المَطْلَبُ الثَّالث والثَّلاثون: الآثارُ الإيمانيَّةُ لاسْمِ اللهِ: السَّميعِ
فسَمْعُ اللهِ وبَصَرُه مستغرِقٌ لجميعِ المسموعاتِ والمَرئيَّاتِ، لا يَعزُبُ عن سمعِه مَسموعٌ وإن دَقَّ وخَفِيَ، سِرًّا كان أو جَهرًا.
عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت -في قصَّةِ المجادِلةِ-: الحَمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمعُه الأصواتَ؛ لقد جاءت المجادِلةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تُكَلِّمُه وأنا في ناحيةِ البيتِ ما أسمعُ ما تقولُ، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] [3592] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7386)، وأخرجه موصولاً النسائي (3460)، وابن ماجه (188)، وأحمد (24195) واللفظ له صححه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/163)، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/339)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3460)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند)) (1583). . وفي روايةٍ: (تبارك الذي وَسِعَ سَمعُه كُلَّ شيءٍ)
[3593] أخرجه ابن ماجه (1691)، وأبو يعلى (4780)، والحاكم (3791) مطولاً. صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1691)، وصَحَّح إسنادَه الحاكم، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/1264): أصلُه في البخاريِّ من هذا الوَجهِ إلَّا أنَّه لم يُسَمِّها. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/55): أصلُه في البخاريِّ من هذا الوَجهِ. .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ فكُنَّا إذا عَلَونا كَبَّرْنا. فقال:
((ارْبَعُوا على أنفُسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعُون أصَمَّ ولا غائِبًا، تَدْعون سميعًا بصيرًا قريبًا... )) [3594] أخرجه البخاري (7386) واللفظ له، ومسلم (2704). .
قال ابنُ بطال: (معنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فإنَّكم لا تَدْعُون أصَمَّ ولا غائِبًا)) نفيُ الآفةِ المانعةِ من السَّمعِ، ونفيُ الجَهلِ المانِعِ من العِلمِ، وفى هذا القَولِ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دليلٌ على أنَّه لم يَزَلْ سميعًا بصيرًا عالِمًا، ولا تصِحُّ أضدادُ هذه الصِّفاتِ عليه)
[3595] يُنظر: ((شرح صحيح البخارى)) (10/ 417). .
وقال
أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (خُلِق الإنسانُ صغيرًا لا يسمَعُ، فإنْ سَمِع لم يَعقِلْ ما يَسمَعُ، فإذا عَقَل مَيَّز بين المسموعاتِ فأجاب عن الألفاظِ بما يستحِقُّ، ومَيَّز الكلامَ المستحسَنَ مِن المستقبَحِ، ثم كان لسَمْعِه مدًى إذا جاوزه لم يسمَعْ، ثمَّ إن كَلَّمه جماعةٌ في وقتٍ واحدٍ عجز عن استماعِ كَلامِهم، وعن إدراكِ جوابِهم.
واللهُ عَزَّ وجَلَّ السَّميعُ لدُعاءِ الخَلقِ وألفاظِهم عند تفَرُّقِهم واجتِماعِهم، مع اختلافِ ألسِنَتِهم ولغاتِهم، يعلَمُ ما في قَلبِ القائِلِ قبل أن يقولَ، ويَعجِزُ القائِلُ عن التعبيرِ عن مرادِه، فيَعلَمُ اللهُ فيعطيه الذي في قَلْبِه، والمخلوقُ يزول عنه السَّمعُ بالموتِ، واللهُ تعالى لم يَزَلْ ولا يزالُ، يُفْني الخَلْقَ ويَرِثُهم، فإذا لم يُبقِ أحدًا قال:
لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فلا يكونُ من يَرُدُّ، فيقولُ:
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] )
[3596] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 138). .
وقد أنكر اللهُ تبارك وتعالى على المُشرِكين الذين ظَنُّوا أنَّ اللهَ لا يَسمَعُ السِّرَّ والنَّجوى.
فعن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: اجتمع عند البيتِ قُرَشيَّانِ وثَقَفيٌّ -أو ثَقَفيَّانِ وقُرَشيٌّ- كثيرةٌ شحمُ بُطونِهم، قليلةٌ فِقهُ قُلوبِهم. فقال أحَدُهم: أَتُرَون أنَّ اللهَ يسمَعُ ما نقولُ؟ قال الآخَرُ: يسمَعُ إن جهَرْنا ولا يسمَعُ إن أخفَينا. وقال الآخَرُ: إن كان يسمَعُ إذا جَهَرْنا فإنَّه يسمَعُ إذا أخفَينا، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: 22] [3597] أخرجه البخاري (4817) واللفظ له، ومسلم (2775). .
وقد ورد الاسمُ مَقرونًا بغيرِه من الأسماءِ، كقَولِه تعالى:
سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ و
سَمِيعٌ قَرِيبٌ، وهي تدُلُّ على الإحاطةِ بالمخلوقاتِ كُلِّها، وأنَّ اللهَ محيطٌ بها، لا يفوتُه شيءٌ منها ولا يخفى عليه. وفي ذلك تنبيهٌ للعاقِلِ وتذكيرٌ، كي يراقِبَ نَفْسَه، وما يصدُرُ عنها من أقوالٍ وأفعالٍ؛ لأنَّ خالِقَه ورَبَّه لا يخفى عليه شيءٌ منها، وهو سُبحانَه مُحصِيها عليه، ثمَّ يجازى بها في الآخِرةِ؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ. ومتى آمن النَّاسُ بذلك وتذكَّروه فإنَّ أحوالَهم تتغَيَّرُ من القبيحِ إلى الحَسَنِ، ومن الشَّرِّ إلى الخيرِ.
وإذا نَسُوا ذلك أو تناسَوه وغَفَلوا عنه ففي ذلك ما يكفي لفسادِ الدُّنيا وخَرابِها.
واللهُ هو السَّميعُ الذي يسمَعُ المناجاةَ ويجيبُ الدُّعاءَ عند الاضطرارِ، ويَكشِفُ السُّوءَ، ويَقبَلُ الطَّاعةَ.
وقد دعا الأنبياءُ والصَّالحون رَبَّهم سُبحانَه بهذا الاسمِ؛ لِيقبَلَ منهم طاعَتَهم، أو ليستجيبَ لدُعائِهم؛ فإبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، قالا:
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] وهما يرفَعانِ قواعِدَ البيتِ الحرامِ.
وامرأةُ عِمرانَ عندما نذَرَت ما في بَطْنِها خالصًا لله، لعبادتِه ولخِدمةِ بيتِ المَقدِسِ، قالت:
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [آل عمران: 35] .
ودعا زكريَّا رَبَّه أن يرزُقَه ذُريةً صالحةً، ثم قال:
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 37] فاستجاب اللهُ دعاءَه.
ودعا يوسُفُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رَبَّه أن يصرِفَ عنه كَيدَ النِّسوةِ
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 34] .
وأمر بالالتجاءِ إليه عند حُصولِ وساوِسِ شياطينِ الإنسِ والجِنِّ، فقال تعالى:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (سميعٌ لجَهلِ الجاهِلِ عليك، والاستعاذةِ به من نَزْغِه، ولغيرِ ذلك من كلامِ خَلْقِه، لا يخفى عليه منه شيءٌ، عليمٌ بما يُذهِبُ عنك نَزْغَ
الشَّيطانِ، وغيرِ ذلك من أمورِ خَلْقِه)
[3598] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 533). .