موسوعة الآداب الشرعية

رابعَ عشرَ: الحَياءُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ


مِن الأدبِ معَ الله الحياءُ منه عَزَّ وجَلَّ [186] قال ابنُ القَيِّمِ: (الحَياءُ مِنَ الحَياةِ، ومِنه الحَيا للمَطَرِ، لكِنَّه مَقصورٌ، وعلى حَسَبِ حَياةِ القَلبِ يَكونُ فيه قوَّةُ خُلُقِ الحَياءِ. وقِلَّةُ الحَياءِ مِن مَوتِ القَلبِ والرُّوحِ، فكُلَّما كان القَلبُ أحيى كان الحَياءُ أتَمَّ. قال الجُنَيدُ رَحِمَه اللهُ: الحَياءُ رُؤيةُ الآلاءِ، ورُؤيةُ التَّقصيرِ، فيَتَولَّدُ بَينَهما حالةٌ تُسَمَّى الحَياءَ. وحَقيقَتُه خُلُقٌ يَبعَثُ على تَركِ القَبائِحِ، ويَمنَعُ مِنَ التَّفريطِ في حَقِّ صاحِبِ الحَقِّ... وعِمارةُ القَلبِ: بالهَيبةِ والحَياءِ، فإذا ذَهَبا مِنَ القَلبِ لم يَبقَ فيه خَيرٌ. وقال ذو النُّونِ: الحَياءُ وُجودُ الهَيبةِ في القَلبِ مَعَ وحشةِ ما سَبَقَ مِنك إلى رَبِّك، والحبُّ يُنطِقُ، والحَياءُ يُسكِتُ، والخَوفُ يُقلِقُ). ((مدارج السالكين)) (2/ 248). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 74). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ شُعبةً، والحَياءُ شُعبةٌ مِنَ الإيمانِ)) [187] أخرجه البخاري (9) بلفظِ: "بِضعٌ وسِتُّونَ"، ومسلم (35) واللَّفظُ له. .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الحَياءُ مِنَ الإيمانِ، والإيمانُ في الجَنَّةِ، والبَذاءُ مِنَ الجَفاءِ [188] البَذاءُ: خِلافُ الحَياءِ، والنَّاشِئ مِنه الفُحشُ في القَولِ، والسُّوءُ في الخُلُقِ. والجَفاءُ: خِلافُ البِرِّ الصَّادِرِ مِنه الوفاءُ، يُقالُ: رَجُلٌ جافي الخُلُقِ: إذا كان غَليظَ العِشرةِ، ويَكونُ الجَفاءُ في سوءِ العِشرةِ، والخُرقِ في المُعامَلةِ، والتَّحامُلِ عِندَ الغَضَبِ، والثَّورةِ على الجَليسِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (11/ 141)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 111، 281)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (3/ 618)، ((المفاتيح)) للمظهري (5/ 251)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3175). ، والجَفاءُ في النَّارِ)) [189] أخرجه الترمذي (2009)، وأحمد (10512). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (608)، والذهبي في ((الكبائر)) (472)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2009)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج (مسند أحمد)) (10512)، وقال الحاكم في ((المستدرك)) (173): على شرط مسلم، وقال الترمذي: حسن صحيح .
قال الحَليميُّ: (الحَياءُ: اسمٌ جامِعٌ يَدخُلُ فيه الاستِحياءُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ ذَمَّه فوقَ كُلِّ ذَمٍّ، ومَدحَه فوقَ كُلِّ مَدحٍ، والمَذمومُ بالحَقيقةِ مَن ذَمَّه رَبُّه، والمَحمودُ مَن حَمِدَه رَبُّه...
والحَياءُ مِنَ اللهِ تعالى طَريقٌ إلى إقامةِ كُلِّ طاعةٍ، واجتِنابِ كُلِّ مَعصيةٍ؛ لأنَّه إذا خاف الذَّمَّ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إيَّاه، وإنكارَه ما يَبدو مِنه مِنَ القَبيحِ، لم يَرفُضْ له طاعةً، ولم يَقرَبْ له مَعصيةً؛ لعِلمِه كان ذلك مِنكُم، فيَقومُ عِندَه، فإذا هو فازَ باستِكمالِ الإيمانِ لحَيائِه؛ فصَحَّ بذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الحَياءُ مِنَ الإيمانِ») [190] ((المنهاج في شعب الإيمان)) (3/ 231). .
3- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الحَياءُ لا يَأتي إلَّا بخَيرٍ)) [191] أخرجه البخاري (6117)، ومسلم (37). .
4- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَومًا بارِزًا للنَّاسِ إذ أتاه رَجُلٌ يَمشي، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإيمانُ؟ قال: الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه ولقائِه، وتُؤمِنَ بالبَعثِ الآخِرِ. قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإسلامُ؟ قال: الإسلامُ أن تَعبُدَ اللَّهَ ولا تُشرِكَ به شَيئًا، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتيَ الزَّكاةَ المَفروضةَ، وتَصومَ رَمَضانَ. قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإحسانُ؟ قال: الإحسانُ أن تَعبُدَ اللَّهَ كَأنَّك تَراه، فإن لم تَكُنْ تَراه فإنَّه يَراك)) [192] أخرجه البخاري (50) واللفظ له، ومسلم (9). .
قال ابنُ رَجَبٍ: (الإسلامُ الكامِلُ المَمدوحُ يَدخُلُ فيه تَركُ المُحَرَّماتِ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لسانِه ويَدِه» [193] أخرجه البخاري (10) واللفظ له، ومسلم (40) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وإذا حَسُنَ الإسلامُ اقتَضى تَرْكَ ما لا يَعني كُلِّه مِنَ المُحَرَّماتِ والمُشتَبِهاتِ والمَكروهاتِ وفُضولِ المُباحاتِ التي لا يحتاجُ إليها؛ فإنَّ هذا كُلَّه لا يَعني المُسلِمَ إذا كَمَل إسلامُه، وبَلَغَ إلى دَرَجةِ الإحسانِ، وهو أن يَعبُدَ اللَّهَ تعالى كَأنَّه يَراه، فإن لم يَكُنْ يَراه فإنَّ اللَّهَ يَراه، فمَن عَبَد اللَّهَ على استِحضارِ قُربِه ومُشاهَدتِه بقَلبِه، أو على استِحضارِ قُربِ اللهِ مِنه واطِّلاعِه عليه، فقد حَسُنَ إسلامُه، ولزِمَ مِن ذلك أن يَترُكَ كُلَّ ما لا يَعنيه في الإسلامِ، ويَشتَغِلَ بما يَعنيه فيه، فإنَّه يَتَولَّدُ مِن هذين المَقامَينِ الاستِحياءُ مِنَ اللهِ، وتَركُ كُلِّ ما يُستَحيا مِنه...
قال بَعضُهم: استَحْيِ مِنَ اللهِ على قَدرِ قُربِه مِنك، وخَفِ اللَّهَ على قدرِ قُدرَتِه عليك.
وقال بَعضُ العارِفينَ: إذا تَكَلَّمتَ فاذكُرْ سَمعَ اللهِ لك، وإذا سَكَتَّ فاذكُرْ نَظَرَه إليك.
وقد وقَعَتِ الإشارةُ في القُرآنِ العَظيمِ إلى هذا المَعنى في مَواضِعَ، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16 - 18] ، وقَولِه تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] ، وقال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] ) [194] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 289، 290). .
5- عن أبي مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ مِمَّا أدرَكَ النَّاسَ مِن كَلامِ النُّبوَّةِ الأولى: إذا لم تَستَحْيِ فاصنَعْ ما شِئتَ)) [195] أخرجه البخاري (6120). .
قَولُه: ((فاصنَعْ ما شِئتَ)) أي: أنَّ الحَياءَ هو الدَّافِعُ عنِ ارتِكابِ السُّوءِ؛ فالحَياءُ مِنَ اللهِ يَمنَعُ مِنَ القَبائِحِ الدِّينيَّةِ، ومِنَ النَّاسِ يَمنَعُ مِنَ القَبائِحِ العاديَّةِ، فإذا فقدَ الحَياءَ لا يُبالي المَرءُ بما يَفعَلُ، فالأمرُ بمعنى الخَبَرِ، وقيل: المُرادُ أنَّه لا بُدَّ للمَرءِ مِنَ النَّظَرِ فيما يَفعَلُ، فإن كان أمرًا لا يَستَحيي مِنه فليَفعَلْ، وإلَّا فليَدَعْ، وقيل: هو وعيدٌ، كقَولِه تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] [196] ((حاشية السندي على سنن ابن ماجه)) (2/ 546). .

انظر أيضا: