ بابًا كان آكَدَ حَقًّا؛ فيَنبَغي للجارِ أن يَتَعاهَدَ جارَه بالهَديَّةِ والصَّدَقةِ والدَّعوةِ، واللَّطافةِ بالأقوالِ والأفعالِ، وعَدَمِ أذيَّتِه بقَولٍ أو فِعلٍ) [1991] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 178). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي شُريحٍ الخُزاعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُحسِنْ إلى جارِه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خيرًا أو ليسكُتْ)) [1992] أخرجه مسلم (48). .
وفي رِوايةٍ عن أبي شُريحٍ العَدَويِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعَت أذُنايَ، وأبصَرَت عينايَ، حينَ تَكلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ جارَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه جائِزَتَه. قال: وما جائِزَتُه يا رَسولَ اللهِ؟ قال: يَومٌ وليلةٌ، والضِّيافةُ ثَلاثةُ أيَّامٍ، فما كان وراءَ ذلك فهو صَدَقةٌ عليه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خيرًا أو ليَصمُتْ)) [1993] أخرجها البخاري (6019). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليَقُلْ خيرًا أو ليَصمُتْ، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ جارَه، ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فليُكرِمْ ضَيفَه)) [1994] أخرجه البخاري (6475)، ومسلم (47) واللَّفظ له. .
3- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما زال جِبريلُ يوصيني بالجارِ، حتَّى ظَنَنتُ أنَّه سيُوَرِّثُه)) [1995] أخرجه البخاري (6015)، ومسلم (2625). .
4- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، تَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما زال جِبريلُ يوصيني بالجارِ، حتَّى ظَنَنتُ أنَّه ليُوَرِّثَنَّه)) [1996] أخرجه البخاري (6014)، ومسلم (2624) واللَّفظ له. .
قال الذَّهَبيُّ: (إنَّما جاءَ الحَديثُ في هذا الأسلوبِ للمُبالغةِ في حِفظِ حُقوقِ الجارِ وعَدَمِ الإساءةِ إليه؛ حيثُ أنزَله الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنزِلةَ الوارِثِ؛ تَعظيمًا لحَقِّه، ووُجوبِ الإحسانِ إليه، وعَدَمِ الإساءةِ إليه بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ الأذى) [1997] ((حق الجار)) (ص: 24). .
5- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صِلةُ الرَّحِمِ، وحُسنُ الخُلُقِ وحُسنُ الجِوارِ: يَعمُرانِ الدِّيارَ، ويَزيدانِ في الأعمارِ)) [1998] أخرجه أحمد (25259) واللَّفظُ له، وأبو يعلى (4530)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7969) مِن حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صَحَّحَه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (3767)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1629)، وصَحَّحَ إسناده شُعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (25259). .
ج- مِنَ الآثارِ
عَن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قامَ في النَّاسِ خَطيبًا، فقال بَعدَ حَمدِ اللهِ والثَّناءِ عليه والصَّلاةِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (...ألا وقولوا الحَقَّ تُعرَفوا به، واعمَلوا به تَكونوا مِن أهلِه، وأدُّوا الأمانةَ إلى مَنِ ائتَمَنَكُم، وصِلوا أرحامَ مَن قَطَعَكُم، وعُودوا بالفَضلِ على مَن حَرَمَكُم، وإذا عاهَدتُم فأوفوا، وإذا حَكمتُم فاعدِلوا، ولا تَفاخَروا بالآباءِ، ولا تَنابَزوا بالألقابِ، ولا تَمازَحوا، ولا يَغتَبْ بَعضُكُم بَعضًا، وأعينوا الضَّعيفَ والمَظلومَ والغارِمينَ، وفي سَبيلِ اللهِ وابنِ السَّبيلِ والسَّائِلينِ وفي الرِّقابِ، وارحَموا الأرمَلةَ واليَتيمَ، وأفشُوا السَّلامَ ورَدُّوا التَّحيَّةَ على أهلِها مِثلَها أو بأحسَنَ مِنها، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2] ، وأكرِموا الضَّيفَ، وأحسِنوا إلى الجارِ، وعُودوا المَرضى، وشيِّعوا الجَنائِزَ، وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا...) [1999] ذكره الهيثم بن عدي كما في ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/340) واللَّفظُ له عن عيسى بنِ دآب. قال ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (7/318): له شَواهِدُ مِن وُجوهٍ أُخَرَ مُتَّصِلةٍ. وأخرجه من طريق آخر مختصرًا البيهقي في ((شعب الإيمان)) (10614)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (42/494). وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ أبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (1/76) مُختَصَرًا.
فَوائِدُ:
1- قال ابنُ أبي جَمرةَ عَنِ الجارِ: (حَدُّ الإحسانِ إلى الجارِ على ضَربَينِ: إمَّا الإحسانُ إليه بأنواعِ ضُروبِ الإحسانِ، وإمَّا كَفُّ الأذى عنه على اختِلافِ أنواعِه، وكَفُّ الأذى عنه أشَدُّ وأبلغُ في حقيقةِ الإيمانِ... فنَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تَجتَمِعَ حَقيقةُ الإيمانِ مَعَ إيذائِه الجارَ، والإحسانُ إليه مِن كمالِه.
والإحسانُ إليه يكونُ بالوُجوهِ المحسوسةِ، مِثلُ الهَدِيَّةِ، وألَّا يمنَعَه غَرْزَ خَشَبةٍ في جدارِه إن احتاج إليها، وما هو في معنى ذلك، ويكونُ بالمعنويَّاتِ، مِثلُ إرادةِ الخيرِ له، والدُّعاءِ له بظَهرِ الغَيبِ وما في معناه، ومعاونتِه على شيءٍ إن احتاج إليه بقَدْرِ الجُهدِ بأيِّ نوعٍ كان ذلك من المحسوساتِ أو المعنويَّاتِ، كُلُّ ذلك على قَدْرِ طاقتِك بغيرِ ضَرَرٍ يَلحَقُ فيه للغَيرِ...
وهل يحتاجُ في ذلك إلى نيَّةٍ أم لا؟
فاعلَمْ أنَّ كُلَّ فِعلٍ يُمكِنُ عَمَلُه للَّهِ، ويُمكِنُ عَمَلُه لغيرِ اللَّهِ، والوجهانِ فيه سائِغانِ على لسانِ العِلمِ؛ فلا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ فيه إذا فُعِل للَّهِ؛ ليَمتازَ مِن غيرِه.
والإحسانُ للجارِ هو مِمَّا يُمكِنُ أن يَكونَ للَّهِ وأن يَكونَ لغيرِ اللهِ، مِثلُ أن تَفعَلَ الخيرَ مَعَه مُكافأةً على إحسانٍ تَقَدَّم له عليك، أو لمَن يَلزَمُك مِنه ملزَمٌ، أو لحُبٍّ فيه، أو لحياءٍ مِنه، أو لرَغبةٍ في مُكافأتِه، أو لإحسانِه، أو لخَوفٍ مِنه، وأشياءَ عَديدةٍ إذا نَظَرتَها تَجِدُها. فإذا كان لمُجَرَّدِ الجِوارِ فالنِّيَّةُ فيه مَطلوبةٌ؛ ليَتَميَّزَ مِن هذه الوُجوهِ كُلِّها. وما أقَلَّ اليَومَ فاعِلَ ذلك!) [2000] ((بَهجة النُّفوسِ)) (4/ 164، 165). .
2- عن مُحَمَّدِ بنِ عَليِّ بنِ الحَنَفيَّةِ، في قَولِه تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60]، قال: (هي مُسْجَلةٌ للبَرِّ والفاجِرِ) [2001] رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (130)، وابن جرير الطبري في ((جامِع البيانِ)) (22/ 253). .
قال القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (قال الأصمَعيُّ: قَولُه: "مُسْجَلةٌ" يَعني: مُرسَلةٌ [2002] يُقالُ: أسجَلتُ الكلامَ، أي: أرسَلتُه. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 1726). ، لم يُشتَرَطْ فيها بَرٌّ دونَ فاجِرٍ.
فالإحسانُ إلى كُلِّ أحَدٍ جَزاؤُه الإحسانُ، وإن كان الذي يُصطَنَعُ إليه فاجِرًا...
عنِ ابنِ جُرَيجٍ في قَولِه: ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا قال: لم يَكُنِ الأسيرُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا مِنَ المُشرِكينَ، فأرى أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَد أثنى على مَن أحسَنَ إلى أسيرِ المُشرِكينَ.
ومِنه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ كتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ؛ فإذا قَتَلتُم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ)) [2003] أخرجه مسلم (1955). [2004] ((غريب الحديث)) (5/ 387-389). .

انظر أيضا: