فوائِدُ مُتَفرِّقةٌ
جملةٌ مِن آدابِ الخادمِ والمخدومِ:قال القاسِميُّ: (يَجِبُ في الخادِمِ أن يَكونَ صالحًا عَفيفًا أمينًا، نَشيطًا ذَكيًّا؛ فهو يَقومُ بحَقِّ اللهِ بأداءِ ما أوجَبَه، وحَقِّ مَن يَخدُمُه، فيَعِفُّ عن حرَمِه، ويَغُضُّ مِن طَرْفِه، ويَحفَظُ ما ائتُمِنَ عليه من مالٍ وغيرِه، ويَخِفُّ للقيامِ بما يُطلَبُ مِنه بنَشاطٍ واعتِناءٍ، ويَفطُنُ لِما يَنبَغي أن يُرادَ مِنه، فيَدري حُسنَه مِن قُبحِه، وغِشَّه مِن نُصحِه، فيَكونُ رَجُلَ حياةٍ، وإنسانَ مَعيشةٍ.
وعلى سيِّدِ الخادِمِ أن يُرشِدَه لمَواقِعِ الصَّوابِ، وأصولِ واجِباتِه، وما يَنبَغي أن يَتَّصِفَ به، و لا يُكلِّفَه ما لا يُطيقُ ويَشُقُّ عليه، وأن يُرَبِّيَه باللُّطفِ والعَقلِ، ولا يُهينَه ببَذيءِ الكلامِ، وجافي اللَّفظِ، مِمَّا يَجرَحُ قَلبَه، ويُذِلُّ نَفسَه؛ إذ ليس للسَّيِّدِ أن يَتَسَلَّطَ على خادِمِه بذلك، لا شَرعًا ولا عُرفًا.
ويَجِبُ على السَّيِّدِ أن يَسمَحَ للخادِمِ بساعةٍ في النَّهارِ يَتَرَوَّحُ فيها، ويَتَمَتَّعُ بشُؤونِه
[2448] لكُلِّ إنسانٍ طاقةً مُعيَّنةً يَستَطيعُ أن يُؤَدِّيَ في نِطاقِها ما يُكلَّفُ به مِن أعمالٍ تَأديةً حَسَنةً، فإذا تَواصَلت جُهودُه ونَفِدَت طاقَتُه وأدرَكَه الكَلالُ فإنَّه يَفقِدُ السَّيطَرةَ على أعصابِه، ويُفلِتُ مِنه زِمامُ التَّفكيرِ، وتَكثُرُ أخطاؤُه، حتَّى يُصبِحَ مَعَه عَمَلُه -إنِ استَطاعَ عَمَلًا- لا جَدوى مِنه، فالانقِطاعُ عَنه أفضَلُ، ورَبُّ العِزَّةِ جَلَّ وعَلا افترَضَ عَلينا ما نَستَطيعُ القيامَ به مِن عِباداتٍ، ونَهانا عَنِ التَّشَدُّدِ الذي يُؤَدِّي إلى الإرهاقِ؛ ولهذا فإنَّ الرَّاحةَ مَن حَقِّ النَّفسِ والبَدَنِ والأهلِ والوَلَدِ، فكيف يُحرَمُ الخادِمُ مُتعةَ الرَّاحةِ ووَقتَ الفراغِ؟! إنَّ الحِرمانَ يُؤَدِّي إلى الإرهاقِ، ومَوتِ النَّشاطِ، والضِّيقِ، والإحساسِ بالظُّلمِ الاجتِماعيِّ مِنَ المَخدومينَ. يُنظر: ((حقوق الإنسان)) لمحمد الغزالي (ص: 141)، ((معاملة الخدم في الإسلام)) لمحمد علي (ص: 32، 33). .
وأن يُجريَ عليه مُرَتَّبًا يَكفيه؛ ليَكُفَّه عَنِ التَّشَوُّفِ لِما قَد يَسرِقُه ويَختَلِسُه، فإنَّ ما يَنقُصُه السَّيِّدُ مِن مُرَتَّبِه رُبَّما اختَلسَ مِن مالِه، وأن يَزيدَ في راتِبِه كُلَّما رَآه يَزيدُ في صِدقِ الخِدمةِ وحُسنِ المُعامَلةِ.
ولا يَنبَغي للسَّيِّدِ أن يُسرِعَ في تَبديلِ الخادِمِ بمُجَرَّدِ هَفوةٍ، أو حُصولِ صَغيرةٍ، وليَتَذَكَّرْ أنْ لا مَعصومَ إلَّا المَعصومُ؛ فإنَّ في تَبديلِه مَضارَّ عَظيمةً، وأتعابًا جَسيمةً، نَعَم، إذا عَلمَ أنَّ فيه خَلَّةً فاسِدةً، أو مَلكةً رَديئةً، أو إصرارًا على فَحشاءَ، فإنَّه يَطرُدُه عن بابِه، ويباعِدُه مِن رِحابِه.
وعلى الأبناءِ أن يَحتَفِظوا بخادِمِ أبيهم أو جَدِّهم، وأن يَحتَرِموه؛ لتَقادُمِ خِدمَتِه لهم، وتَربيَتِه لهم صِغارًا، وأن يَرعَوا حَقَّه وحَقَّ آلِه وأولادِه؛ اعتِرافًا بالجَميلِ.
ومِنَ الحُمقِ وقِلَّةِ العَقلِ طَردُ الخادِمِ الذي تَقادَمَ عَهدُه، واطَّلعَ على دَخائِلِ سيِّدِه، وأسرارِ حَرَمِه، بلا باعِثٍ كبيرٍ، أو إبعادُ خادِمِ أبيه، وقد عَرَف شِدَّةَ اتِّصالِه به؛ فإنَّ هذا مِن لُؤمِ الطَّبعِ، وكُفرانِ العِشرةِ، وقِلَّةِ المُروءةِ.
وبالجُملةِ: فكُلُّ مَن أرادَ أن يَهنَأَ بالُه مَعَ خادِمِه فليُحسِنْ مُعامَلتَه، وليُنزِلْه مَنزِلةَ أحَدِ عائِلتِه، وليَبَرَّه فوقَ ما يَأمُلُ، ولا يَنَلْ مِنه بما يَجرَحُ قَلبَه، وليَرفُقْ به في سِرِّه وعَلَنِه، وليَغُضَّ عَمَّا يَجوزُ الغَضُّ عنه، وليَرحَمْ تَعَبَه، ولا يُؤَرِّقْه لحاجَتِه إذا أخَذَ مَضجَعَه، بَل يُشفِقُ على راحَتِه.
ويُحكى عن بَعضِ خيارِ الأمَراءِ أنَّه كان يَحمِلُ فَرشَ ضُيوفِه على رَأسِه ليلًا إلى مَحالِّ نَومِهم، ولا يوقِظُ خادِمَه لحَملِها! شَفَقةً مِنه ورَحمةً، والرَّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرَّحمَنُ تَبارَك وتعالى)
[2449] ((جوامع الآداب)) (ص: 75-77). .
مِن أخبارِ السَّلفِ في حُسنِ التَّعاملِ معَ الخدمِ1- قال أبو حامدٍ الغَزاليُّ: (كان عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه يَذهَبُ إلى العَوالي في كُلِّ يَومِ سَبتٍ، فإذا وجَدَ عَبدًا في عَمَلٍ لا يُطيقُه وَضَع عنه مِنه)
[2450] أخرجه مالك بَلاغًا (2/980)، ومِن طَريقِه البيهَقيُّ في ((شعب الإيمان)) (8590) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولفظُ مالكٍ: أنَّه بَلغَه (أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كان يَذهَبُ إلى العَوالي كُلَّ يَومِ سَبتٍ، فإذا وجَدَ عَبدًا في عَمَلٍ لا يُطيقُه وَضَع عنه منه). .
ويُروى عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه رَأى رَجُلًا على دابَّتِه وغُلامُه يَسعى خَلْفَه، فقال له: يا عَبدَ اللهِ احمِلْه خَلفَك؛ فإنَّما هو أخوك، رُوحُه مِثلُ رُوحِك! فحَمَله، ثُمَّ قال: لا يَزالُ العَبدُ يَزدادُ مِنَ اللهِ بُعدًا ما مُشِي خَلفَه)
[2451] أخرجه ابنُ المبارك في ((الزهد)) (395)، وابن أبي شيبة (27220) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولفظُ ابنِ المُبارَكِ: (عَن أبي هُرَيرةَ أنَّه رَأى رَجُلًا على دابَّتِه وغُلامًا يَسعى خَلفَه، فقال: يا عَبدَ اللهِ، احمِلْه؛ فإنَّما هو أخوك، رُوحُه مِثلُ رُوحِك، فحَمَلَه). .
وقالت جاريةٌ لأبي الدَّرداءِ: (إنِّي سَمَمتُك مُنذُ سَنةٍ، فما عَمِل فيك شيئًا! فقال: لمَ فعَلتِ ذلك؟! فقالت: أرَدتُ الرَّاحةَ مِنك! فقال: اذهَبي فأنتِ حُرَّةٌ لوَجهِ اللهِ!).
وقال الزُّهريُّ: مَتى قُلتُ للمَملوكِ: أخزاك اللهُ، فهو حُرٌّ.
وقيل للأحنَفِ بنِ قَيسٍ: مِمَّن تَعَلَّمتَ الحِلمَ؟ قال: مِن قيسِ بنِ عاصِمٍ، قيل: فما بَلغَ مِن حِلمِه؟ قال: بينَما هو جالِسٌ في دارِه إذ أتَته خادِمةٌ له بسَفُّودٍ
[2452] السَّفُّودُ: الحَديدةُ التي يُشوى بها اللَّحمُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 489). عليه شِواءٌ، فسَقَطَ السَّفُّودُ مِن يَدِها على ابنٍ له فعَقَرَه فماتَ! فدُهشَتِ الجاريةُ! فقال: ليس يُسكِنُ رَوعَ هذه الجاريةِ إلَّا العِتقُ! فقال لها: أنتِ حُرَّةٌ، لا بَأسَ عليكِ!
وكان عَونُ بنُ عَبدِ اللَّهِ إذا عَصاه غُلامُه قال: ما أَشبَهَك بمَولاك! مَولاك يَعصي مَولاه، وأنتَ تَعصي مَولاك! فأغضَبَه يَومًا فقال: إنَّما تُريدُ أن أضرِبَك! اذهَبْ فأنتَ حُرٌّ!
وكان عِندَ ميمونِ بنِ مِهرانَ ضَيفٌ فاستَعجَل على جاريَتِه بالعَشاءِ، فجاءَت مُسرِعةً ومَعَها قَصعةٌ مَملوءةٌ، فعَثَرَت وأراقَتها على رَأسِ سيِّدِها ميمونٍ! فقال: يا جاريةُ، أحرَقْتِني! قالت: يا مُعَلِّمَ الخيرِ ومُؤَدِّبَ النَّاسِ، ارجِعْ إلى ما قال اللهُ تعالى! قال: وما قال اللهُ تعالى؟ قالت: قال:
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: 134] ، قال: قَد كظَمتُ غَيظي! قالت:
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] ، قال: قَد عَفوتُ عنك! قالت: زِدْ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى يَقولُ:
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] ، قال: أنتِ حُرَّةٌ لوَجهِ اللهِ تعالى!)
[2453] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 220). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ طاهِرٍ، قال: (كنتُ عِندَ المأمونِ ثانيَ اثنينِ، فنادى: يا غلامُ، يا غلامُ، بأعلى صوتِه، فدخَل غُلامٌ تُركيٌّ، فقال: ألا ينبغي للغلامِ أن يأكُلَ أو يشرَبَ، أو يتوضَّأَ أو يصَلِّيَ؟! كلَّما خرَجْنا من عندِك تصيحُ: يا غلامُ، يا غُلامُ! إلى كم يا غُلامُ؟! فنَكَّس رأسَه طويلًا، فما شكَكْتُ أنَّه يأمُرُني بضَربِ عُنُقِه! فقال: يا عبدَ اللَّهِ، إنَّ الرَّجُلَ إذا حَسُنَت أخلاقُه ساءت أخلاقُ خَدَمِه، وإذا ساءت أخلاقُه حَسُنَت أخلاقُ خَدَمِه، فلا نستطيعُ أن نُسيءَ أخلاقَنا لتَحسُنَ أخلاقُ خَدَمِنا!)
[2454] ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 351)، ((التذكرة)) لابن حمدون (2/ 240). .
نَصائِحُ قَبلَ استِقدامِ الخادِماتِ:قال ابنُ عُثَيمين: (لا بُدَّ أن نوجِّهَ نَصيحةً إلى إخوانِنا عُمومًا، وهو أنَّه لا يَنبَغي أن يَستَقدِموا خادِماتٍ أو خَدَمًا إلَّا عِندَ الحاجةِ أوِ الضَّرورةِ؛ وذلك لأنَّ هَؤُلاءِ الخَدَمَ إذا جاءوا فإنَّهم سَوف يُكَلِّفونَ الإنسانَ نَفقاتٍ لا حاجةَ له إلى إنفاقِها ولا ضَرورةَ، وقد ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه نَهى عن إضاعةِ المالِ. ثانيًا: أنَّ بَعضَهنَّ غَيرُ مُؤتَمَناتٍ تلك الأمانةَ التي نَثِقُ بها؛ لهذا أقولُ: لا يَنبَغي أن نَستَقدِمَ خَدَمًا ولا خادِماتٍ إلَّا بشُروطٍ: فبالنِّسبةِ للمَرأةِ:
أوَّلًا: لا بُدَّ أن يَكونَ مَعَها محرَمٌ، فإنْ لم يَكُنْ مَعَها مَحرَمٌ فإنَّه لا يَجوزُ استِقدامُها؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تُسافِرِ امرَأةٌ إلَّا مَعَ ذي مَحرَمٍ)) [2455] أخرجه البخاري (1862) ومسلم (1341) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، فإذا استَقدَمتها وليسَ مَعَها مَحرَمٌ فهذه مُخالفةٌ لنَهيِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ثانيًا: أن يَكونَ مُحتاجًا إليها، فإن لم يَكُنْ مُحتاجًا إليها وإنَّما يَقصِدُ بذلك التَّرفيهَ وسُقوطَ الكُلفةِ -ولو كانت يَسيرةً- عن أهلِه، ففي جَوازِ ذلك نَظَرٌ.
ثالثًا: ألَّا يَخشى الفِتنةَ، فإن خَشيَ على نَفسِه الفِتنةَ أو على أحَدٍ مِن أولادِه إن كان عِندَه أولادٌ، فإنَّه لا يَجوزُ أن يُعَرِّضَ نَفسَه لذلك.
رابعًا: أن تَلتَزِمَ ما يَجِبُ عليها مِنَ الحِجابِ، بحَيثُ تُغَطِّي وجهَها ولا تَكشِفُه، ولا يَصِحُّ أن يَستَدِلَّ بقَولِ اللهِ تعالى:
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [النور: 31] لا يَصِحُّ الاستِدلالُ بذلك على أنَّه يَجوزُ للخادِمةِ أن تَكشِفَ وَجهَها لمَن هيَ عِندَه؛ لأنَّ المُستَخدِمَ لم يَملِكْها، وإنَّما هيَ أجيرةٌ عِندَه، والأجيرةُ كالأجنَبيَّةِ في مَسألةِ الحِجابِ.
خامِسًا: ألَّا يَخلوَ بها، فإن كان ليسَ عِندَه أحَدٌ في البَيتِ فإنَّه لا يَجوزُ أن يَستَقدِمَها مُطلقًا، وإن كان عِندَه أحَدٌ في البَيتِ، وأهلُ البَيتِ يَذهَبونَ عنِ البَيتِ ويَبقى وحدَه مَعَ هذه الخادِمةِ، فإنَّ ذلك لا يَجوزُ)
[2456] ((لقاء الباب المفتوح)) رقم اللقاء (16). .