موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في تنظيمِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ لعلاقةِ الإنسانِ بالحيوانِ


إنَّ الله تعالى خلَق الحيوانَ وسخَّره في منافعِ الإنسانِ، قال تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 5-8] ، وقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل: 80] وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 71 - 73] وهذه نعم يَنْبغي صيانتُها وشكرُ الله تعالى عليها.
وإنَّ شريعةَ الإسلامِ شريعةٌ كاملةٌ شاملةٌ، لم تكتفِ بتنظيمِ علاقةَ الإنسانِ بالإنسانِ، بل نظَّمت أيضًا علاقةَ الإنسانِ بالحيوانِ، وجعَلت للحيوانِ حقوقًا يَنْبغي مراعاتُها، بل إنَّ مِن أصولِ الشَّريعةِ القَطعيَّةِ المَجمَعِ عليها حَظرُ تَعذيبِ الحيَوانِ والتَّمثيلِ به [2572] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/ 144). ، وهذا مِنَ الأصولِ التي لم تَختَلفْ فيها شَرائِعُ الأنبياءِ [2573] قال ابنُ العَرَبيِّ في قَولِه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] : (ووصَّيناك -يا مُحَمَّدُ- ونوحًا دينًا واحِدًا -يَعني في الأصولِ التي لا تَختَلفُ فيها الشَّريعةُ-، وهي: التَّوحيدُ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحَجُّ، والتَّقَرُّبُ إلى اللَّهِ تعالى بصالحِ الأعمالِ، والتَّزَلُّفُ إليه بما يَرُدُّ القَلبَ والجارِحةَ إليه، والصِّدقُ، والوفاءُ بالعَهدِ، وأداءُ الأمانةِ، وصِلةُ الرَّحِمِ، وتَحريمُ الكُفرِ والقَتلِ والزِّنا، والإذايةِ للخَلقِ كيفما تَصَرَّفت، والاعتِداءِ على الحيَوانِ كيفما كان، واقتِحامِ الدَّناءاتِ، وما يَعودُ بخَرمِ المروءاتِ. فهذا كُلُّه شُرِع دينًا واحِدًا ومِلَّةً مُتَّحِدةً لم يَختَلِفْ على ألسِنةِ الأنبياءِ، وإنِ اختَلفت أعدادُهم، وذلك قَولُه تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] أي: اجعَلوه قائِمًا، يُريدُ: دائِمًا مُستَمِرًّا، مَحفوظًا مُستَقِرًّا، مِن غيرِ خِلافٍ فيه ولا اضطِرابٍ عليه، فمِنَ الخَلقِ مَن وفى بذلك، ومِنهم مَن نَكَثَ به، ومَن نَكَثَ فإنَّما يَنكُثُ على نَفسِه. واختَلفتِ الشَّرائِعُ وراءَ هذا في مَعانٍ حَسَبَما أرادَه اللهُ، مِمَّا اقتَضَته المَصلَحةُ، وأوجَبَتِ الحِكمةُ وضعَه في الأزمِنةِ على الأمَمِ، واللَّهُ أعلمُ). ((أحكام القرآن)) (4/ 89، 90). . فالإسلامُ دينُ الرحمةِ وقد شمِلتْ هذه الرحمةُ الحيوانَ.
وقد ثَبَتَ في الحَديثِ الصَّحيحِ: أنَّ اللَّهَ شَكَرَ للذي سَقى الكَلبَ العَطشانَ [2574] عَن أبي هُرَيرةَ، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّ رَجُلًا رَأى كَلبًا يَأكُلُ الثَّرى مِنَ العَطَشِ، فأخَذَ الرَّجُلُ خُفَّه، فجَعَل يَغرِفُ له به حتَّى أرَواه؛ فشَكَرَ اللَّهُ له فأدخَلَه الجَنَّةَ)). أخرجه البخاري (173) واللفظ له، ومسلم (2244). ، وأنَّ اللَّهَ أدخَل امرَأةً النَّارَ في هرَّةٍ حَبَسَتها فماتَت جوعًا [2575] لفظُه: عَن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((عُذِّبَتِ امرَأةٌ في هرَّةٍ سَجَنتها حتَّى ماتَت، فدَخَلت فيها النَّارَ؛ لا هي أطعَمَتها ولا سَقَتها إذ حَبَسَتها، ولا هي تَرَكَتها تَأكُلُ مِن خَشاشِ الأرضِ)). أخرجه البخاري (3482) واللفظ له، ومسلم (2242).
والمُؤمِنُ يَرحَمُ ولا يَظلمُ، والفاجِرُ يُعَذِّبُ ويُؤذي، فإذا ماتَ استَراحَ مِن أذاه الحيَوانُ.
عن أبي قتادةَ بنِ رِبعيٍّ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه كان يُحَدِّثُ: ((أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجِنازةٍ، فقال: مُستَريحٌ ومُستَراحٌ مِنه! قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُستَريحُ والمُستَراحُ منه؟ قال: العَبدُ المُؤمِنُ يَستَريحُ مِن نَصَبِ الدُّنيا وأذاها إلى رَحمةِ اللَّهِ، والعَبدُ الفاجِرُ يَستَريحُ مِنه العِبادُ والبِلادُ، والشَّجَرُ والدَّوابُّ [2576] قال النَّوويُّ: (استِراحةُ الدَّوابِّ مِنه؛ لأنَّه كان يُؤذيها ويَضرِبُها، ويُحمِّلُها ما لا تُطيقُه، ويُجيعُها في بَعضِ الأوقاتِ وغيرِ ذلك). ((شرح مسلم)) (7/ 21). وقال المَظهَريُّ: (المُستَراحُ مِنه: الذي خَلصَ النَّاسُ مِن شَرِّه، واستَراحوا مِن ظُلمِه، يعني: إن كان هذا الميِّتُ صالحًا فقَد خَلصَ مِن نَصَبِ الدُّنيا، وإن كان فاجِرًا فقَد خَلَصَ النَّاسُ مِن شَرِّه، وكَذلك الدَّوابُّ والأشجارُ والأرضُ خَلصَت مِن شَرِّه؛ لأنَّ الفاجِرَ تُبغِضُه وتَتَأذَّى مِنه الأرضُ وما فيها). ((المَفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 414، 415). ) [2577] أخرجه البخاري (6512) واللفظ له، ومسلم (950). .
وللتعاملِ معَ الحيوانِ آدابٌ يَنْبغي مراعاتُها، وفيما يَلي بيانُ أهمِّ هذه الآدابِ:

انظر أيضا: