المبحثُ الثاني: الإيمانُ بأنَّها دَعَت كُلُّها إلى الحَقِّ وجاءت بالخيرِ والهدى.
قال اللهُ تعالى:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران: 3-4] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يعني بقَولِه:
هُدًى لِلنَّاسِ بيانًا للنَّاسِ من اللهِ فيما اختلفوا فيه من توحيدِ اللهِ وتصديقِ رُسُلِه، ومُفيدًا -يا مُحَمَّدُ- أنَّك نبيِّي ورَسولي، وفي غيرِ ذلك من شرائعِ دينِ اللهِ)
[31] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 181). .
وقال
السَّعديُّ: (
هُدًى لِلنَّاسِ الظَّاهِرُ أنَّ هذا راجِعٌ لكُلِّ ما تقدَّم، أي: أنزل اللهُ القُرْآنَ والتوراةَ والإنجيلَ هُدًى للنَّاسِ مِن الضَّلالِ، فمن قَبِل هدى الله فهو المهتَدِي، ومن لم يقبَلْ ذلك بَقِيَ على ضلالِه)
[32] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 121). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة: 213] .
قال
البغوي: (
وأنزل معهم الكِتابَ، أي: الكُتُبَ، تقديرُه: وأنزل مع كُلِّ واحدٍ منهم الكِتابَ
بالحَقِّ: بالعَدلِ والصِّدقِ؛ ليحكُمَ بين النَّاسِ)
[33] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 272). .
وقال
السَّعديُّ: (
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وهو الإخباراتُ الصَّادِقةُ، والأوامِرُ العادِلةُ، فكُلُّ ما اشتملت عليه الكُتُبُ، فهو حقٌّ، يَفصِلُ بين المختلفينَ في الأصولِ والفُروعِ، وهذا هو الواجِبُ عند الاختلافِ والتنازعِ)
[34] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 95). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ في شَأنِ التوراةِ:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 44] .
قال
السَّعديُّ: (
إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ على موسى بنِ عِمرانَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
فِيهَا هُدًى يهدي إلى الإيمانِ والحَقِّ، ويَعصِمُ مِنَ الضَّلالةِ
وَنُورٌ يُستضاءُ به في ظُلمِ الجَهلِ والحَيرةِ والشُّكوكِ، والشُّبُهاتِ والشَّهواتِ)
[35] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 232). .
وقال اللهُ تعالى في شَأنِ الإنجيلِ:
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 46] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ أي: هُدًى إلى الحَقِّ، ونورٌ يُستضاءُ به في إزالةِ الشُّبُهاتِ وحَلِّ المُشكِلاتِ)
[36] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 126). .
وقال اللهُ سُبحانَه في شَأنِ القُرْآنِ:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
قال
السَّعديُّ: (
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وهو القُرْآنُ، يُستضاءُ به في ظُلُماتِ الجَهالةِ وعَمايةِ الضَّلالةِ.
وَكِتَابٌ مُبِينٌ لكُلِّ ما يحتاجُ الخَلْقُ إليه من أمورِ دينِهم ودُنياهم. مِنَ العِلمِ باللهِ وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، ومن العِلمِ بأحكامِه الشَّرعيَّةِ وأحكامِه الجَزائيَّةِ.
ثمَّ ذَكَر مَن الذي يهتدي بهذا القُرْآنِ، وما هو السَّبَبُ الذي من العَبدِ لحُصولِ ذلك، فقال:
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ أي: يهدي به من اجتهد وحَرَص على بلوغِ مرضاةِ اللهِ، وصار قَصْدُه حَسَنًا- سُبُلَ السَّلامِ التي تُسَلِّمُ صاحِبَها من العذابِ، وتُوصِلُه إلى دارِ السَّلامِ، وهو العِلمُ بالحَقِّ والعَمَلُ به، إجمالًا وتفصيلًا.
وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُماتِ الكُفرِ والبِدعةِ والمعصيةِ، والجَهلِ والغفلةِ، إلى نورِ الإيمانِ والسُّنَّةِ والطاعةِ والعِلمِ، والذِّكْرِ. وكُلُّ هذه الهدايةِ بإذنِ اللهِ الذي ما شاء كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ.
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
[37] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 226). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا كان أصلُ العِلمِ والهُدى هو الإيمانَ بالرِّسالةِ المتضَمِّنةِ للكِتابِ والحِكْمةِ: كان ذِكْرُه طريقَ الهدايةِ بالرِّسالةِ -التي هي القُرْآنُ وما جاءت به الرُّسُلُ- كثيرًا جِدًّا، كقَولِه:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2]، وقَولِه:
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] ، وقَولِه:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ، وقَولِه:
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران: 3، 4]، وقَولِه:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم: 1]، وقَولِه:
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123، 124]، وقَولِه:
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى: 52، 53]، وقال تعالى:
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران: 101]، فيُعلَمُ أنَّ آياتِ اللهِ والرَّسولَ تمنَعُ الكُفرَ وهذا كثيرٌ.
وكذلك ذِكْرُه حُصولَ الهدايةِ والفلاحِ للمُؤمِنين دون غيرهم مِلْءَ القُرْآنِ، كقَولِه:
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالْغَيْبِ الآية)
[38] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 4). .