تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
يُستَحَبُّ أن يَبدَأَ في الإحسانِ والإكرامِ والإهداءِ إلى الجارِ بالأقرَبِ بابًا. الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ عَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ لي جارينِ، فإلى أيِّهما أُهدي؟ قال: إلى أقرَبِهما مِنكِ بابًا)) [2017] أخرجه البخاري (2259). . فَوائِدُ: 1- قال ابنُ بَطَّالٍ: (عائِشةُ إنَّما سَألتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَّن تَبدَأُ به مِن جيرانِها في الهَديَّةِ، فأخبَرَها أنَّه مَن قَرُب بابُه أَولى بها مِن غيرِه؛ فدَلَّ بهذا أنَّه أولى بجَميعِ حُقوقِ الجِوارِ وكرَمِ العِشرةِ والبرِّ مِمَّن هو أبعَدُ مِنه بابًا. قال ابنُ المُنذِرِ: وهذا الحَديثُ يَدُلُّ أنَّ اسمَ الجارِ يَقَعُ على غيرِ اللَّزيقِ؛ لأنَّه قَد يَكونُ له جارٌ لَزيقٌ وبابُه مِن سِكَّةٍ غيرِ سِكَّتِه، وله جارٌ بينَه وبينَ بابِه قَدرُ ذِراعَينِ وليس بلَزيقٍ له، وهو أدناهما بابًا... وكان الأوزاعيُّ يَقولُ: الجارُ أربَعينَ دارًا مِن كُلِّ ناحيةٍ! وقاله ابنُ شِهابٍ. وقال عليُّ بنُ أبى طالِبٍ: مَن سَمعَ النِّداءَ فهو جارٌ [2018] قال ابنُ قُدامةَ في حَدِّ الجارِ: (... هم أهلُ أربَعينَ دارًا مِن كُلِّ جانِبٍ. نَصَّ عليه أحمَدُ. وبه قال الأوزاعيُّ، والشَّافِعيُّ. وقال أبو حَنيفةَ: الجارُ المُلاصِقُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الجارُ أحَقُّ بصَقبِه» [أخرجه البخاري (6980) من حديثِ أبي رافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنه]. يَعني الشُّفعةَ، وإنَّما تَثبُتُ للمُلاصِقِ، ولأنَّ الجارَ مُشتَقٌّ مِنَ المُجاورةِ. وقال قتادةُ: الجارُ الدَّارُ والدَّارانِ. ورويَ عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه ... قال: مَن سَمِعَ النِّداءَ. وقال سَعيدُ بنُ عَمرِو بنِ جَعدةَ: مَن سَمِعَ الإقامةَ. وقال أبو يوسُفَ: الجيرانُ أهلُ المَحَلَّةِ إن جَمَعَهم مَسجِدٌ، فإن تَفرَّقَ أهلُ المَحَلَّةِ في مَسجِدَينِ صَغيرَينِ مُتَقارِبَينِ فالجَميعُ جيرانٌ، وإن كانا عَظيمَينِ فكُلُّ أهلِ مَسجِدٍ جيرانٌ، وأمَّا الأمصارُ التي فيها القَبائِلُ فالجِوارُ على الأفخاذِ. ولنا: ما رَوى أبو هرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الجارُ أربَعونَ دارًا، هَكَذا وهَكَذا وهَكَذا وهَكَذا». وهذا نَصٌّ لا يَجوزُ العُدولُ عنه إن صَحَّ، وإن لم يَثبُتِ الخَبَرُ فالجارُ هو المُقارِبُ، ويُرجَعُ في ذلك إلى العُرفِ). ((المغني)) (6/ 233). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 447). وقال الرَّاغِبُ: (الجارُ: مَن يَقرُبُ مَسكنُه منك). ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 211). وقال ابنُ عُثيمين: (الجارُ: هو المُلاصِقُ لك في بَيتِك والقَريبُ مِن ذلك، وقد ورَدَت بَعضُ الآثارِ بما يَدُلُّ على أنَّ الجارَ أربَعونَ دارًا كُلُّ جانِبٍ، ولا شَكَّ أنَّ المُلاصِقَ للبَيتِ جارٌ، وأمَّا ما وراءَ ذلك فإن صَحَّت الأخبارُ بذلك عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فالحَقُّ ما جاءَت به، وإلَّا فإنَّه يُرجَعُ في ذلك إلى العُرفِ، فما عَدَّه النَّاسُ جِوارًا فهو جِوارٌ). ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 176). وقال الألبانيُّ: (وكُلُّ ما جاءَ تَحديدُه عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأربَعينَ ضَعيفٌ لا يَصِحُّ، فالظَّاهِرُ أنَّ الصَّوابَ تَحديدُه بالعُرفِ، واللهُ أعلمُ). ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (1/ 446). وقال ابنُ المُلقِّنِ: (وكُلُّ مَن قارَبَ بَدَنُه بَدَنَ صاحِبِه قيل له: جارٌ، في لسانِ العَرَب؛ ولذلك قالوا لامرَأةِ الرَّجُلِ: جارةٌ؛ لِما بَينَهما مِنَ الاختِلاطِ بالزَّوجيَّةِ... فكذلك الشَّريكُ يُسَمَّى جارًا؛ لِما بَينَهما مِنَ الاختِلاطِ بالشَّرِكةِ). ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (15/ 19). ! قال المُهَلَّبُ: وإنَّما أمرَ عليه السَّلامُ بالهَديَّةِ إلى مَن قَرُبَ بابُه؛ لأنَّه يَنظُرُ إلى ما يَدخُلُ دارَ جارِه وما يَخرُجُ منها، فإذا رَأى ذلك أحَبَّ أن يُشارِكَه فيه، وأنَّه أسرَعُ إجابةً لجارِه عِندَ ما يَنوبُه مِن حاجةٍ إليه في أوقاتِ الغَفلةِ والغِرَّةِ؛ فلذلك بَدَأ به على مَن بَعُدَ بابُه، وإن كانت دارُه أقرَبَ) [2019] ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 382، 383). وقال السَّرَخسيُّ: (لأنَّ اطِّلاعَه واطِّلاعَ أولادِه على ما يَدخُلُ مَنزِلَه مِنَ النِّعمةِ: أكثَرُ؛ فهو بالهَديَّةِ أحَقُّ). ((المَبسوط)) (14/ 94). . 2- قال ابنُ أبي جَمرةَ في حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها المَذكورِ آنِفًا: (ظاهِرُ الحَديثِ يَدُلُّ على أنَّ أقرَبَ الجيرانِ مِنك بابًا أولى بالهَديَّةِ مِن غيرِه، والكلامُ عليه مِن وُجوهٍ: مِنها أن يُقالَ: هل هذا على طَريقِ الاستِحبابِ أوِ الوُجوبِ؟ فالجَوابُ: أمَّا أن يَكونَ على الوُجوبِ فليس بظاهِرٍ؛ لأنَّ الهَديَّةَ لم يَقُلْ أحَدٌ: إنَّها واجِبةٌ. فإذا كان الفِعلُ في نَفسِه مَندوبًا فتَقديمُ النَّاسِ فيه بَعضَهم على بَعضٍ مِن بابِ المَندوبِ أيضًا؛ فإنَّه لا يَكونُ الفَرعُ أقوى مِنَ الأصلِ. وفيه دَليلٌ على أنَّ المُستَحَبَّ في الأعمالِ: الأخذُ بما هو أعلى، يُؤخَذُ ذلك مِن إرشادِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِما هو الأفضَلُ في التَّرتيبِ بينَ الجيرانِ، والأعظَمُ حُرمةً. أليس أنَّها لو أهدَت لغيرِ الأقرَبِ بابًا لكانت مَأجورةً في هَديَّتِها؟ فلمَّا كان الأقرَبُ بابًا أعظَمَ حُرمةً كان بالمَعروفِ أَولى، وكان صاحِبُه أكثَرَ أجرًا، وكذلك السُّنَّةُ في غيرِ ذلك مِن أفعالِ البرِّ... وفيه دَليلٌ على تَقديمِ العِلمِ قَبلَ العَمَلِ، يُؤخَذُ ذلك مِن سُؤالِها رَضِيَ اللهُ عنها قَبلَ عَمَلِها. وفيه أيضًا دَليلٌ على أنَّ آكَدَ الجِهاتِ في الجِوارِ جِهةُ الأبوابِ؛ لأنَّ الذي هو أقرَبُ مِنك بابًا هو الذي تَكثُرُ مُشاهَدَتُه لك، ولكُلِّ ما يَرِدُ عليك. وقد يَعلمُ مِن حالِك لكثرةِ المُلازَمةِ ما لا يَعلمُه غيرُه، وأنت أيضًا تَعلَمُ مِن حالِه كذلك. وفيه دَليلٌ على أنَّ النَّدبَ إلى حِفظِ الجارِ، الرِّجالُ والنِّساءُ فيه سَواءٌ. يُؤخَذُ ذلك مِن قَولِها: «إلى أيِّهما أُهدي؟»؛ فإنَّها سَألت عَمَّا يَخُصُّها في ذلك. ولو كانت في ذلك نائِبةً عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقالت: إلى أيِّهما نُهدي؟) [2020] ((بهجة النفوس)) (4/ 168). وقال اليافعيُّ بَعدَ ذِكرِه حَديثَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (قال العُلماءُ: هذا إذا تَساوى الجيرانُ في الفَقرِ، أمَّا لو كان الأقرَبُ غَنيًّا، والأبعَدُ فقيرًا أو قَرابةً، فإنَّه يُهدي إلى الأبعَدِ؛ لأنَّ المُرادَ مِنَ الإهداءِ الإيثارُ والمواساةُ، والعَطفُ والصِّلةُ، والفقيرُ أَولى بذلك). ((الترغيب والترهيب)) (ص: 119). .