فَوائِدُ ومَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ
أفضلُ الصَّدقةِقال اليافِعيُّ: (أفضَلُ الصَّدَقةِ الصَّدَقةُ المُستَمِرَّةُ الدَّائِمةُ التي تَبقى بَعدَ مَوتِ الإنسانِ؛ فقد ثَبَتَ في الصَّحيحِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالحٍ يَدعو له)). رواه مُسلِمٌ في صحيحِه
[1450] أخرجه مسلم (1631) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: ((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عَنه عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالحٍ يَدعو له)). .
فقَولُه: «صَدَقةٍ جاريةٍ» أي: دائِمةٍ مُستَمِرَّةٍ، وذلك كالوَقفِ على جِهات البِرِّ وأفعالِ الخَيرِ، يَجري ثَوابُها على صاحِبِها في قَبرِه، ويَومَ حَشرِه يَتَضاعَفُ له بها الثَّوابُ والجَزاءُ، ولا يَحصُلُ هذا إلَّا لمَن وفَّقَه اللهُ تعالى، وأجرى الخَيرَ على يَدَيه، وقدَّمَ ما بَينَ يَدَيه لِما بَينَ يَدَيه؛ فقد صَحَّ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال يَومًا لأصحابه:
((أيُّكُم مالُ وارِثِه أحَبُّ إليه مِن ماله؟ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ما منَّا أحَدٌ إلَّا مالُه أحَبُّ إليه مِن مالِ وارِثِه! قال: فإنَّ مالَ أحَدِكُم ما قدَّمَ، ومالُ وارِثِه ما أخَّرَ)) [1451] أخرجه البخاري (6442) باختلافٍ يسيرٍ من حديث عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه؛ بلفظ: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أحَبُّ إليه مِن مالِه؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما مِنَّا أحَدٌ إلَّا مالُه أحَبُّ إليه، قال: فإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِه ما أخَّرَ)). .
وكان أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: (يا ابنَ آدَمَ، لك في المالِ ثَلاثةُ شُرَكاءَ: القَدَرُ، والوارِثُ، وأنتَ، فإنِ استَطَعتَ ألَّا تَكونَ أعجَزَ الثَّلاثةِ فلا تَكُنْ)
[1452] أخرجه هنَّاد في ((الزهد)) (1/348)، وأبو نُعيم في ((حلية الأولياء)) (1/163) ولفظه: عن أبي ذَر رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (في المالِ ثَلاثةُ شُرَكاءَ: القَدَرُ لا يستأمِرُك أن يُذهِبَ بخَيرِها أو شَرِّها مِن هَلاكٍ أو مَوتٍ، والوارِثُ يَنتَظِرُ أن تَضَعَ رَأسَك ثُمَّ يَستاقُها وأنتَ ذَميمٌ، وأنتَ الثَّالثُ، فإنِ استَطَعتَ أن لا تَكونَ أعجَزَ الثَّلاثةِ فلا تَكونَنَّ؛ فإنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، وإنَّ هذا الجَمَل مِمَّا كُنتُ أُحِبُّ مِن مالي فأحبَبتُ أن أُقدِّمَه لنَفسي). .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يَتبَعُ المَيِّتَ ثَلاثةٌ: أهلُه ومالُه وعَمَلُه، فيَرجِعُ اثنانِ ويَبقى واحِدٌ؛ يَرجِعُ أهلُه ومالُه، ويَبقى عَمَلُه)) [1453] أخرجه البخاري (6514)، ومسلم (2960) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((يَتبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرجِعُ اثنانِ ويَبقَى معهُ واحِدٌ: يَتبَعُه أهلُه ومالُه وعَمَلُه، فَيَرجِعُ أهلُه ومالُه، ويَبقَى عَمَلُه)). [1454] ((الترغيب والترهيب)) (ص: 82). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الصَّدَقةِ أعظَمُ أجرًا؟ قال: أن تَصَدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفَقرَ وتأمُلُ الغِنى، ولا تمهِلْ حتَّى إذا بلَغَتِ الحُلقومَ قُلتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كذا، وقد كان لفُلانٍ)) [1455] أخرجه البخاري (1419) واللفظ له، ومسلم (1032). .
مِن دَقائِقِ الآدابِ الباطِنةِ في الزَّكاةِ قال أبو العَبَّاسِ بنُ قُدامةَ في دَقائِقِ الآدابِ الباطِنةِ في الزَّكاةِ: (اعلَمْ أنَّ على مُريدِ الآخِرةِ في زَكاتِه وظائِفَ:
الأولى: أن يَفهَمَ المُرادَ مِنَ الزَّكاةِ، وهو ثَلاثةُ أشياءَ: ابتِلاءُ مُدَّعي مَحَبَّةِ اللهِ تعالى بإخراجِ مَحبوبِه، والتَّنَزُّهُ عن صِفةِ البُخلِ المُهلِكِ، وشُكرُ نِعمةِ المالِ.
الوظيفةُ الثَّانيةُ: الإسرارُ بإخراجِها؛ لكَونِه أبعَدَ مِنَ الرِّياءِ والسُّمعةِ، وفى الإظهارِ إذلالٌ للفقيرِ أيضًا، فإن خاف أن يُتَّهَمَ بعَدَمِ الإخراجِ أعطى مَن لا يُبالي مِنَ الفُقَراءِ بالأخذِ بَينَ الجَماعةِ عَلانيةً، وأعطى غَيرَه سِرًّا.
الوظيفةُ الثَّالثةُ: أن لا يُفسِدَها بالمَنِّ والأذى، وذلك أنَّ الإنسانَ إذا رَأى نَفسَه مُحسِنًا إلى الفقيرِ، مُنَعِمًا بالإعطاءِ، رُبَّما حَصَل مِنه ذلك، ولو حَقَّقَ النَّظَرَ لرَأى الفقيرَ مُحسِنًا إليه بقَبولِ حَقِّ اللهِ الذي هو طُهرةٌ له.
وإذا استَحضَرَ مَعَ ذلك أنَّ إخراجَه للزَّكاةِ شُكرٌ لنِعمةِ المالِ، فلا يَبقى بَينَه وبَينَ الفقيرِ مُعامَلةٌ، ولا يَنبَغي أن يَحتَقِرَ الفقيرَ لفَقرِه؛ لأنَّ الفضلَ ليسَ بالمالِ، ولا النَّقصُ بعَدَمِه.
الوظيفةُ الرَّابعةُ: أن يَستَصغِرَ العَطيَّةَ؛ فإنَّ المُستَعظِمَ للفِعلِ مُعجَبٌ به. وقد قيل: لا يَتِمُّ المَعروفُ إلَّا بثَلاثٍ: بتَصغيرِه، وتَعجيلِه، وسَترِه.
الوظيفةُ الخامِسةُ: أن يَنتَقيَ مِن مالِه أحَلَّه وأجودَه وأحَبَّه إليه؛ أمَّا الحِلُّ، فإنَّ اللَّهَ تعالى طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا. وأمَّا الأجودُ فقد قال اللهُ تعالى:
وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة: 267] .
ويَنبَغي أن يُلاحِظَ في ذلك أمرَينِ؛
أحَدُهما: حَقُّ اللَّهِ سُبحانَه وتعالى بالتَّعظيمِ له؛ فإنَّه أحَقُّ مَنِ اختيرَ له، ولو أنَّ الإنسانَ قدَّمَ إلى ضَيفِه طَعامًا رَديئًا لأوغَرَ صَدْرَه!
والثَّاني: حَقُّ نَفسِه؛ فإنَّ الذي يُقدِّمُه هو الذي يَلقاه غَدًا في القيامةِ، فيَنبَغي أن يَختارَ الأجوَدَ لنَفسِه.
وأمَّا أحَبُّه إليه، فلقَولِه تعالى:
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] .
وكان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما إذا اشتَدَّ حُبُّه لشَيءٍ مِن مالِه قَرَّبه للهِ عَزَّ وجَلَّ. ورُوِيَ أنَّه نَزَل الجُحفةَ وهو شاكٍ، فقال: إنِّي لأشتَهي حِيتانًا، فالتَمَسوا له فلم يَجِدوا حوتًا، فأخَذَته امرَأتُه فصَنَعَته ثُمَّ قَرَّبَته إليه، فأتى مِسكينٌ، فقال ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: خُذْه، فقال له أهلُه: سُبحانَ اللَّهِ! قد عنَّيتَنا، ومَعنا زادٌ نُعطيه! فقال: إنَّ عَبدَ اللَّهِ يُحِبُّه!
ورويَ أنَّ سائِلًا وقَف ببابِ الرَّبيعِ بنِ خُثَيمٍ رَحمةُ اللهِ عليه فقال: أطعِموه سُكَّرًا، فقالوا: نُطعِمُه خُبزًا أنفَعُ له! فقال: وَيحَكمْ! أطعِموه سُكَّرًا؛ فإنَّ الرَّبيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ!
الوظيفةُ السَّادِسةُ: أن يَطلُبَ لصَدَقَتِه مَن تَزكو به، وهم خُصوصٌ مِن عُمومِ الأصنافِ الثَّمانيةِ، ولهم صِفاتٌ:
الأولى: التَّقوى، فلْيَخُصَّ بصَدَقَتِه المُتَّقينَ؛ فإنَّه يَرُدُّ بها همَمَهم إلى اللهِ تعالى.
وقد كان عامِرُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيرِ يَتَخَيَّرُ العُبَّادَ وهم سُجودٌ، فيَأتيهم بالصُّرَّةِ فيها الدَّنانيرُ والدَّراهمُ، فيَضَعُها عِندَ نِعالِهم بحَيثُ يُحِسُّونَ بها ولا يَشعُرونَ بمَكانِه، فقيل له: ما يَمنَعُك أن تُرسِلَ بها إليهم؟ فيَقولُ: أكرَهُ أن يَتَمَعَّرَ وَجهُ أحَدِهم إذا نَظَرَ إلى رَسولي أو لَقِيَني!
الثَّانيةُ: العِلمُ؛ فإنَّ في إعطاءِ العالمِ إعانةً على العِلمِ ونَشرِ الدِّينِ، وذلك تَقويةٌ للشَّريعةِ.
الثَّالثةُ: أن يَكونَ مِمَّن يَرى الإنعامَ مِنَ اللهِ وحدَه، ولا يَلتَفِتُ إلى الأسبابِ إلَّا بقَدرِ ما نُدِبَ إليه مِن شُكرِها، فأمَّا الذي عادَته المَدحُ عِندَ العَطاءِ فإنَّه سيَذُمُّ عِندَ المَنعِ.
الرَّابعةُ: أن يَكونَ صائِنًا لفَقرِه، ساتِرًا لحاجَتِه، كاتِمًا للشَّكوى، كما قال تعالى:
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة: 273] . وهؤلاء لا يَحصُلونَ في شَبَكةِ الطَّالِبِ إلَّا بَعدَ البَحثِ عنهم، وسُؤالِ أهلِ كُلِّ مَحَلَّةٍ عَمَّن هذه صِفتُه.
الخامِسةُ: أن يَكونَ ذا عائِلةٍ أو مَحبوسًا لمَرَضٍ أو دَينٍ، فهذا مِنَ المُحصَرينَ، والتَّصَدُّقُ عليه إطلاقٌ لحَصرِه.
السَّادِسةُ: أن يَكونَ مِنَ الأقارِبِ وذَوي الأرحامِ؛ فإنَّ الصَّدَقةَ عليهم صَدَقةٌ وصِلةٌ.
وكُلُّ مَن جَمعَ مِن هذه الخِلالِ خَلَّتَينِ أو أكثَرَ، كان إعطاؤُه أفضَلَ على قدْرِ ما جَمَعَ)
[1456] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 37-39). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 213). .