موسوعة الآداب الشرعية

ثانيَ عشرَ: عدم رفع الصوت في المسجد


مِن أدَبِ المَساجِدِ: عَدَمُ رَفعِ الصَّوتِ فيها [436] يُنظر: ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 179). ، إلَّا ما رَخَّصَ فيه الشَّرعُ، كالأذانِ والخُطبةِ ونَحوِهما.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لِيَلِني مِنكُم أولو الأحلامِ والنُّهى [437] الأحلامُ: العُقولُ. والنُّهى: اسمٌ للعَقلِ أيضًا؛ لأنَّه يَنهى عنِ القَبيحِ. وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثُمَّ الذينَ يَلونَهم)) أي: في المَنزِلةِ والقَدرِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 327). ، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم، ثَلاثًا، وإيَّاكُم وهَيشاتِ [438] هَيشاتُ الأسواقِ: ما يَكونُ فيها مِنَ الجَلَبةِ وارتِفاعِ الأصواتِ، وما يحَدُثُ فيها مِنَ الفِتَنِ. وأصلُه مِنَ الهَوشِ، وهو الاختِلاطُ، يُقالُ: تَهاوَش القَومُ: إذا اختَلطوا ودَخَل بَعضُهم في بَعضٍ، وبَينَهم تَهاوُشٌ، أي: اختِلاطٌ واختِلافٌ. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 185). الأسواقِ)) [439] أخرجه مسلم (432). .
قال النَّوويُّ: (هَيشاتُ الأسواقِ: أي: اختِلاطُها والمُنازَعةُ والخُصوماتُ وارتِفاعُ الأصواتِ واللَّغطُ والفِتَنُ التي فيها) [440] ((شرح مسلم)) (4/ 156). .
وقال القاريُّ: (هَيشاتُ الأسواقِ: جمعُ هَيشةٍ، وهيَ رَفعُ الأصواتِ، نَهاهم عنها؛ لأنَّ الصَّلاةَ حُضورٌ بَينَ يَدَيِ الحَضرةِ الإلهيَّةِ، فيَنبَغي أن يَكونوا فيها على السُّكوتِ وآدابِ العُبوديَّةِ) [441] ((مرقاة المفاتيح)) (3/ 850). .
2-عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((اعتَكَف رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَسجِدِ، فسَمِعَهم يَجهَرونَ بالقِراءةِ، فكَشَف السِّترَ، فقال: ألا إنَّ كُلَّكُم مُناجٍ رَبَّه، فلا يُؤذيَنَّ بَعضُكُم بَعضًا، ولا يَرفَعْ بَعضُكُم على بَعضٍ في القِراءةِ، أو قال: في الصَّلاةِ)) [442] أخرجه أبو داود (1332) واللَّفظُ له، وأحمد (11896). صححه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/333)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1169)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/318)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1332)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (419). .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (لا يُحَبُّ لكُلِّ مُصَلٍّ يَقضي فرضَه وإلى جَنبِه مَن يَعمَلُ مِثلَ عَمَلِه أن يُفرِطَ في الجَهرِ؛ لئَلَّا يُخَلِّطَ عليه، كَما لا يُحَبُّ ذلك لمُتَنَفِّلٍ إلى جَنبِ مُتَنَفِّلٍ مِثلِه، وإذا كان هذا هَكَذا فحَرامٌ على النَّاسِ أن يَتَحَدَّثوا في المَسجِدِ بما يَشغَلُ المُصَلِّيَ عن صَلاتِه، ويُخَلِّطُ عليه قِراءَتَه، وواجِبٌ لازِمٌ على كُلِّ مَن يُطاعُ أن يَنهى عن ذلك؛ لأنَّ ذلك إذا لم يَجُزْ للمُصَلِّي التَّالي للقُرآنِ، فأينَ الحَديثُ بأحاديثِ النَّاسِ مِن ذلك؟!) [443] ((الاستذكار)) (1/ 435). .
وقال أيضًا: (إذا لم يَجُزْ للتَّالي المُصَلِّي رَفعُ صَوتِه لئَلَّا يَغلطَ ويُخَلِّطَ على مُصَلٍّ إلى جَنبِه، فالحَديثُ في المَسجِدِ مِمَّا يَخلِطُ على المُصَلِّي أولى بذلك وألزَمُ وأمنَعُ وأحرَمُ، واللهُ أعلمُ، وإذا نُهيَ المُسلمُ عن أذى أخيه المُسلمِ في عَمَلِ البرِّ وتِلاوةِ الكِتابِ، فأذاه في غَيرِ ذلك أشَدُّ) [444] ((التمهيد)) (23/ 319). .
3-عنِ البَياضيِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ على النَّاسِ وهم يُصَلُّونَ، وقد عَلت أصواتُهم بالقِراءةِ، فقال: إنَّ المُصَلِّيَ يُناجي رَبَّه، فليَنظُرْ بما يُناجيه به، ولا يَجهَرْ بَعضُكُم على بَعضٍ بالقُرآنِ)) [445] أخرجه أحمد (19022)، ومالك (2/109) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3350). صحَّحه ابنُ عبدِ البَرِّ في ((التمهيد)) (23/315)، وابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/17)، والسخاويُّ في ((المقاصد الحسنة)) (425)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19022). .
قال الباجيُّ: («ولا يَجهَرْ بَعضُكُم على بَعضٍ بالقُرآنِ»؛ لأنَّ في ذلك إيذاءَ بَعضِهم لبَعضٍ، ومَنعًا مِنَ الإقبالِ على الصَّلاةِ، وتَفريغِ السِّرِّ لها، وتَأمُّلِ ما يُناجي به رَبَّه مِنَ القُرآنِ، وإذا كان رَفعُ الصَّوتِ بقِراءةِ القُرآنِ مَمنوعًا حينَئِذٍ لإذايةِ المُصَلِّينَ، فبأن يُمنَعَ رَفعُ الصَّوتِ بالحَديثِ وغَيرِه أَولى وأحرى لِما ذَكَرناه، ولأنَّ في ذلك استِخفافًا بالمَساجِدِ واطِّراحًا لتَوقيرِها وتَنزيهِها الواجِبِ وإفرادِها؛ لِما بُنيَت له مِن ذِكرِ اللهِ تعالى، قال اللهُ العَظيمُ: وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج: 40] ) [446] ((المنتقى شرح الموطأ)) (1/ 150). .
ب-من الآثارِ
 عنِ السَّائِبِ بنِ يَزيدَ، قال: (كُنتُ قائِمًا في المَسجِدِ فحَصَبَني [447] فحَصَبَني رَجُلٌ: أي: رَماني بالحَصباءِ، وهيَ صِغارُ الحَصا. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 118). رَجُلٌ، فنَظَرتُ فإذا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فقال: اذهَبْ فأْتِني بهذين، فجِئتُه بهما، قال: مَن أنتُما -أو مِن أينَ أنتُما؟- قالا: مِن أهلِ الطَّائِفِ، قال: لو كُنتُما مِن أهلِ البَلدِ لأوجَعتُكُما، تَرفعانِ أصواتَكُما في مَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟!) [448] أخرجه البخاري (470). .
قال القاسِميُّ: (فليَتَأمَّلِ العاقِلُ كَيف رَأى عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه أن يُؤَدِّبَ رافِعَ صَوتِه في المَسجِدِ بالضَّربِ الوجيعِ، وانظُرْ عَدلَه في الكَفِّ عنهما، وإقامةَ العُذرِ لهما بسَبَبِ جَهلِهما الحُكمَ؛ لكَونِهما مِمَّن بَدا عن مُدُنِ الفِقهِ والعِلمِ) [449] يُنظر: ((إصلاح المساجد من البدع والعوائد)) (ص: 112). .
فائدةٌ:
بوَّب البُخاريُّ في كِتابِ الصَّلاةِ مِن "صحيحه": (بابُ رَفعِ الصَّوتِ في المَساجِدِ) [450] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/ 101). ، ثُمَّ رَوى تَحتَه أثرَ السَّائِبِ بنِ يَزيدَ السَّابقَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، ثُمَّ رَوى حَديثَ كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّه تَقاضى ابنَ أبي حَدرَدٍ دَينًا له عليه في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَسجِدِ، فارتَفعَت أصواتُهما حتَّى سَمِعَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في بَيتِه، فخَرَجَ إليهما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى كَشَف سِجْفَ حُجرَتِه [451] سِجْفُ حُجرَته: هو سِترُها المَشقوقُ الوسَطِ كالمِصراعَينِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (5/ 224)، ((مشارق الأنوار)) لعياض (2/ 207)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 130). ، ونادى: يا كَعبُ بنَ مالِكٍ، يا كَعبُ، قال: لبَّيكَ يا رَسولَ اللهِ، فأشارَ بيَدِه أن ضَعِ الشَّطرَ مِن دينِك، قال كَعبٌ: قد فعَلتُ يا رَسولَ اللهِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُمْ فاقضِه)) [452] أخرجه البخاري (471) واللفظ له، ومسلم (1558). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: "بابُ رَفعِ الصَّوتِ في المَسجِدِ" أشارَ بالتَّرجَمةِ إلى الخِلافِ في ذلك؛ فقد كَرِهَه مالِكٌ مُطلقًا، سَواءٌ كان في العِلمِ أم في غَيرِه، وفَرَّق غَيرُه بَينَ ما يَتَعَلَّقُ بغَرَضٍ دينيٍّ أو نَفعٍ دُنيَويٍّ، وبَينَ ما لا فائِدةَ فيه.
وساقَ البخاريُّ في البابِ حَديثَ عُمَرَ الدَّالَّ على المَنعِ، وحَديثَ كَعبٍ الدَّالَّ على عَدَمِه؛ إشارةً مِنه إلى أنَّ المَنعَ فيما لا مَنفعةَ فيه، وعَدَمَه فيما تُلجِئُ الضَّرورةُ إليه...) [453] ((فتح الباري)) (1/ 560، 561). ويُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 406). وقال ابنُ مُفلحٍ: (فَصلٌ: صيانةُ المَسجِدِ عنِ اللَّغَطِ ورَفعِ الصَّوتِ، قيل: إلَّا بعِلمٍ لا مِراءَ فيه. ويُسَنُّ أن يُصانَ عن لغَطٍ وكَثرةِ حَديثٍ لاغٍ، ورَفعِ صَوتٍ بمَكروهٍ، وظاهرُ هذا أنَّه لا يُكرَهُ ذلك إذا كان مُباحًا أو مُستَحَبًّا، وهذا مَذهَبُ أبي حَنيفةَ والشَّافِعيِّ رَحِمَهما اللهُ. وقال في الغنية: يُكرَهُ إلَّا بذِكرِ اللهِ. قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: مَرَرتُ بأبي حَنيفةَ وهو مَعَ أصحابِه في المَسجِدِ وقدِ ارتَفعَت أصواتُهم فقُلتُ: يا أبا حَنيفةَ، هذا في المَسجِدِ، والصَّوتُ لا يَنبَغي أن يُرفَعَ فيه، فقال: دَعْهم لأنَّهم لا يَفقَهونَ إلَّا بهذا، وقيل لأبي حَنيفةَ: في مَسجِدِ كَذا حَلقةٌ يَتَناظَرونَ في الفِقهِ، فقال: لهم رَأسٌ؟ فقالوا: لا، قال: لا يَفقَهونَ أبَدًا. ومَذهَبُ مالكٍ كَراهةُ ذلك، قال أشهَبُ: سُئِل مالِكٌ عن رَفعِ الصَّوتِ في المَسجِدِ في العِلمِ وغَيرِه، قال: لا خَيرَ في ذلك في العِلمِ ولا في غَيرِه، ولقد أدرَكتُ النَّاسَ قديمًا يَعيبونَ ذلك على مَن يَكونُ في مَجلِسِه، ومَن كان يَكونُ ذلك في مَجلسِه كان يَعتَذِرُ مِنه، وأنا أكرَهُ ذلك، ولا أرى فيه خَيرًا، رَوى ذلك ابنُ عَبدِ البَرِّ. وقال صاحِبُ "الشفا" المالكيُّ: قال مالِكٌ وجَماعةٌ مِنَ العُلماءِ: يُكرَهُ رَفعُ الصَّوتِ في المَسجِدِ بالعِلمِ وغَيرِه، وأجازَ أبو حَنيفةَ ومُحَمَّدُ بنُ مُسلمٍ مِن أصحابِ مالكٍ رَفعَ الصَّوتِ فيه في العِلمِ، والخُصومةِ وغَيرِ ذلك مِمَّا يَحتاجُ إليه النَّاسُ؛ لأنَّه مَجمَعُهم ولا بُدَّ لهم مِنه. وقال ابنُ عَقيلٍ في "الفُصول" آخِرَ بابِ الجُمعةِ: ولا بَأسَ بالمُناظَرةِ في مَسائِلِ الفِقهِ، والاجتِهادِ في المَساجِدِ إذا كان القَصدُ طَلَبَ الحَقِّ، فإن كان مُغالبةً ومُنافرةً دَخَل في حَيِّزِ المُلاحاةِ، والجِدالِ فيما لا يَعني، ولم يَجُزْ في المَسجِدِ، وأمَّا المُلاحاةُ في غَيرِ العُلومِ فلا تَجوزُ في المَسجِدِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأى ليلةَ القدرِ، فخَرَجَ ليُعلِمَ النَّاسَ، فتَلاحى رَجُلانِ في المَسجِدِ، فارتَفعَت أصواتُهما، فأُنسِيَها، فلو كان في المُلاحاةِ خَيرٌ لَما كانت سَبَبًا لنِسيانِها، ولأنَّ اللَّهَ تعالى صانَ الإحرامَ عنِ الجِدالِ، فقال: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] . ((الآداب الشرعية)) (3/ 382، 383). .

انظر أيضا: