خامسًا: تَركُ المَنِّ والأذى
يَحرُمُ المَنُّ بالصَّدَقةِ، والأذى.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِقال تعالى:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 262 - 264] .
أي: الذينَ يُنفِقونَ أموالَهم في طاعةِ اللهِ وسَبيلِه، ولا يُتبِعونَها بما يَنقُصُها ويُفسِدُها مِنَ المَنِّ بها على المُنفَقِ عليه بالقَلبِ أو باللِّسانِ، بأن يُعَدِّدَ عليه إحسانَه، ويَطلُبَ مِنه مُقابَلتَه، ولا أذيَّةٍ له قَوليَّةٍ أو فِعليَّةٍ، فهؤلاء لهم أجرُهمُ اللَّائِقُ بهم، ولا خَوفٌ عليهم ولا هم يَحزَنونَ، فحَصَل لهمُ الخَيرُ واندَفعَ عنهمُ الشَّرُّ؛ لأنَّهم عَمِلوا عَمَلًا خالصًا للهِ سالِمًا مِنَ المُفسِداتِ.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي: تَعرِفُه القُلوبُ ولا تُنكِرُه، ويَدخُلُ في ذلك كُلُّ قَولٍ كَريمٍ فيه إدخالُ السُّرورِ على قَلبِ المُسلمِ، ويَدخُلُ فيه رَدُّ السَّائِلِ بالقَولِ الجَميلِ والدُّعاءِ له
وَمَغْفِرَةٌ لمَن أساءَ إليك بتَركِ مُؤاخَذَتِه والعَفوِ عنه، ويَدخُلُ فيه العَفوُ عَمَّا يَصدُرُ مِنَ السَّائِلِ مِمَّا لا يَنبَغي، فالقَولُ المَعروفُ والمَغفِرةُ خَيرٌ مِنَ الصَّدَقةِ التي يَتبَعُها أذًى؛ لأنَّ القَولَ المَعروفَ إحسانٌ قَوليٌّ، والمَغفِرةُ إحسانٌ أيضًا بتَركِ المُؤاخَذةِ، وكِلاهما إحسانٌ ما فيه مُفسِدٌ، فهما أفضَلُ مِنَ الإحسانِ بالصَّدَقةِ التي يَتبَعُها أذًى بمَنٍّ أو غَيرِه، ومَفهومُ الآيةِ أنَّ الصَّدَقةَ التي لا يَتبَعُها أذًى أفضَلُ مِنَ القَولِ المَعروفِ والمَغفِرةِ، وإنَّما كان المَنُّ بالصَّدَقةِ مُفسِدًا لها مُحَرَّمًا؛ لأنَّ المِنَّةَ للهِ تعالى وحدَه، والإحسانَ كُلَّه للَّهِ، فالعَبدُ لا يَمُنُّ بنعمةِ اللهِ وإحسانِه وفَضلِه وهو ليسَ مِنه، وأيضًا فإنَّ المانَّ مُستَعبِدٌ لمَن يَمُنُّ عليه، والذُّلُّ والاستِعبادُ لا يَنبَغي إلَّا للَّهِ، واللهُ غَنيٌّ بذاتِه عن جَميعِ مَخلوقاتِه، وكُلُّها مُفتَقِرةٌ إليه بالذَّاتِ في جَميعِ الحالاتِ والأوقاتِ، فصَدَقتُكُم وإنفاقُكُم وطاعاتُكُم يَعودُ مَصلحَتُها إليكُم ونَفعُها إليكُم.
وقَولُه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 264] .
يَنهى تعالى عِبادَه لُطفًا بهم ورَحمةً عن إبطالِ صَدَقاتِهم بالمَنِّ والأذى؛ ففيه أنَّ المَنَّ والأذى يُبطِلُ الصَّدَقةَ، ويُستَدَلُّ بهذا على أنَّ الأعمالَ السَّيِّئةَ تُبطِلُ الأعمالَ الحَسَنةَ، كما قال تعالى:
وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ؛ فكما أنَّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السَّيِّئاتِ، فالسَّيِّئاتُ تُبطِلُ ما قابَلها مِنَ الحَسَناتِ، وفي هذه الآيةِ مَعَ قَولِه تعالى:
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ حَثٌّ على تَكميلِ الأعمالِ وحِفظِها مِن كُلِّ ما يُفسِدُها؛ لئَلَّا يَضيعَ العَمَلُ سُدًى، وقَولُه:
كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أي: أنتم وإن قَصَدتُم بذلك وَجهَ اللهِ في ابتِداءِ الأمرِ، فإنَّ المِنَّةَ والأذى مُبطِلانِ لأعمالِكم، فتَصيرُ أعمالُكُم بمَنزِلةِ الذي يَعمَلُ لمُراءاةِ النَّاسِ، ولا يُريدُ به اللَّهَ والدَّارَ الآخِرةَ، فهذا لا شَكَّ أنَّ عَمَلَه مِن أصلِه مَردودٌ؛ لأنَّ شَرطَ العَمَلِ أن يَكونَ للهِ وحدَه، وهذا في الحَقيقةِ عَمَلٌ للنَّاسِ لا للَّهِ، فأعمالُه باطِلةٌ، وسَعيُه غَيرُ مَشكورٍ، فمَثَلُه المُطابقُ لحالِه
كَمَثَلِ صَفْوَانٍ وهو الحَجَرُ الأملَسُ الشَّديدُ
عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ أي: مَطَرٌ غَزيرٌ
فَتَرَكَهُ صَلْدًا أي: ليس عليه شَيءٌ مِنَ التُّرابِ، فكذلك حالُ هذا المُرائي؛ قَلبُه غَليظٌ قاسٍ بمَنزِلةِ الصَّفوانِ، وصَدَقَتُه ونَحوُها مِن أعمالِه بمَنزِلةِ التُّرابِ الذي على الصَّفوانِ، إذا رَآه الجاهلُ بحالِه ظَنَّ أنَّه أرضٌ زَكيَّةٌ قابلةٌ للنَّباتِ، فإذا انكَشَفت حَقيقةُ حالِه زال ذلك التُّرابُ وتَبَيَّنَ أنَّ عَمَلَه بمَنزِلةِ السَّرابِ، وأنَّ قَلبَه غَيرُ صالحٍ لنَباتِ الزَّرعِ وزَكائِه عليه، بَل الرِّياءُ الذي فيه والإراداتُ الخَبيثةُ تَمنَعُ مِنِ انتِفاعِه بشَيءٍ مِن عَمَلِه؛ فلهذا
لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن أعمالِهمُ التي اكتَسَبوها؛ لأنَّهم وضَعوها في غَيرِ مَوضِعِها، وجَعَلوها لمَخلوقٍ مِثلِهم لا يَملكُ لهم ضَرَرًا ولا نَفعًا، وانصَرَفوا عن عِبادةِ مَن تَنفعُهم عِبادَتُه؛ فصَرَف اللَّهُ قُلوبَهم عنِ الهدايةِ؛ فلهذا قال:
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرينَ [1413] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 113، 114). .
فذَكَر اللهُ أربَعَ مَراتِبَ للإحسانِ: المَرتَبةُ العُليا: النَّفَقةُ الصَّادِرةُ عن نيَّةٍ صالحةٍ، ولم يُتبِعْها المُنفِقُ مَنًّا ولا أذًى.
ثُمَّ يَليها قَولُ المَعروفِ، وهو: الإحسانُ القَوليُّ بجَميعِ وُجوهِه، الذي فيه سُرورُ المُسلمِ، والاعتِذارُ مِنَ السَّائِلِ إذا لم يوافِقْ عِندَه شَيئًا، وغَيرُ ذلك مِن أقوالِ المَعروفِ.
والثَّالثةُ: الإحسانُ بالعَفوِ والمَغفِرةِ عَمَّن أساءَ إليك بقَولٍ أو فِعلٍ.
وهذان أفضَلُ مِنَ الرَّابعةِ، وخَيرٌ مِنها، وهي التي يُتبِعُها المُتَصَدِّقُ الأذى للمُعطى؛ لأنَّه كَدَّرَ إحسانَه وفعَل خَيرًا وشَرًّا.
فالخَيرُ المَحضُ -وإن كان مَفضولًا- خَيرٌ مِنَ الخَيرِ الذي يُخالِطُه شَرٌّ وإن كان فاضِلًا، وفي هذا التَّحذيرُ العَظيمُ لمَن يُؤذي مَن تَصَدَّق عليه، كما فعَلَه أهلُ اللُّؤمِ والحُمقِ والجَهلِ
[1414] يُنظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 956). .
ب- مِنَ السُّنَّةِعن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظُرُ إليهم ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ. قال: فقرأها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثَ مِرارٍ، قال أبو ذرٍّ: خابوا وخَسِروا! من هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: المُسبِلُ، والمنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحَلِفِ الكاذِبِ)) [1415] أخرجه مسلم (106). .
وفي رِوايةٍ:
((ثَلاثةٌ لا يُكَلِّمُهمُ اللهُ يَومَ القيامةِ: المَنَّانُ الذي لا يُعطي شَيئًا إلَّا مَنَّه، والمُنَفِّقُ سِلعَتَه بالحَلِفِ الفاجِرِ، والمُسبِلُ إزارَه)) [1416] أخرجه مسلم (106). .
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (المَنَّانُ: فَعَّالٌ مِن المَنِّ، وقد فسَّره في الحديثِ، فقال: "هو الذي لا يُعطي شيئًا إلَّا مَنَّه"، أي: إلَّا امتَنَّ به على المعطى له، ولا شَكَّ في أنَّ الامتنانَ بالعطاءِ مُبطِلٌ لأجرِ الصَّدَقةِ والعطاءِ، مؤذٍ للمُعطى له؛ ولذلك قال تعالى:
لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة: 264] .
وإنَّما كان المَنُّ كذلك؛ لأنَّه لا يكونُ -غالبًا- إلَّا عن البُخلِ، والعُجبِ، والكِبرِ، ونِسيانِ مِنَّةِ اللهِ تعالى فيما أنعَمَ به عليه)
[1417] ((المفهم)) (1/ 304). .