موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: إخفاءُ الصَّدَقةِ


يُستحَبُّ إخفاءُ الصَّدَقةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ-مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة: 271] .
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أي: : إن تُظهِروا الصَّدَقاتِ فتُعطوها عَلانيةً، فنِعمَ الشَّيءُ هيَ؛ لحُصولِ المَقصودِ بها، ما دامَ أنَّها مِن أجلِ اللهِ تعالى.
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي: وإن تَستُروا صَدَقَتَكُم غَيرَ المَفروضةِ عليكُم، فتُعطوها الفُقَراءَ في السِّرِّ، فإخفاؤُكُم إيَّاها أفضَلُ لكُم مِن إظهارِها وإعلانِها؛ ففي إخفائِها: السَّترُ على الفقيرِ، وحِفظُ ماءِ وَجهِه بعَدَمِ تَخجيلِه وفضيحَتِه بَينَ النَّاسِ، وهذا قدرٌ زائِدٌ عنِ الإحسانِ إليه بمُجَرَّدِ الصَّدَقةِ، مَعَ كَونِه أدعى إلى إخلاصِ صاحِبِها، وأبعَدَ له عنِ الرِّياءِ.
وقَيَّدَ تعالى الإخفاءَ بإيتاءِ الفُقَراءِ خاصَّةً؛ لأنَّ مِنَ الصَّدَقةِ ما لا يُمكِنُ إخفاؤُه، كَتَجهيزِ الجَيشِ، أو يَتَرَتَّبُ على الإظهارِ مَصلحةٌ راجِحةٌ، كَإظهارِ شَعائِر الدِّينِ، وحُصولِ اقتِداءِ النَّاسِ به  [1446] ((التفسير المحرر- الدرر السنية)) (1/ 834). قال ابنُ جَريرٍ: (الواجِبُ مِنَ الفرائِضِ قد أجمَعَ الجَميعُ على أنَّ الفَضلَ في إعلانِه وإظهارِه سِوى الزَّكاةِ، التي ذَكَرنا اختِلافَ المُختَلفينَ فيها، مَعَ إجماعِ جَميعِهم على أنَّها واجِبةٌ، فحُكمُها -في أنَّ الفَضلَ في أدائِها عَلانيةً- حُكمُ سائِرِ الفرائِضِ غَيرِها). ((جامع البيان)) (5/17). وقال الواحديُّ: (جُمهورُ المُفسِّرينَ على أنَّ المُرادَ بالصَّدَقاتِ في هذه الآيةِ: التَّطَوُّعُ لا الفَرضُ؛ لأنَّ الفرضَ إظهارُه أفضَلُ مِن كِتمانِه، والتَّطَوُّعُ كِتمانُه أفضَلُ). ((التفسير الوسيط)) (1/385). وقال ابنُ عَطيَّةَ: (ذَهَبَ جُمهورُ المُفسِّرينَ إلى أنَّ هذه الآيةَ هيَ في صَدَقةِ التَّطَوُّعِ). ((تفسير ابن عطية)) (1/365). وقال ابنُ العَرَبيِّ: (أمَّا صَدَقةُ الفَرضِ فلا خِلافَ أنَّ إظهارَها أفضَلُ، كَصَلاةِ الفرضِ وسائِرِ فرائِضِ الشَّريعةِ؛ لأنَّ المَرءَ يُحرِزُ بها إسلامَه، ويَعصِمُ مالَه، وليس في تَفضيلِ صَدَقةِ العَلانيةِ على السِّرِّ، ولا في تَفضيلِ صَدَقةِ السِّرِّ على العَلانيةِ حَديثٌ صحيح يُعَوَّلُ عليه، ولكِنَّه الإجماعُ الثَّابتُ. فأمَّا صَدَقةُ النَّفلِ فالقُرآنُ صَرَّحَ بأنَّها في السِّرِّ أفضَلُ مِنها في الجَهرِ، بَيْدَ أنَّ عُلماءَنا قالوا: إنَّ هذا على الغالِبِ مَخرَجُه، والتَّحقيقُ فيه: أنَّ الحالَ في الصَّدَقةِ تَختَلفُ بحالِ المُعطي لها، والمُعطى إيَّاها، والنَّاسِ الشَّاهدينَ لها). ((أحكام القرآن)) (1/315). .
ب-مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((سَبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادِلُ، وشابٌّ نَشَأ في عِبادةِ رَبِّه، ورَجُلٌ قَلبُه مُعَلَّقٌ في المَساجِدِ، ورَجُلانِ تَحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتَفَرَّقا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْه امرَأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ فقال: إنِّي أخافُ اللهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخفى حَتَّى لا تَعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضَت عَيناه)) [1447] أخرجه البخاري (660) واللفظ له، ومسلم (1031). .
قال عياضٌ: (فيه ... فَضلُ أعمالِ السِّرِّ كُلِّها؛ لأنَّها أبعَدُ مِنَ الرِّياءِ والتَّصَنُّعِ) [1448] ((إكمال المعلم)) (3/ 564). .
2- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا نَزَلت هذه الآيةُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] أو مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة: 245] ، قال أبو طَلحةَ -وكان له حائِطٌ- فقال: يا رَسولَ اللهِ، حائِطي للَّهِ، ولوِ استَطَعتُ أن أُسِرَّه لم أُعلِنْه، فقال: اجعَلْه في قَرابَتِك أو أَقْرَبيك)) [1449] أخرجه الترمذي (2997)، وأحمد (13767). صَحَّحه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (4/177)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2997)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (4421)، وقال الترمذي: حسن صحيح .

انظر أيضا: