موسوعة الآداب الشرعية

حادي عشرَ: التزامُ الأدبِ عندَ زيارةِ قَبرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


يُستَحَبُّ لمَن شَدَّ الرَّحلَ إلى مَسجِدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَزورَ قَبرَه الشَّريفَ [626] قال ابنُ بازٍ: (زيارةُ قَبرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقَبرِ صاحِبَيه مِن دونِ شَدِّ رِحالٍ سُنَّةٌ وقُربةٌ، وهَكَذا زيارةُ قُبورِ الشُّهَداءِ وأهلِ البَقيعِ، وهَكَذا زيارةُ قُبورِ المُسلمينَ في كُلِّ مَكانٍ سُنَّةٌ وقُربةٌ، لكِن بدونِ شَدِّ الرِّحالِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (8/ 337). وقال ابنُ عثيمين: (قَولُه: «وتُستَحَبُّ زيارةُ قَبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقَبرَي صاحِبَيه». والدَّليلُ أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزيارةِ القُبورِ، وهو عامٌّ يَشمَلُ قَبرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقَبرَ غَيرِه) ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (7/ 374) .
 ولزيارةِ قَبرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آدابٌ يَنبَغي مُراعاتُها؛ مِنها:
1- التَّواضُعُ والتَّوقُّرُ، وتَفريغُ القَلبِ مِن عَلائِقِ الدُّنيا، واستِحضارُ جَلالةِ المَوقِفِ
يَنبَغي الوُقوفُ مُتَواضِعًا مُتَوقِّرًا في مَقامِ الهَيبةِ والإجلالِ، فارِغَ القَلبِ مِن عَلائِقِ الدُّنيا، مُستَحضِرًا في قَلبِه جَلالةَ مَوقِفِه، ومَنزِلةَ مَن هو بحَضرَتِه [627] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 87)، ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (8/ 273)، ((الإيضاح في مناسك الحج والعمرة)) للنووي (ص: 450)، ((مختصر منهاج القاصدين)) لأبي العباس ابن قدامة (ص: 49)، ((الصارم المنكي)) لابن عبد الهادي (ص: 17). قال ابنُ علانَ: (المُتَأكَّدُ ألَّا يُشتَغَلَ ثَمَّةَ بما حَدَثَ مِنَ الزِّينةِ والزَّخارِفِ). ((الفتوحات الربانية)) (5/ 34). .
2- السَّلامُ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصَوتٍ خَفيضٍ
يُستَحَبُّ السَّلامُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَكونُ ذلك مِن غيرِ رَفعٍ للصَّوتِ، بَل يَقتَصِدُ [628] يُنظر: ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (8/ 273)، ((الإيضاح في مناسك الحج والعمرة)) للنووي (ص: 450)، ((كفاية النبيه)) لابن الرفعة (7/ 536). ويُنظر أيضا: ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (2/ 456). قال الغَزاليُّ بَعدَ ذِكرِه السَّلامَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (ثُمَّ يَتَأخَّرُ قَدرَ ذِراعٍ ويُسَلِّمُ على أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لأنَّ رَأسَه عِند مَنكِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَأسُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه عِندَ مَنكِبٍ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ثُمَّ يَتَأخَّرُ قَدرَ ذِراعٍ ويُسَلِّمُ على الفاروقِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه). ((إحياء علوم الدين)) (1/ 259). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات: 2-3] .
قال ابنُ كثيرٍ: (هذا أدبٌ أدَّب اللَّهُ به المُؤمِنينَ ألَّا يَرفَعوا أصواتَهم بحَضرةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال العُلماءُ: يُكرَهُ رَفعُ الصَّوتِ عِندَ قَبرِه كما كان يُكرَهُ في حياتِه؛ لأنَّه مُحتَرَمٌ حيًّا وفي قَبرِه، صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه دائِمًا) [629] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (7/ 365، 368). .
وقال السُّيوطيُّ في قَولِه تعالى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ: (استَدَلَّ به العُلماءُ على المَنعِ مِن رَفعِ الصَّوتِ بحَضرةِ قَبرِه وعِندَ قِراءةِ حَديثِه؛ لأنَّ حُرمَتَه ميِّتًا كحُرمَتِه حيًّا) [630] ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص: 241). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن أحَدٍ يُسَلِّمُ عليَّ إلَّا رَدَّ اللهُ عليَّ رُوحي حتَّى أرُدَّ عليه السَّلامَ)) [631] أخرجه أبو داود (2041) واللفظ له، وأحمد (10815). جوده ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (27/116)، وحسَّنه ابنُ حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/31)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2041) (5/31)، وجود إسناده ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/299)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/409)، وحسنه السخاوي في ((القول البديع)) (229). .
ج- مِن الآثارِ
عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنه كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم أتى القبر، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه) [632] أخرجه العدني كما في ((المطالب العالية)) لابن حجر (2/69) صححه ابن حجر في ((المطالب العالية)) لابن حجر (2/69) .
فائدةٌ:
قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا الوُقوفُ للسَّلامِ عليه صَلواتُ اللهِ عليه وسَلامُه، فقال أبو حَنيفةَ: يَستَقبلُ القِبلةَ ولا يَستَقبلُ القَبرَ. وقال أكثَرُ الأئِمَّةِ: بَل يَستَقبلُ القَبرَ عِندَ السَّلامِ خاصَّةً. ولم يَقُلْ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ: إنَّه يَستَقبلُ القَبرَ عِندَ الدُّعاءِ) [633] ((مجموع الفتاوى)) (27/ 190). ويُنظر: ((الاختيار لتعليل المختار)) للموصلي (1/ 175)، ((الشفا)) لعياض (2/ 85)، ((المجموع)) للنووي (8/ 273)، ((الإيضاح)) للنووي (ص: 450)، ((قاعدة جليلة)) لابن تيمية (1/ 136). .
3- عَدَمُ الطَّوافِ بالقَبرِ
لا يَجوزُ أن يُطافَ بالقَبرِ الشَّريفِ [634] يُنظر: ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (8/ 275). قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا مَسجِدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمَسجِدُ الأقصى وسائِرُ المَساجِدِ فليس فيها ما يُطافُ به ولا فيها ما يُتَمَسَّحُ به ولا ما يُقَبَّلُ. فلا يَجوزُ لأحَدٍ أن يَطوفَ بحُجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا بغيرِ ذلك مِن مَقابرِ الأنبياءِ والصَّالحينَ، ولا بصَخرةِ بيتِ المَقدِسِ ولا بغيرِ هؤلاء: ...، بَل ليس في الأرضِ مَكانٌ يُطافُ به كما يُطافُ بالكعبةِ. ومَنِ اعتَقَدَ أنَّ الطَّوافَ بغَيرِها مَشروعٌ فهو شَرٌّ مِمَّن يَعتَقِدُ جَوازَ الصَّلاةِ إلى غيرِ الكعبةِ... والطَّوافُ بغيرِ الكعبةِ لم يَشرَعْه اللهُ بحالٍ). ((مجموع الفتاوى)) (27/ 10، 11). وقال ابنُ الحاجِّ: (تَرى مَن لا عِلمَ عِندَه يَطوفُ بالقَبرِ الشَّريفِ كما يَطوفُ بالكعبةِ الحَرامِ، ويَتَمَسَّحُ به ويَقبِّلُه ويُلقونَ عليه مَناديلَهم وثيابَهم يَقصِدونَ به التَّبَرُّكَ، وذلك كُلُّه مِنَ البدَعِ؛ لأنَّ التَّبَرُّك إنَّما يَكونُ بالاتِّباعِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما كان سَبَبُ عِبادةِ الجاهليَّةِ للأصنامِ إلَّا مِن هذا البابِ). ((المدخل)) (1/ 263). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
- عن عائِشةَ وعَبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالا: ((لمَّا نُزِل برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَفِقَ يَطرَحُ خَميصةً له على وَجهِه، فإذا اغتَمَّ بها كشَفَها عن وَجهِه، فقال وهو كذلك: لعنةُ اللهِ على اليَهودِ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ! يُحَذِّرُ ما صَنَعوا)) [635] أخرجه البخاري (435، 436) واللفظ له، ومسلم (531). .
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِه الذي لم يَقُمْ مِنه: لعَنَ اللهُ اليَهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ. قالت: فلولا ذاك أُبرِزَ قَبرُه، غيرَ أنَّه خَشيَ أن يُتَّخَذَ مَسجِدًا)) [636] أخرجه البخاري (1390)، ومسلم (529) واللفظ له. .
- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قاتَل اللهُ اليَهودَ؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ)) [637] أخرجه البخاري (437)، ومسلم (530). .
- عن جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ أن يَموتَ بخَمسٍ، وهو يَقولُ: إنِّي أبرَأُ إلى اللهِ أن يَكونَ لي مِنكُم خَليلٌ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قَدِ اتَّخَذَني خَليلًا كما اتَّخَذَ إبراهيمَ خَليلًا، ولو كُنتُ مُتَّخِذًا مِن أمَّتي خَليلًا لاتَّخَذتُ أبا بَكرٍ خَليلًا، ألَا وإنَّ مَن كان قَبلَكُم كانوا يَتَّخِذونَ قُبورَ أنبيائِهم وصالِحيهم مَساجِدَ، ألَا فلا تَتَّخِذوا القُبورَ مَساجِدَ، إنِّي أنهاكُم عن ذلك)) [638] أخرجه مسلم (532). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِن الأحاديثِ:
أنَّه إذا كان هذا الذَّمُّ العَظيمُ فيمَنِ اتَّخَذَ المَوضِعَ مَسجِدًا، فكيف بالطَّوافِ عِندَه [639] ((المدخل)) لابن الحاج (1/ 263). ؟!
ب- من الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ [640] ممن نقَل الإجماعَ ابنُ تَيميَّةَ، وابنُ عَبدِ الهادي: قال ابنُ تيميَّةَ: (الطَّوافُ بالبيتِ العَتيقِ مِمَّا أمَرَ اللهُ به ورَسولُه، وأمَّا الطَّوافُ بالأنبياءِ والصَّالحينَ فحَرامٌ بإجماعِ المُسلِمينَ، ومَنِ اعتَقَدَ ذلك دينًا فهو كافِرٌ، سَواءٌ طاف ببَدَنِه أو بقَبرِه). ((مجموع الفتاوى)) (2/ 308). وقال: (اتَّفقَ المُسلِمونَ على أنَّه لا يُشرَعُ الطَّوافُ إلَّا بالبيتِ المَعمورِ، فلا يَجوزُ الطَّوافُ بصَخرةِ بيتِ المَقدِسِ، ولا بحُجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ... ولا غيرِ ذلك. وكذلك اتَّفقَ المُسلِمونَ على أنَّه لا يُشرَعُ الاستِلامُ ولا التَّقبيلُ إلَّا للرُّكنَينِ اليَمانِيَينِ؛ فالحَجَرُ الأسوَدُ يُستَلَمُ ويُقَبَّلُ، واليَمانيُ يُستَلَمُ. وقد قيل: إنَّه يُقبَّلُ، وهو ضَعيفٌ. وأمَّا غيرُ ذلك فلا يُشرَعُ استِلامُه ولا تَقبيلُه؛ كجَوانِبِ البيتِ، والرُّكنينِ الشَّاميَّينِ، ومَقامِ إبراهيمَ، والصَّخرةِ، والحُجرةِ النَّبَويَّةِ، وسائِرِ قُبورِ الأنبياءِ والصَّالحينَ). ((مجموع الفتاوى)) (4/ 521). وقال أيضًا: (قال تعالى لخَليلِه إمامِ الحُنَفاءِ الذي أمَرَه ببناءِ البيتِ ودَعا النَّاسَ إلى حَجِّه: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125] ، وفي الآيةِ الأخرى: وَالْقَائِمِينَ [الحج: 26] ، فذَكرَ ثَلاثةَ أنواعٍ: الطَّوافَ، والعُكوفَ، والرُّكوعَ مَعَ السُّجودِ، وقَدَّمَ الأخَصَّ فالأخَصَّ؛ فإنَّ الطَّوافَ لا يُشرَعُ إلَّا بالبيتِ العَتيقِ باتِّفاقِ المُسلِمينَ؛ ولهذا اتَّفقوا على تَضليلِ مَن يَطوفُ بغيرِ ذلك، مِثلُ مَن يَطوفُ بالصَّخرةِ، أو بحُجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو بالمَساجِدِ المَبنيَّةِ بعَرَفةَ أو مِنًى أو غيرِ ذلك، أو بقَبرِ بَعضِ المَشايِخِ أو بَعضِ أهلِ البَيتِ، كما يَفعَلُه كثيرٌ مِن جُهَّالِ المُسلِمينَ؛ فإنَّ الطَّوافَ بغَيرِ البيتِ العَتيقِ لا يَجوزُ باتِّفاقِ المُسلِمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (26/ 250). وقال ابنُ عَبدِ الهادي: (لا يَجوزُ الطَّوافُ بالحُجرةِ بالإجماعِ، بَل ولا الصَّلاةُ إليها، كما ثَبَتَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صَحيحِ مُسلِمٍ عن أبي مَرثَدٍ الغَنَويِّ أنَّه قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَجلِسوا على القُبورِ ولا تُصَلُّوا إليها)) أخرجه مسلم (972). ((الصارم المنكي)) (ص: 145). .
4- عَدَمُ التَّمَسُّحِ بالجُدرانِ والشَّبابيكِ
لا يَجوزُ التَّمَسُّحُ بالجُدرانِ والشَّبابيكِ التي حَولَ القَبرِ الشَّريفِ، ولا إلصاقُ البَطنِ والظَّهرِ به؛ فإنَّ هذا مِنَ البدَعِ المُحدَثاتِ [641] قال الموصِليُّ: (لا يَضَعُ يَدَه على جِدارِ التُّربةِ؛ فهو أهْيَبُ وأعظَمُ للحُرمةِ). ((الاختيار لتعليل المختار)) (1/ 176). وقال عِياضٌ: (قال مالِكٌ في رِوايةِ ابنِ وَهبٍ: إذا سَلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَعا، يَقِفُ ووجهُه إلى القَبرِ لا إلى القِبلةِ، ويَدنو ويُسَلِّمُ، ولا يَمَسُّ القَبرَ بيَدِه). ((الشفا)) (2/ 85). قال القاريُّ: (قَولُه: "ويَدنو"، أي: ويَقرُبُ إلى القَبرِ قُربًا يُناسِبُ الأدَبَ). ((شرح الشفا)) (2/ 153). ونَقَل عِياضٌ عن أحمَدَ بنِ سَعيدٍ الهنديِّ فيمَن وقَف بالقَبرِ: (لا يَلصَقُ به ولا يَمَسُّه ولا يَقِفُ عِندَه طَويلًا). ((الشفا)) (2/ 85). قال ابنُ الحاجِّ: (يَعني بالوُقوفِ طَويلًا أنَّ الحُجرةَ الشَّريفةَ داخِلَ الدَّرابيزِ، فإذا وقَف طَويلًا ضيَّقَ على غَيرِه). ((المدخل)) (1/ 262). وقال القاريُّ: ("لا يَلصَقُ به"؛ لأنَّه ناشِئٌ عن قِلَّةِ الأدَبِ مَعَ رَسولِ الرَّبِّ "ولا يَمَسُّه"، أي: لعَدَمِ وُرودِه، بَل وردَ النَّهيُ عن مَسِّه ولمسِه "ولا يَقِفُ عِندَه طَويلًا" أي: وُقوفًا طَويلًا أو زَمانًا طَويلًا؛ خَوفًا مِنَ الرِّياءِ والسُّمعةِ، أو مِنَ المَلالةِ والسَّآمةِ). ((شرح الشفا)) (2/ 158). وقال الغَزاليُّ: (ليس مِنَ السُّنَّةِ أن يَمَسَّ الجِدارَ ولا أن يُقَبِّلَه، بَل الوُقوفُ مِن بُعدٍ أقرَبُ للاحتِرامِ). ((إحياء علوم الدين)) (1/ 259). وقال النَّوويُّ: (قال الإمامُ أبو الحَسَنِ مُحَمَّدُ بنُ مَرزوقٍ الزَّعفرانيُّ -وكان مِنَ الفُقَهاءِ المُحَقِّقينَ- في كِتابِه في الجَنائِزِ: ولا يَستَلمُ القَبرَ بيَدِه ولا يُقَبِّلُه، قال: وعلى هذا مَضَتِ السُّنَّةُ، قال أبو الحَسَنِ: واستِلامُ القُبورِ وتَقبيلُها الذي يَفعَلُه العَوامُّ الآنَ: مِنَ المُبتَدَعاتِ المُنكَرةِ شَرعًا، يَنبَغي تَجَنُّبُ فِعلِه، ويُنهى فاعِلُه، قال: فمَن قَصَدَ السَّلامَ على ميِّتٍ سَلَّمَ عليه مِن قِبَلِ وَجهِه، وإذا أرادَ الدُّعاءَ تَحَوَّل عن مَوضِعِه واستَقبَل القِبلةَ، قال أبو موسى: وقال الفُقَهاءُ المُتَبَحِّرونَ الخُراسانيُّونَ: المُستَحَبُّ في زيارةِ القُبورِ أن يَقِفَ مُستَدبِرَ القِبلةِ مُستَقبِلًا وَجهَ الميِّتِ، يُسَلِّمُ ولا يَمسَحُ القَبرَ ولا يُقَبِّلُه ولا يَمَسُّه؛ فإنَّ ذلك عادةُ النَّصارى). ((المجموع شرح المهذب)) (5/ 311). وقال ابنُ قُدامةَ: (لا يُستَحَبُّ التَّمَسُّحُ بحائِطِ قَبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا تَقبيلُه؛ قال أحمَدُ: ما أعرِفُ هذا. قال الأثرَمُ: رَأيتُ أهلَ العِلمِ مِن أهلِ المَدينةِ لا يَمَسُّونَ قَبرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَقومونَ مِن ناحيةٍ فيُسَلِّمونَ. قال أبو عَبدِ اللَّهِ: وهَكذا كان ابنُ عُمَرَ يَفعَلُ). ((المغني)) (3/ 479). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن عَمِل عَمَلًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)) [642] أخرجه البخاريُ معلَّقًا بصيغةِ الجزمِ قبلَ حديث (7350)، وأخرجه موصولًا مسلم (1718) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
وفي رِوايةٍ: ((مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس فيه فهو رَدٌّ)) [643] أخرجها البخاري (2697) واللفظ له، ومسلم (1718) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
ب- من الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على عَدَمِ التَّمَسُّحِ بالقَبرِ وتَقبيلِه: ابنُ تيميَّةَ [644] قال ابنُ تيميَّةَ: (اتَّفقَ الأئِمَّةُ على أنَّه لا يَتَمَسَّحُ بقَبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا يُقَبِّلُه، وهذا كُلُّه مُحافَظة على التَّوحيدِ؛ فإنَّ مِن أصولِ الشِّركِ باللهِ اتِّخاذَ القُبورِ مَساجِدَ...). ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 290)، ((مجموع الفتاوى)) (27/ 191). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّه ما كان يُتَقَرَّبُ في حياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَسحِ جِدارِ بيتِه، ولا بإلصاقِ البَطنِ والظَّهرِ به [645] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (2/ 457). .
فوائدُ:
1- قال النَّوويُّ: (لا يَجوزُ أن يُطافَ بقَبرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُكرَهُ إلصاقُ الظَّهرِ والبَطنِ بجِدارِ القَبرِ، قاله أبو عُبَيدِ اللَّهِ الحَليميُّ وغيرُه، قالوا: ويُكرَهُ مَسحُه باليَدِ وتَقبيلُه، بَل الأدَبُ أن يَبعُدَ مِنه كما يَبعُدُ مِنه لو حَضَرَه في حياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هذا هو الصَّوابُ الذي قاله العُلماءُ وأطبَقوا عليه، ولا يُغتَرَّ بمُخالفةِ كثيرينَ مِنَ العَوامِّ وفِعلِهم ذلك؛ فإنَّ الاقتِداءَ والعَمَلَ إنَّما يَكونُ بالأحاديثِ الصَّحيحةِ وأقوالِ العُلماءِ، ولا يُلتَفَتُ إلى مُحدَثاتِ العَوامِّ وغيرِهم وجَهالاتِهم.
وقد ثَبَتَ في الصَّحيحينِ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن أحدَثَ في دينِنا ما ليس مِنه فهو رَدٌّ)) [646] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) بلفظِ: ((مَن أحدَثَ في أمرِنا ...)) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. أمَّا لفظُ: ((مَن أحدَثَ في دينِنا ...)). أخرجه لوين في ((جزء له)) (71)، والبغوي في ((شرح السنة)) (103) واللفظ له. صحَّحه النووي في ((الفتاوى)) (57)، وابن تيمية في ((نظرية العقد)) (14). ، وفي رِوايةٍ لمُسلِمٍ: ((مَن عَمِل عَمَلًا ليس عليه عَمَلُنا فهو رَدٌّ)) [647] أخرجها مسلم (1718) مِن حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. وأخرَجَها البُخاريُّ مُعَلَّقةً بصيغةِ الجَزمِ قَبلَ حَديثِ (7350). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَجعَلوا قَبري عيدًا، وصَلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صَلاتَكُم تَبلُغُني حيثُ ما كُنتُم)) رَواه أبو داوُدَ بإسنادٍ صَحيحٍ [648] أخرجه أبو داود (2042)، وأحمد (8804) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولفظُ أبي داودَ: ((لا تَجعَلوا بُيوتَكُم قُبورًا ولا تَجعَلوا قَبري عيدًا، وصَلُّوا عَلَيَّ؛ فإنَّ صَلاتَكم تَبلُغُني حيثُ كُنتُم)). صحَّحه لغيره الألباني في ((هداية الرواة)) (886)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2042)، وحسَّنه ابنُ تيمية في ((الإخنائية)) (265)، ومحمد ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (207)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (3/314) .
وقال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ رَحِمَه اللهُ ما مَعناه: اتَّبِعْ طُرُقَ الهدى ولا يَضُرُّك قِلَّةُ السَّالِكينَ، وإيَّاك وطُرُقَ الضَّلالةِ ولا تَغتَرَّ بكثرةِ الهالِكينَ.
ومَن خَطَرَ ببالِه أنَّ المَسحَ باليَدِ ونَحوِه أبلَغُ في البَرَكةِ فهو مِن جَهالتِه وغَفلتِه؛ لأنَّ البَرَكةَ إنَّما هي فيما وافقَ الشَّرعَ، وكيف يُبتَغى الفَضلُ في مُخالفةِ الصَّوابِ؟!) [649] ((المجموع شرح المهذب)) (8/ 275). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ:
وكذا نَشُدُّ رِحالَنا للمَسجِدِ النـَّ
ـبويِّ خيرِ مَساجِدِ البُلدانِ
مِن بَعدِ مَكَّةَ أو على الإطلاقِ فيـ
ـه الخُلفُ بينَ القَومِ مُنذُ زَمانِ
وصَلاتُنا فيه بألفٍ مِن سوا
هـ ما خَلا ذا الحجرِ والأركانِ
وكذا صَلاةٌ في قُبا فكعُمرةٍ
في أجرِها والفَضلُ للمَنَّانِ
فإذا أتينا المَسجِدَ النَّبَويَّ
صَلَّينا التَّحيَّةَ أوَّلًا ثِنْتانِ
بتَمامِ أركانٍ لها وخُشوعِه
وحُضورِ قَلبٍ فِعلَ ذي الإحسانِ
ثُمَّ انثَنَينا للزِّيارةِ نَقصِدُ القبـ
ـرَ الشَّريفَ ولو على الأجفانِ
فنَقومُ دونَ القَبرِ وَقفةَ خاضِعٍ
مُتَذَلِّلٍ في السِّرِّ والإعلانِ
فكأنَّه في القَبرِ حيٌّ ناطِقٌ
فالواقِفونَ نَواكِسُ الأذقانِ
مَلكَتْهم تلك المَهابةُ فاعتَرَت
تلك القَوائِمَ كَثرةُ الرَّجَفانِ
وتَفجَّرَت تلك العُيونُ بمائِها
غاضَت على الأزمانِ
وأتى المُسلِّمُ بالسَّلامِ بهَيبةٍ
ووقارِ ذي عِلمٍ وذي إيمانِ
لم يَرفعِ الأصواتَ حَولَ ضَريحِه
كَلَّا ولم يَسجُدْ على الأذقانِ
كَلَّا ولم يُرَ طائِفًا بالقَبرِ أُسـ
ـبوعًا كأنَّ القَبرَ بيتٌ ثانِ
مَنِ انثَنى بدُعائِه مُتَوجِّهًا
للَّهِ نَحوَ البيتِ ذي الأركانِ
هَذِي زيارةُ مَن غَدَا مُتَمَسِّكًا
لشَريعةِ الإسلامِ والإيمانِ
مِن أفضَلِ الأعمالِ هاتيك الزِّيا
رةُ وهْيَ يَومُ الحَشرِ في الميزانِ
لا تَلبِسوا الحَقَّ الذي جاءَت به
سُنَنُ الرَّسولِ بأعظَمِ البُرهانِ
هَذِي زيارَتُنا ولم نُنكِرْ سِـ
ـوى البِدَعِ المُضِلَّةِ يا أولي العُدوانِ
وحَديثُ شَدِّ الرَّحلِ نَصٌّ ثابتٌ
يَجِبُ المَصيرُ إليه بالبُرهانِ [650] ((الكافية الشافية)) (ص: 253، 254). .



انظر أيضا: