موسوعة الآداب الشرعية

ثالثَ عشرَ: الاستِعانةُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ


مِن الأدبِ معَ الله: أنْ يستعينَ العبدُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ وحدَه [173] (الاستِعانةُ: هيَ طَلَبُ العَونِ والمَعونةِ على قَضاءِ حاجةٍ، أو خُروجٍ مِن مِحنةٍ، وهيَ مِن نَوعِ الدُّعاءِ والاستِغاثةِ، فلا تُطلَبُ مِن عاجِزٍ لا يَقدِرُ على الإعانةِ، ولا مِن مَيِّتٍ لا يَسمَعُ المُستَعينَ به، ولا يَرى مَكانَه، ولا يَعرِفُ عن حاجَتِه وحالِه، ولا مِن غائِبٍ بَعيدٍ حالَ البُعدِ دونَ سَماعِ الدُّعاءِ ورُؤيةِ الدَّاعي، وإعانَتِه على ما هو في حاجةٍ إلى المَعونةِ فيه... ومِن هنا كان طَلَبُ المَعونةِ مِمَّن لا يَقدِرُ عليها مِنَ الأحياءِ لعَجزِهم أو غَيبَتِهم، كَطَلَبِها مِنَ الأمواتِ لمَوتِهم وانقِطاعِهم عنِ الحَياةِ، كان ضَلالًا وباطِلًا، وكان فاعِلُه مُشرِكًا باللهِ تعالى في هذه العِبادةِ مِن عِباداتِ اللهِ التي لا تَنبَغي لأحَدٍ سِواه). ((عقيدة المؤمن)) لأبي بكر الجزائري (ص: 116، 117). وقال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (إذا لم تَكُنِ المَعونةُ إلَّا مِنه فتَجَنَّبِ الاستِعانةَ بغَيرِه؛ إذ لا قُدرةَ له عليها، ولا سَبيلَ له إليها). ((شجرة المعارف)) (ص: 65). قال ابنُ القَيِّمِ: (والاستِعانةُ تَجمَعُ أصلَينِ: الثِّقةُ باللهِ، والاعتِمادُ عليه؛ فإنَّ العَبدَ قد يَثِقُ بالواحِدِ مِنَ النَّاسِ ولا يَعتَمِدُ عليه في أُمورِه مَعَ ثِقَتِه به لاستِغنائِه عنه، وقد يَعتَمِدُ عليه مَعَ عَدَمِ ثِقَتِه به لحاجَتِه إليه ولعَدَم مَن يَقومُ مَقامَه، فيَحتاجُ إلى اعتِمادِه عليه مَعَ أنَّه غَيرُ واثِقٍ به). ((مدارج السالكين)) (1/ 75). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى مُعَلِّمًا عِبادَه أن يَقولوا ويَدينوا له بمَعناه [174] يُنظر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (1/ 139). : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] .
قال أبو جَعفَرٍ الطَّبَريُّ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ: لك اللهُمَّ نَخشَعُ ونَذِلُّ ونَستَكينُ إقرارًا لك يا رَبَّنا بالرُّبوبيَّةِ لا لغَيرِك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: وإيَّاكَ يا رَبَّنا نَستَعينُ على عِبادَتِنا إيَّاكَ وطاعَتِنا في أُمورِنا كُلِّها، لا أحَدًا سِواك؛ إذ كان مَن يَكفُرُ بك يَستَعينُ في أُمورِه مَعبودَه الذي يَعبُدُه مِنَ الأوثانِ دونَك؛ فنَحنُ بك نَستَعينُ في جَميعِ أُمورِنا، مُخلِصينَ لك العِبادةَ) [175] ((جامع البيان)) (1/ 159، 160). .
2- قال الله تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف: 128] .
لمَّا تَوعَّدَهم فِرعَونُ جَزِعوا وتَضَجَّروا، فسَكَّنهم موسى عليه السَّلامُ، وأمرهم بالاستِعانةِ باللهِ وبالصَّبرِ [176] ((البحر المحيط)) لأبي حيان (4/ 297). ، فقال: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ أي: اعتَمِدوا عليه في جَلبِ ما يَنفعُكُم، ودَفعِ ما يَضُرُّكُم، وثِقوا باللهِ أنَّه سيُتِمُّ أمرَكُم وَاصْبِرُوا أي: الزَموا الصَّبرَ على ما يَحِلُّ بكُم، مُنتَظِرينَ للفرَجِ [177] ((تفسير السعدي)) (ص: 300). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كنتُ خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: ((يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن ينفعوك بشَيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ لك، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن يضُرُّوك بشَيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُفُ)) [178] أخرجه الترمذي (2516) واللفظ له، وأحمد (2669). صَحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصَحَّحه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699)، وحَسَّنه ابنُ حَجَرٍ في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). .
قال ابنُ رَجَبٍ: ((قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا سَألتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استَعنتَ فاستَعِن باللهِ» هذا مُنتَزَعٌ مِن قَولِه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ؛ فإنَّ السُّؤالَ هو دُعاؤُه والرَّغبةُ إليه، والدُّعاءُ هو العِبادةُ [179] أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (3247)، وابن ماجه (3828) من حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما.  صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (890)، وابن الملقن في ((ما تمس إليه الحاجة)) (95)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/112)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3828)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1177)، وقال الترمذي: حسن صحيح ... فتَضمَّن هذا الكَلامُ أن يُسألَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، ولا يُسألَ غَيرُه، وأن يُستَعانَ باللهِ دونَ غَيرِه.
واعلَمْ أنَّ سُؤالَ اللهِ تعالى دونَ خَلقِه هو المُتَعَيَّنُ؛ لأنَّ السُّؤالَ فيه إظهارُ الذُّلِّ مِنَ السَّائِلِ والمَسكَنةِ والحاجةِ والافتِقارِ، وفيه الاعتِرافُ بقُدرةِ المسؤولِ على دَفعِ هذا الضَّرَرِ ونَيلِ المَطلوبِ، وجَلبِ المَنافِعِ ودَرءِ المَضارِّ، ولا يَصلُحُ الذُّلُّ والافتِقارُ إلَّا للهِ وحدَه؛ لأنَّه حَقيقةُ العِبادةِ.
واللهُ سُبحانَه يُحِبُّ أن يُسأَلَ ويُرغَبَ إليه في الحَوائِجِ، ويُلَحَّ في سُؤالِه ودُعائِه، ويَغضَبُ على مَن لا يَسألُه، ويَستَدعي مِن عِبادِه سُؤالَه، وهو قادِرٌ على إعطاءِ خَلقِه كُلِّهم سُؤلَهم مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن مُلكِه شَيءٌ، والمَخلوقُ بخِلافِ ذلك كُلِّه؛ يَكرَهُ أن يُسأَلَ، ويُحِبَّ ألَّا يُسأَلَ؛ لعَجزِه وفقرِه وحاجَتِه.
وأمَّا الاستِعانةُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ دونَ غَيرِه مِنَ الخَلقِ؛ فلأنَّ العَبدَ عاجِزٌ عنِ الاستِقلالِ بجَلبِ مَصالحِه، ودَفعِ مَضارِّه، ولا مُعينَ له على مَصالحِ دينِه ودُنياه إلَّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، فمَن أعانَه اللهُ فهو المُعانُ، ومَن خَذَله فهو المَخذولُ، وهذا تَحقيقُ مَعنى قَولِ: "لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ"؛ فإنَّ المَعنى: لا تَحَوُّلَ للعَبدِ مِن حالٍ إلى حالٍ، ولا قوَّةَ له على ذلك إلَّا باللهِ، وهذه كَلِمةٌ عَظيمةٌ، وهيَ كَنزٌ مِن كُنوزِ الجَنَّةِ.
فالعَبدُ مُحتاجٌ إلى الاستِعانةِ باللهِ في فِعلِ المَأموراتِ، وتَركِ المَحظوراتِ، والصَّبرِ على المقدوراتِ كُلِّها في الدُّنيا وعِندَ المَوتِ، وبَعدَه مِن أهوالِ البَرزَخِ ويَومَ القيامةِ، ولا يَقدِرُ على الإعانةِ على ذلك إلَّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، فمَن حَقَّقَ الاستِعانةَ عليه في ذلك كُلِّه أعانَه.
ومَن تَرَكَ الاستِعانةَ باللهِ واستَعانَ بغَيرِه، وَكَلَه اللَّهُ إلى مَنِ استَعانَ به، فصارَ مَخذولًا.
كَتَبَ الحَسَنُ إلى عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ: لا تَستَعِنْ بغَيرِ اللهِ؛ فيَكِلَك اللهُ إليه.
ومِن كَلامِ بَعضِ السَّلَفِ: يا رَبِّ، عَجِبتُ لمَن يَعرِفُك كَيف يَرجو غَيرَك، وعَجِبتُ لمَن يَعرِفُك كَيف يَستَعينُ بغَيرِك؟!) [180] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 478-482). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المؤمِنُ القَوِيُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستَعِنْ باللهِ ولا تَعجِزَنَّ، وإن أصابك شيءٌ فلا تقُلْ: لو أنِّي فعَلْتُ لكان كذا وكذا، ولكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وما شاء فَعَلَ، فإنَّ لَوْ تفتَحُ عَمَلَ الشَّيطانِ)) [181] أخرجه مسلم (2664). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((عَلَّمَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُطبةَ الحاجةِ: إنَّ الحَمدَ للهِ، نستعينُه ونَستَغفِرُه...)) الحَديث [182] أخرجه أبو داود (2118) واللفظ له، والترمذي (1105)، والنسائي (1404). صحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/27)، والذهبي في ((المهذب)) (3/1142)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/530)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/264)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2118). .
فائدةٌ:
يوصَفُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بأنَّه المُستَعانُ، الَّذي يَستَعينُ به عِبادُه فيُعينُهم.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قَولُه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] .
2- وقَولُه: فصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسُف: 18] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ:
1- حَديثُ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((... اللهُمَّ أعِنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عِبادَتِك)) [183] أخرجه أبو داود (1522) واللفظ له، والنسائي (1303)، وأحمد (22119). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (2021)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1025)، وابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/97)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/297)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1522). .
2- حَديثُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((... إذا سَألتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استَعنتَ فاستَعِنْ باللهِ ...)) [184] أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2669). صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصحَّحه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). .
وقد عَدَّ بَعضُهم "المُستَعانَ" مِن أسماءِ اللهِ، وفي هذا نَظَرٌ.
أمَّا "المُعينُ" فهو ليسَ مِن أسماءِ اللهِ، خِلافَ ما هو مُنتَشِرٌ عِندَ العامَّةِ، فتَراهم يَتَعَبَّدونَ اللَّهَ به بتَسميةِ عَبدِ المُعينِ [185] يُنظر: ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) (ص: 314، 315). .

انظر أيضا: