موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: الإهداءُ إلى الجارِ


يُستَحَبُّ الإهداءُ إلى الجيرانِ، ولا يَمتَنِعْ مِن ذلك لقلَّةِ ما يُهديه أو عَدَمِ نَفاسَتِه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا نِساءَ المُسلِماتِ، لا تَحقِرَنَّ جارةٌ لجارَتِها ولو فِرْسِنَ [2005] أصلُ الفِرسِنِ للإبِلِ، وهو مَوضِعُ الحافِرِ مِنَ الفرَسِ، ويُقالُ لمَوضِعِ ذلك مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ: الظِّلفُ. وقال الأصمَعيُّ: الفِرسِنُ: ما دونُ الرُّسغِ مَن يَدي البَعيرِ، وهي مُؤَنَّثةٌ، والجَمعُ الفَراسِنُ. وقال ابنُ السِّكِّيتِ: إنَّما الفِرسِنُ للبَعيرِ، فاستُعيرَ للشَّاةِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2177)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 87). شاةٍ)) [2006] أخرجه البخاري (2566)، ومسلم (1030). .
في الحَديثِ الحَضُّ على مُهاداةِ الجارِ وصِلتِه، وعلى التَّهادي والمتاحَفةِ ولو باليسيرِ؛ لِما فيه مِن استِجلابِ المَودَّةِ، وإذهابِ الشَّحناءِ، واصطِفاءِ الجيرةِ، ولِما فيه مِنَ التَّعاوُنِ على أمرِ العيشةِ المُقيمةِ للأرماقِ، وأيضًا فإنَّ الهَديَّةَ إذا كانت يَسيرةً فهي أدَلُّ على المَودَّةِ، وأسقَطُ للمَئونةِ، وأسهَلُ على المُهدي لاطِّراحِ التَّكليفِ، وإنَّما أشارَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بفِرسِنِ الشَّاةِ إلى القَليلِ مِنَ الهَديَّةِ، لا إلى إعطاءِ الفِرسِنِ؛ لأنَّه لا فائِدةَ فيه [2007] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/ 85) و(9/ 222). .
فعلى المَرءِ ألَّا يَحقِرَ قَليلَ المَعروفِ؛ فإنَّه لا يَحقِرُه إلَّا قَليلُ العِلمِ؛ فإنَّه إذا نَظَرَ إلى ما يَتَقَبَّلُ اللهُ تعالى مِنه لم يَسُغْ له احتِقارُ شَيءٍ يَتَقَبَّلُه اللهُ تعالى [2008] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابنِ هبيرة (6/ 271). .
وقال النَّوويُّ: (هذا النَّهيُ عَنِ الاحتِقارِ نَهيٌ للمُعطيةِ المُهديةِ [2009] قال عِياضٌ: (يحتملُ أن يَكونَ النَّهيُ عن الاحتِقارِ للمُعطاةِ، ويحتملُ أن يَكونَ ذلك للمُعطيةِ، وأن تَصِلَ جارَتَها بما أمكنَها، ولا يَمنَعَها إن لم تَجِدِ الكثيرَ أن تَصِلَ بالقَليلِ، وهذا الوَجهُ هو الظَّاهرُ مِن تَأويلِ مالكٍ في إدخالِ الحَديثِ في "الموطَّأ" في باب التَّرغيبِ في الصَّدَقةِ). ((إكمال المعلم)) (3/ 561). ويُنظر: ((موطَّأ مالك)) (2/ 996). ، ومَعناه: لا تَمتَنِعْ جارةٌ مِنَ الصَّدَقةِ والهَديَّةِ لجارَتِها؛ لاستِقلالِها واحتِقارِها المَوجودَ عِندَها، بَل تَجودُ بما تيَسَّرَ وإن كان قَليلًا كفِرسِنِ شاةٍ، وهو خيرٌ مِنَ العَدَمِ، وقد قال اللهُ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهْ [الزلزلة: 7] ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اتَّقَوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمرةٍ" [2010] أخرجه البخاري (1417)، ومسلم (1016) مِن حَديثِ عِديِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه. [2011] ((شرح مسلم)) (7/ 120). ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (6/ 271). .
2- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أبا ذَرٍّ، إذا طَبَخَت مَرَقةً فأكثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جيرانَك)) [2012] أخرجه مسلم (2625). .
وفي رِوايةٍ: ((إنَّ خَليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصاني: إذا طَبَختَ مَرَقًا فأكثِرْ ماءَه، ثُمَّ انظُرْ أهلَ بَيتٍ مِن جيرانِك، فأصِبْهم مِنها بمَعروفٍ)) [2013] أخرجها مسلم (2625). .
3- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه ذَبَح شاةً، فقال: أهديتُم لجاري اليَهوديِّ؟ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما زال جِبريلُ يُوصيني بالجارِ حتَّى ظَنَنتُ أنَّه سيُوَرِّثُه)) [2014] أخرجه أبو داود (5152) واللَّفظُ له، والترمذي (1943)، وأحمد (6496). صَحَّحَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5152)، والوادعي في ((الصحيح المسند مِمَّا ليس في الصَّحيحينِ)) (791)، وصحح إسناده على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (6496) .
فائِدةٌ:
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأُسوةُ الحَسَنةُ، كان يُهدي إلى أصحابِه وغيرِهم، وكان يَقبَلُ الهَديَّةَ ويُثيبُ عليها، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو أُهدِيَ إليَّ كُراعٌ لقَبِلتُ، ولو دُعيتُ إلى ذِراعٍ لأجَبتُ!)) [2015] أخرجه البخاري (2568) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظَه: عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو دُعِيتُ إلى ذِراعٍ أو كُراعٍ لأجَبتُ، ولو أُهديَ إليَّ ذِراعٌ أو كُراعٌ لقَبِلتُ)). .
فالهَديَّةُ بما وصَفْنا سُنَّةٌ إلَّا أنَّها غيرُ واجِبةٍ؛ لأنَّ العِلَّةَ فيها استِجلابُ المَودَّةِ، وسَلُّ سَخيمةِ الصَّدرِ ووجْدِه وحِقدِه وغِلِّه؛ لتَعودَ العَداوةُ مَحَبَّةً، والبِغضةُ مَودَّةً. وهذا مِمَّا تَكادُ الفِطرةُ تَشهَدُ به؛ لأنَّ النُّفوسَ جُبِلَت عليه) [2016] ((الاستِذكار)) (8/ 293). .

انظر أيضا: