تمهيدٌ في فَضلِ قيامِ اللَّيلِ
قيامُ اللَّيلِ مِن أعظَمِ الطَّاعاتِ، وأفضَلِ القُرُباتِ، وله فضائِلُ عَظيمةٌ وفوائِدُ كَثيرةٌ.
وقد أثنى اللهُ عَزَّ وجَلَّ على أهلِه؛ قال تعالى:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 63-64] ، وقال عزَّ وجَلَّ:
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 15 - 17] ، وقال سُبحانَه:
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 1 - 6] .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أفضَلُ الصِّيامِ بَعدَ رَمَضانَ شَهرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ، وأفضَلُ الصَّلاةِ بَعدَ الفريضةِ صَلاةُ اللَّيلِ [700] قال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وأفضَلُ الصَّلاةِ بَعدَ الفريضةِ صَلاةُ اللَّيلِ» فيه دَليلٌ لِما اتَّفقَ العُلماءُ عليه أنَّ تطَوُّعَ اللَّيلِ أفضَلُ مِن تطَوُّعِ النَّهارِ، وفيه حُجَّةٌ لأبي إسحاقَ المَروزيِّ مِن أصحابِنا ومَن وافقَه أنَّ صَلاةَ اللَّيلِ أفضَلُ مِنَ السُّنَنِ الرَّاتِبةِ، وقال أكثَرُ أصحابِنا: الرَّواتِبُ أفضَلُ؛ لأنَّها تُشبِهُ الفرائِضَ، والأوَّلُ أقوى وأوفَقُ للحَديثِ. واللهُ أعلمُ). ((شرح مسلم)) (8/ 55). ) [701] أخرجه مسلم (1163). .
وفي رِوايةٍ:
((أفضَلُ الصَّلاةِ بَعدَ الصَّلاةِ المَكتوبةِ الصَّلاةُ في جَوفِ اللَّيلِ، وأفضَلُ الصِّيامِ بَعدَ شَهرِ رَمَضانَ صيامُ شَهرِ اللَّهِ المُحَرَّمِ)) [702] أخرجها مسلم (1163). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((لمَّا قدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ انجَفل [703] انجَفل النَّاسُ إليه: أي: ذَهَبوا مُسرِعينَ نَحوَه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 279). النَّاسُ إليه، وقيل: قَدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجِئتُ في النَّاسِ لأنظُرَ إليه، فلمَّا استَبَنتُ وَجهَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَرَفتُ أنَّ وَجهَه ليسَ بوجهِ كَذَّابٍ، وكان أوَّلَ شَيءٍ تَكَلَّمَ به أن قال: يا أيُّها النَّاسُ، أفشُوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصَلُّوا والنَّاسُ نيامٌ؛ تَدخُلوا الجَنَّةَ بسَلامٍ)) [704] أخرجه الترمذي (2485) واللفظ له، وابن ماجه (3251)، وأحمد (23784). صَحَّحه الترمذي، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (4335)، والذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (2/34)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1334)، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (2/463): حسن صحيح. .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي إذا رَأيتُك طابَت نَفسي وقَرَّت عَيني، فأنبِئْني عن كُلِّ شَيءٍ. فقال: كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ. قُلتُ: أنبِئْني عن أمرٍ إذا أخَذتُ به دَخَلتُ الجَنَّةَ، قال: أفشِ السَّلامَ، وأطعِمِ الطَّعامَ، وصِلِ الأرحامَ، وقُمْ باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ، ثُمَّ ادخُلِ الجَنَّةَ بسَلامٍ)) [705] أخرجه أحمد (7932) واللفظ له، وابن حبان (2559)، والحاكم (7484). صَحَّح إسنادَه الحاكم، وابن حجر في ((فتح الباري)) (5/36)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (15/72)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7932). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ في الجَنَّةِ غُرَفًا يُرى ظاهِرُها مِن باطِنِها وباطِنُها مِن ظاهِرِها. فقال أبو مالِكٍ الأشعَريُّ: لمَن يا رَسولَ اللهِ؟ قال: لمَن أطابَ الكَلامَ، وأطعَمَ الطَّعامَ، وباتَ قائِمًا والنَّاسُ نيامٌ)) [706] أخرجه أحمد (6615)، والطبراني في (14/80) (14687)، والحاكم (273) واللفظ له. حسنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6615). وذهب إلى تصحيحه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3717): حَسَنٌ صحيحٌ. .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن قامَ بعَشرِ آياتٍ لم يُكتَبْ مِنَ الغافِلينَ، ومَن قامَ بمِائةِ آيةٍ كُتِب مِنَ القانِتينَ [707] القانِت: الطَّائِعُ، والعابدُ المُخلِصُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 434). ، ومَن قامَ بألفِ آيةٍ كُتِب مِنَ المُقَنطِرينَ)) [708] أخرجه أبو داود (1398)، وابن حبان (2572) واللفظ لهما، وابن خُزَيمة (1144) باختلافٍ يسيرٍ. حَسَّنه لشَواهدِه ابنُ حَجَرٍ في ((نتائج الأفكار)) (3/253)، وجَوَّد إسنادَه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (642)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1398). وذَهَب إلى تَصحيحِه ابنُ حِبان. .
قال المُنذِريُّ: (قَولُه: «مِنَ المُقَنطِرينَ»: أي: مِمَّن كُتِبَ له قِنطارٌ مِنَ الأجرِ. ومِن سورةِ
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ إلى آخِرِ القُرآنِ ألفُ آيةِ، واللهُ أعلَمُ)
[709] ((الترغيب والترهيب)) (1/ 440). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قامَ مِنَ اللَّيلِ فصَلَّى، وأيقَظَ امرَأتَه، فإن أبَتْ نَضَحَ في وَجهِها الماءَ، رَحِمَ اللهُ امرَأةً قامَت مِنَ اللَّيلِ فصَلَّت، وأيقَظَت زَوجَها، فإن أبى نَضَحَت في وَجهِه الماءَ)) [710] أخرجه أبو داود (1308) واللفظ له، والنسائي (1610) باختلاف يسير، وابن ماجه (1336) بلفظ: "رَشَّ" بَدَلًا مِن "نَضَح". قال الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1308): حَسَنٌ صحيحٌ، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1276)، وصَحَّحَ إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/46)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/142). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (2/322)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2567)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1164). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ وأبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالا: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَنِ استَيقَظَ مِنَ اللَّيلِ وأيقَظَ امرَأتَه، فصَلَّيا رَكعَتَينِ جَميعًا، كُتِبا مِنَ الذَّاكِرينَ اللَّهَ كَثيرًا والذَّاكِراتِ)) [711] أخرجه أبو داود (1451) واللفظ له، وابن ماجه (1335). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (2568)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1189)، والمنذري على شرط الشيخين في ((الترغيب والترهيب)) (1/293)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/38)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1451). .
وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَحرِصُ عليه كُلَّ الحِرصِ، ويوقِظُ أهلَه مِن أجلِه؛ لعِظَمِ فَضلِه.
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقومُ مِنَ اللَّيلِ حتَّى تَتَفطَّرَ قدَماه، فقالت عائِشةُ: لمَ تَصنَعُ هذا يا رَسولَ اللهِ، وقد غَفرَ اللهُ لك ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِك وما تَأخَّرَ؟ قال: أفلا أحِبُّ أن أكونَ عَبدًا شَكورًا، فلمَّا كَثُرَ لحمُه صَلَّى جالسًا، فإذا أرادَ أن يَركَعَ قامَ فقَرَأ ثُمَّ رَكَعَ)) [712] أخرجه البخاري (4837) واللفظ له، ومسلم (2820). .
وعن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ، أنَّه قال لعائِشةَ رَضيَ اللهُ عنه: أخبرينا بأعجَبِ شَيءٍ رَأيتِه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((فسَكَتَت ثُمَّ قالت: لمَّا كان لَيلةً مِنَ اللَّيالي قال: يا عائِشةُ، ذَريني أتَعَبَّدُ اللَّيلةَ لرَبِّي، قُلتُ: واللهِ إنِّي لأُحِبُّ قُربَك وأُحِبُّ ما سَرَّك، قالت: فقامَ فتَطَهَّر ثُمَّ قامَ يُصَلِّي، فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ حِجرَه، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ لِحيَتَه، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ الأرضَ، فجاءَ بِلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ، فلَمَّا رَآه يَبكي قال: يا رَسولَ اللهِ، لمَ تَبكي وقد غَفرَ اللهُ لَك ما تَقدَّم وما تَأخَّرَ؟ قال: أفلا أكونُ عَبدًا شَكورًا؟ لَقد نَزَلَت عليَّ اللَّيلةَ آيةٌ وَيلٌ لِمَن قَرَأها ولَم يَتَفكَّرْ فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 190] الآيةَ كُلَّها)) [713] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4618)، وابن حبان (620) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/317). حَسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1468)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1627)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (4618). وذهب إلى تصحيحه ابن حبان. .
وعن أُمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَيقَظَ ليلةً، فقال: سُبحانَ اللَّهِ! ماذا أُنزِلَ اللَّيلةَ مِنَ الفِتنةِ، ماذا أُنزِلَ مِنَ الخَزائِنِ، مَن يوقِظُ صَواحِبَ الحُجُراتِ؟...)) الحَديثَ
[714] أخرجه البخاري (1126). .
وعن عليِّ بنِ حُسَينٍ، أنَّ حُسَينَ بنَ عَليٍّ أخبَرَه أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ أخبَرَه:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَرَقه وفاطِمةَ بنتَ النَّبيِّ عليه السَّلامُ ليلةً، فقال: ألَّا تُصَلِّيانِ؟ فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أنفُسُنا بيَدِ اللهِ، فإذا شاءَ أن يَبعَثَنا بَعَثَنا، فانصَرَف حينَ قُلنا ذلك ولم يَرجِعْ إليَّ شَيئًا، ثُمَّ سَمِعتُه وهو مُوَلٍّ يَضرِبُ فَخِذَه، وهو يَقولُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] )) [715] أخرجه البخاري (1127). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (في حَديثِ أمِّ سَلَمةَ وحَديثِ عَليٍّ فَضلُ صَلاةِ اللَّيلِ، وإنباهُ النَّائِمينَ مِنَ الأهلِ والقَرابةِ، قال الطَّبَريُّ: وذلك أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيقَظَ لها عَليًّا وبِنتَه، حَثًّا لهما على ذلك في وقتٍ جَعَله اللهُ لخَلقِه سَكَنًا، لمَّا عَلمَ عَظيمَ ثَوابِ اللهِ عليها، وشَرُفت عِندَه مَنازِلُ أصحابِها، اختارَ لهم إحرازَ فَضلِها على السُّكونِ والدَّعةِ...
وقَولُه: «مَن يوقِظُ صَواحِبَ الحُجُراتِ» يُريدُ أزواجَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَعني: مَن يوقِظُهنَّ للصَّلاةِ باللَّيلِ، وهذا يَدُلُّ أنَّ الصَّلاةَ تُنجي مِن شَرِّ الفِتَنِ، ويُعتَصَمُ بها مِنَ المِحَنِ)
[716] ((شرح صحيح البخاري)) (3/ 115، 116). .
وعن سالمٍ، عن أبيه عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((كان الرَّجُلُ في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا رَأى رُؤيا قَصَّها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَمَنَّيتُ أن أرى رُؤيا فأقُصَّها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُنتُ غُلامًا شابًّا، وكُنتُ أنامُ في المَسجِدِ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَأيتُ في النَّومِ كَأنَّ مَلكَينِ أخَذاني، فذَهَبا بي إلى النَّارِ، فإذا هيَ مَطويَّةٌ كَطَيِّ البئرِ [717] البِئرُ: المَطويَّةُ بالحِجارةِ، وهيَ الرَّسُّ أيضًا، فإن لم تُطوَ فهيَ القَليبُ والرَّكيُّ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 409). ، وإذا لها قَرنانِ [718] هما الخَشَبَتانِ اللَّتانِ عليهما الخُطَّافُ، وهيَ الحَديدةُ التي في جانِبِ البَكَرةِ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (16/ 38). ، وإذا فيها أُناسٌ قد عَرَفتُهم، فجَعَلتُ أقولُ: أعوذُ باللهِ مِنَ النَّارِ، قال: فلَقِيَنا مَلَكٌ آخَرُ، فقال لي: لم تُرَعْ [719] لم تُرَعْ: أي: لم تَفزَعْ، والرَّوعُ: الفَزَعُ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 409). .
فقَصَصتُها على حَفصةَ، فقَصَّتها حَفصةُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: نِعمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللَّهِ، لو كان يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ! فكان بَعدُ لا يَنامُ مِنَ اللَّيلِ إلَّا قَليلًا)) [720] أخرجه البخاري (1121، 1122) واللفظ له، ومسلم (2479). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّما فَهِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن رُؤيةِ عَبدِ اللَّهِ للنَّارِ أنَّه مَمدوحٌ؛ لأنَّه عُرِضَ على النَّارِ ثُمَّ عوفيَ مِنها، وقيل له: لا رَوعَ عليك، وهذا إنَّما هو لصَلاحِه وما هو عليه مِنَ الخَيرِ، غَيرَ أنَّه لم يَكُنْ يَقومُ مِنَ اللَّيلِ؛ إذ لو كان ذلك ما عُرِضَ على النَّارِ ولا رَآها، ثُمَّ إنَّه حَصَل لعَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه مِن تلك الرُّؤيةِ يَقينُ مُشاهَدةِ النَّارِ، والاحتِرازُ مِنها، والتَّنبيهُ على أنَّ قيامَ اللَّيلِ مِمَّا يُتَّقى به النَّارُ؛ ولذلك لم يَترُكْ قيامَ اللَّيلِ بَعدَ ذلك رَضِيَ اللهُ عنه)
[721] ((المفهم)) (6/ 409، 410). .
وهذا الحَديثُ تَرجَمَ له البخاريُّ: (بابُ فَضلِ قيامِ اللَّيلِ)
[722] ((صحيح البخاري)) (2/ 49). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (وشاهِدُ التَّرجَمةِ قَولُه: «نِعمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللَّهِ لو كان يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ!» فمُقتَضاه أنَّ مَن كان يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ يوصَفُ بكَونِه نِعمَ الرَّجُلُ. وفي رِوايةِ نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ: «إنَّ عَبدَ اللَّهِ رَجُلٌ صالِحٌ لو كان يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ»
[723] أخرجها البخاري (7029). ، وهو أبيَنُ في المَقصودِ)
[724] ((فتح الباري)) (3/ 6). . إلى غَيرِ ذلك مِن فضائِلِ قيامِ اللَّيلِ.
هذا، ولقيامِ اللَّيلِ آدابٌ يَنبَغي للمُسلمِ أن يُراعيَها، وفيما يَلي بَيانُ أهَمِّ هذه الآدابِ: