المبحثُ الخامسُ: الإيمانُ بما سَمَّى اللهُ عَزَّ وجَلَّ مِن كُتُبِه على وَجهِ التعيينِ
قال
مُحَمَّدُ بنُ نَصرٍ المروزيُّ في تفسيرِ حديثِ
جِبريلَ عليه السَّلامُ في الإيمانِ: (أمَّا قَولُه: «وكُتُبِه» فأن تؤمِنَ بما سمَّى اللهُ مِن كُتُبِه في كِتابِه؛ من التوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ خاصَّةً، وتؤمِنَ بأنَّ لله سوى ذلك كُتُبًا أنزلها على أنبيائِه، لا يَعرِفُ أسماءَها وعَدَدَها إلَّا الذي أنزلها، وتؤمِنَ بالفُرقانِ، وإيمانُك به غيرُ إيمانِك بسائِرِ الكُتُبِ؛ إيمانُك بغيرِه من الكُتُبِ إقرارُك به بالقَلبِ واللِّسانِ، وإيمانُك بالفُرقانِ إقرارُك به، واتِّباعُك ما فيه)
[48] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 393). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (دَلَّ الإجمالُ في المَلائِكةِ والكُتُبِ والرُّسُلِ على الاكتفاءِ بذلك في الإيمانِ بهم من غيرِ تفصيلٍ، إلَّا من ثبت تسميتُه؛ فيَجِبُ الإيمانُ به على التعيينِ)
[49] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/118). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (أمَّا
الإيمانُ بالكُتُبِ المُنَزَّلةِ على المُرسَلين، فنؤمِنُ بما سمَّى اللهُ تعالى منها في كِتابِه، من التَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ، ونؤمِنُ بأنَّ للهِ تعالى سوى ذلك كتُبًا أنزلها على أنبيائِه لا يعرِفُ أسماءَها وعَدَدَها إلَّا اللهُ تعالى)
[50]يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/424). .
والكُتُبُ المُسَمَّاةُ في القُرْآنِ على وَجهِ الخُصوصِ خَمسةٌ، وهي: صُحُفُ إبراهيمَ، والتوراةُ، والإنجيلُ، والزَّبورُ، والقُرْآنُ.أوَّلًا: صُحُفُ إبراهيمَ جاء ذِكْرُها في موضِعَينِ من كِتابِ اللهِ:
1- في قَولِ اللهِ تعالى:
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 36-39] .
2- في قَولِ اللهِ سُبحانَه:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 14- 19] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (أمَّا الصُّحُفُ فإنَّها جمعُ صَحيفةٍ، وإنما عُنِيَ بها كُتُبُ إبراهيمَ وموسى)
[51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/325). .
ثانيًا: التوراةُ وهي كِتابُ اللهِ الذي آتاه موسى عليه السَّلامُ.
قال اللهُ تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ [القصص: 43] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ولقد آتينا موسى التَّوراةَ مِن بَعْدِ ما أهلَكْنا الأُمَمَ التي كانت قَبْلَه؛ كقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ، وقَومِ لُوطٍ، وأصحابِ مَدْيَنَ)
[52] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/258). .
وقال
السَّعديُّ: (
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وهو التوراةُ
مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى الذين كان خاتمِتُهم في الإهلاكِ العامِّ فِرعَونَ وجُنودَه)
[53] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 617). .
وفي حديثِ الشَّفاعةِ الطَّويلِ عن
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((... فيأتُونَ إبراهيمَ فيَقولُ: لستُ هُنَاكم، ويذكُرُ لهم خطاياه التي أصابها ولكِنِ ائْتُوا موسى؛ عبدًا آتاه اللهُ التَّوراةَ وكَلَّمه تكليمًا)) [54] رواه مُطَوَّلًا البخاري (7410) واللَّفظُ له، ومسلم (193). .
وفي حديثِ احتِجاجِ آدَمَ وموسى عليهما السَّلامُ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((... فقال له آدَمُ: أنت موسى اصطفاك اللهُ بكَلامِه وخَطَّ لك بيَدِه. وفي لَفظٍ: وكتب لك التوراةَ بيَدِه)) [55] أخرجه مُطَوَّلًا البخاري (6614)، ومسلم (2652) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ العطَّارِ: (إذا ثبت نصًّا في الكِتابِ العَزيزِ والسُّنَّةِ النبويَّةِ -على قائلِها أفضَلُ الصَّلَواتِ والتسليمِ- أنَّه سُبحانَه خلق آدَمَ بيَدِه، وأنَّه... كتَبَ التوراةَ لموسى بيَدِه، وغيرُ ذلك من الأخبارِ؛ وجب علينا اعتقادُ أنَّ ذلك حَقٌّ)
[56] يُنظر: ((الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد)) (ص: 126). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (في حديثِ احتِجاجِ آدَمَ وموسى: «فقال آدَمُ: يا موسى، اصطفاك اللهُ بكلامِه وخَطَّ لك التوراةَ بيَدِه» فكلامُه تعالى ويَدُه صِفَتَا ذاتٍ، وتكَلُّمُه صِفةُ ذاتٍ وفِعلٍ معًا، وخَطُّه التوراةَ صِفةُ فِعلٍ)
[57] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 33). .
والتوراةُ هي أعظَمُ كُتُبِ بني إسرائيلَ، وفيها تفصيلُ شَريعتِهم وأحكامِهم.
وقد كان على العَمَلِ بها أنبياءُ بني إسرائيلَ الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السَّلامُ.
قال اللهُ تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: 44] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (مَدَح التوراةَ التي أنزلها على عَبْدِه ورسولِه موسى بنِ عِمرانَ، فقال:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا أي: لا يخرُجون عن حُكمِها ولا يُبَدِّلونها ولا يُحَرِّفونها
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ أي: وكذلك الرَّبَّانيُّون منهم، وهم العُبَّادُ العُلَماءُ، والأحبارُ وهم العُلَماءُ
بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أي: بما استُودِعوا من كِتابِ اللهِ الذي أُمِروا أن يُظهِروه ويَعمَلوا به)
[58] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/117). .
وهي صُحُفُ موسى التي ذكرها اللهُ في القُرْآنِ الكريمِ بقَولِه:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 14- 19] .
وممَّن قال بأنَّ صحُفَ موسى عليه السَّلامُ هي التوراةُ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ
[59] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 165). ، والواحديُّ
[60] يُنظر: ((التفسير البسيط)) (21/ 65). ، وابنُ عَطِيَّةَ
[61] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/ 205). ، و
الشَّوكانيُّ
[62] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/ 137). ، و
ابنُ عاشور [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 129). .
وقال السَّمرقنديُّ: (قال بعضُهم: صُحُفُ مُوسى يعني: التوراةَ. وقال بعضُهم: هو كِتابٌ أُنزل عليه قبلَ التوراةِ)
[64] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/ 365). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/ 286). .
ثالِثًا: الإنجيلُ وهو كِتابُ اللهِ الذي أنزله على عيسى بنِ مَريمَ عليهما السَّلامُ.
قال اللهُ تعالى:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة: 46] .
قال
ابنُ كثير: (
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ أي: مُتَّبِعًا لها، غيرَ مُخالفٍ لِما فيها، إلَّا في القليلِ ممَّا بَيَّن لبني إسرائيلَ بَعضَ ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيحِ أنَّه قال لبني إسرائيلَ:
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] ؛ ولهذا كان المشهورُ من قَولَيِ العُلَماءِ أنَّ الإنجيلَ نَسَخ بعضَ أحكامِ التوراةِ.
وقَولُه:
وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي: وجعَلْنا الإنجيلَ
هُدًى يُهتَدى به،
وَمَوْعِظَةً أي: وزاجِرًا عن ارتكابِ المحارِمِ والمآثِمِ
لِلْمُتَّقِينَ أي: لِمَن اتقى اللهَ وخاف وعيدَه وعقابَه)
[65] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 126). .
وقال أيضًا: (عيسى عليه السَّلامُ أُنزِلَ عليه الإنجيلُ فيه مواعِظُ وترقيقاتٌ وقليلٌ من التحليلِ والتحريمِ، وهو في الحقيقةِ كالمتَمِّمِ لشريعةِ التوراةِ)
[66] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 302). .
رابعًا: الزَّبُورُوهو كِتابُ اللهِ الذي أنزله على داودَ عليه السَّلامُ.
قال اللهُ تعالى:
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء: 163] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا بفَتحِ الزَّاي على أنَّه اسمُ الكِتابِ الذي أُوتِيَه داودُ، كما سمَّى الكِتابَ الذي أوتِيَه موسى التوراةَ، والذي أوتِيَه عيسى الإنجيلَ، والذي أوتِيَه مُحَمَّدٌ الفُرقانَ؛ لأنَّ ذلك هو الاسمُ المعروفُ به ما أُوتيَ داودُ، وإنما تقولُ العَرَبُ: زَبُورُ داودَ، وبذلك يَعرِفُ كِتابَه سائرُ الأُمَمِ)
[67] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 688). .
وقال
السَّمعاني: (الزَّبورُ: فَعولٌ بمعنى المفعولِ، وهو الكِتابُ الذي أنزل اللهُ تعالى على داودَ، فيه التحميدُ، والتمجيدُ، وثناءُ اللهِ تعالى)
[68] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 502). .
وقال
البغَويُّ: (قرأ الآخَرون بفتحِ الزَّايِ، وهو اسمُ الكِتاب الذي أنزل اللهُ تعالى على داودَ عليه السَّلامُ، وكان فيه التحميدُ والتمجيدُ والثَّناءُ على الله عَزَّ وجَلَّ)
[69] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 722(. .
وقال
ابنُ كثير: (الزَّبورُ: اسمُ الكِتابِ الذي أوحاه اللهُ إلى داودَ عليه السَّلامُ)
[70] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/469). .
وقال
الشَّوكاني: (الزَّبُورُ: كِتابُ داودَ)
[71] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/ 620). .
وقال
السَّعديُّ: (آتى داودَ الزَّبُورَ، وهو الكِتابُ المعروفُ المزبورُ الذي خَصَّ اللهُ به داودَ عليه السَّلامُ؛ لفَضْلِه وشَرَفِه)
[72] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 214). .
خامسًا: القُرْآنُ العظيمُ وهو كِتابُ اللهِ الذي أنزله على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصَدِّقًا لِما تقَدَّمه من الكُتُبِ، ومُهَيمنًا عليها وناسِخًا لها، وهو آخِرُ كُتُبِ اللهِ نُزولًا، وأشرَفُها وأكمَلُها، وقد كانت دعوتُه لعامَّةِ الثَّقَلينِ من الإنسِ و
الجِنِّ.
قال
ابنُ جَريرٍ: (إنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه جمع لنبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولأمَّتِه بما أنزل إليه من كِتابِه معانيَ لم يجمَعْهنَّ بكِتابٍ أنزله إلى نبيٍّ قَبْلَه ولا لأُمَّةٍ مِن الأُمَمِ قَبْلَهم. وذلك أنَّ كُلَّ كِتابٍ أنزله جَلَّ ذِكْرُه على نبيٍّ من أنبيائِه قَبْلَه، فإنما أُنزِلَ ببَعضِ المعاني التي يحوي جميعَها كِتابُه الذي أنزله إلى نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ كالتوراةِ التي هي مواعِظُ وتفصيلٌ، والزَّبورِ الذي هو تحميدٌ وتمجيدٌ، والإنجيلِ الذي هو مواعِظُ وتذكيرٌ؛ لا مُعجِزةَ في واحدٍ منها تشهَدُ لمن أُنزِل إليه بالتصديقِ. والكِتابُ الذي أُنزِلَ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحوي معانيَ ذلك كُلِّه، ويزيدُ عليه كثيرًا من المعاني التي سائِرُ الكُتُبِ غيرُه منها خالٍ)
[73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 200). .
قال اللهُ تعالى:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (التوراةُ والإنجيلُ والقُرْآنُ جميعُها كلامُ اللهِ مع عِلمِ المُسلِمين بأنَّ القُرْآنَ أفضَلُ الكُتُبِ الثَّلاثةِ؛ قال تعالى:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] ، وقال تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، وقال تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] ، وقال تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] ، فأخبر أنَّه أحسَنُ الحديثِ؛ فدَلَّ على أنَّه أحسَنُ من سائرِ الأحاديثِ المُنَزَّلةِ من عند اللهِ وغيرِ المُنَزَّلةِ)
[74] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/ 11). .
وقال أيضًا عن القُرْآنِ: (إنَّه قَرَّر ما في الكُتُبِ المتَقَدِّمةِ من الخَبَرِ عن اللهِ وعن اليومِ الآخِرِ، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلًا، وبَيَّن الأدِلَّةَ والبراهينَ على ذلك، وقَرَّر نبُوَّةَ الأنبياءِ كُلِّهم ورسالةَ المُرسَلين، وقَرَّر الشَّرائعَ الكُلِّيَّةَ التي بُعِثَت بها الرُّسُلُ كُلُّهم، وجادل المكَذِّبين بالكُتُبِ والرُّسُلِ بأنواعِ الحُجَجِ والبراهينِ، وبَيَّن عُقوباتِ الله لهم ونَصْرَه لأهلِ الكُتُبِ المتَّبِعين لها، وبَيَّن ما حُرِّف منها وبُدِّل، وما فَعَله أهلُ الكِتابِ في الكُتُبِ المتقَدِّمةِ، وبَيَّن أيضًا ما كَتَموه ممَّا أمر اللهُ ببيانِه، وكُلَّ ما جاءت به النبُوَّاتُ بأحسَنِ الشَّرائعِ والمناهِجِ التي نزل بها القُرْآنُ؛ فصارت له الهَيمنةُ على ما بَيْنَ يَدَيه من الكُتُبِ مِن وُجوهٍ مُتعَدِّدةٍ، فهو شاهِدٌ بصِدْقِها، وشاهِدٌ بكَذِبِ ما حُرِّف منها، وهو حاكِمٌ بإقرارِ ما أقَرَّه اللهُ، ونَسْخِ ما نسخَه؛ فهو شاهِدٌ في الخَبَريَّاتِ حاكِمٌ في الأَمْريَّاتِ.
وكذلك معنى «الشَّهادةِ» و «الحُكمِ» يتضَمَّنُ إثباتَ ما أثبته اللهُ مِن صِدقٍ ومُحكَمٍ، وإبطالَ ما أبطله من كَذِبٍ ومَنسوخٍ، وليس الإنجيلُ مع التوراةِ ولا الزَّبورِ بهذه المثابةِ، بل هي مُتَّبِعةٌ لشريعةِ التوراةِ إلَّا يسيرًا نسخه اللهُ بالإنجيلِ، بخلافِ القُرْآنِ. ثم إنَّه مُعجِزٌ في نَفْسِه لا يَقدِرُ الخلائقُ أن يأتوا بمِثْلِه؛ ففيه دعوةُ الرَّسولِ، وهو آيةُ الرَّسولِ وبُرهانُه على صِدْقِه ونُبُوَّتِه، وفيه ما جاء به الرَّسولُ، وهو نَفسُه بُرهانٌ على ما جاء به، وفيه أيضًا من ضَرْبِ الأمثالِ وبَيانِ الآياتِ على تفضيلِ ما جاء به الرَّسولُ ما لو جُمِع إليه علومُ جميعِ العُلَماءِ لم يكُنْ ما عندهم إلَّا بعضَ ما في القُرْآنِ. ومن تأمَّل ما تكَلَّم به الأوَّلون والآخِرون في أصولِ الدِّينِ والعُلومِ الإلَهيَّةِ وأُمورِ المعادِ والنُّبُوَّاتِ والأخلاقِ والسِّياساتِ والعباداتِ وسائِرِ ما فيه كَمالُ النُّفوسِ وصلاحُها وسعادتُها ونجاتُها؛ لم يجِدْ عند الأوَّلين والآخِرين من أهلِ النُّبُوَّاتِ ومِن أهلِ الرَّأيِ، كالمتفَلْسِفة وغَيرِهم إلَّا بعضَ ما جاء به القُرْآنُ؛ ولهذا لم تحتَجِ الأمَّةُ مع رسولِها وكِتابِها إلى نبيٍّ آخَرَ وكِتابٍ آخَرَ؛ فضلًا عن أن تحتاجَ إلى شَيءٍ لا يستقِلُّ بنفسِه غَيرِه، سواءٌ كان من عِلمِ المُحَدَّثينَ والمُلْهَمينَ أو من علمِ أربابِ النَّظَرِ والقياسِ الذين لا يعتَصِمون مع ذلك بكِتابٍ مُنَزَّلٍ مِنَ السَّماءِ)
[75] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/ 44). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قال تعالى:
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] . فمن بلغه هذا القُرْآنُ من عَرَبٍ وعَجَمٍ، وأسوَدَ وأحمَرَ، وإنسٍ وجانٍّ؛ فهو نذيرٌ له؛ ولهذا قال تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] . فمن كَفَر بالقُرْآنِ ممَّن ذكَرْنا فالنَّارُ مَوعِدُه بنَصِّ الله تعالى، وكما قال تعالى:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ [القلم: 44، 45].
وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "بُعِثْتُ إلى الأحمَرِ والأسوَدِ"
[76] أخرجه مسلم (521) باختلافٍ يسيرٍ مُطَوَّلًا من حَديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. . قال مجاهِدٌ: يعني: الإنسَ و
الجِنَّ. فهو صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه رسولُ اللهِ إلى جميعِ الثَّقَلينِ؛ الإنسِ و
الجِنِّ، مُبَلِّغًا لهم عن اللهِ ما أوحاه إليه من هذا الكِتابِ العزيزِ الذي
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42])
[77] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 5). .
وقال
ابنُ رجبٍ: (قَولُه تعالى:
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [آل عمران: 164] يعني: يتلو عليهم ما أنزله اللهُ عليه من آياتِه المتلُوَّةِ، وهو القُرْآنُ، وهو أعظَمُ الكُتُبِ السَّماويَّةِ، وقد تضمَّن من العلومِ والحِكَمِ والمواعِظِ والقَصَصِ والترغيبِ والترهيبِ، وذِكْرِ أخبارِ من سبق وأخبارِ ما يأتي من البَعثِ والنُّشورِ والجنَّةِ والنَّارِ؛ ما لم يشتَمِلْ عليه كِتابٌ غيرُه، حتى قال بعضُ العُلَماءِ: لو أنَّ هذا الكِتابَ وُجِد مكتوبًا في مُصحَفٍ في فلاةٍ مِن الأرضِ ولم يُعلَمْ من وضعه هناك، لشهدت العقولُ السليمةُ أنَّه مُنَزَّلٌ من عند اللهِ، وأنَّ البشَرَ لا قُدرةَ لهم على تأليفِ ذلك، فكيف إذا جاء على يدَيْ أصدَقِ الخَلقِ وأبَرِّهم وأتقاهم، وقال: إنَّه كلامُ اللهِ، وتحدى الخَلْقَ كُلَّهم أن يأتوا بسورةٍ مِثْلِه فعجزوا فيه؟! فكيف مع هذا شَكٌّ؟! ولهذا قال تعالى:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] ، وقال:
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] فلو لم يكن لمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من المعجزاتِ الدَّالَّةِ على صِدْقِه غيرُ هذا الكِتاب لكفاه)
[78] يُنظر: ((لطائف المعارف)) (ص: 84). .
فوجب إذَنِ الاعتقادُ الجازمُ بنَسخِ القُرْآنِ لجَميعِ الكُتُبِ والصُّحُفِ التي أنزلها اللهُ على رُسُلِه، وأنَّه لا يَسَعُ أحدًا من الإنسِ أو
الجِنِّ، لا من أصحابِ الكُتُبِ السَّابقةِ، ولا من غيرِهم، أن يَعبُدوا اللهَ بعد نُزولِ القُرْآنِ بغيرِ ما جاء فيه، أو يتحاكَموا إلى غيرِه.
قال
حافِظٌ الحكَميُّ فيما يَتضَمَّنُه معنى
الإيمانِ بالكُتُبِ: (... وأنَّه لا يأتي كِتابٌ بَعْدَه، ولا مُغَيِّرَ ولا مُبَدِّلَ لشَيءٍ من شرائعِه بَعْدَه، وأنه ليس لأحدٍ الخروجُ عن شيءٍ من أحكامِه، وأنَّ من كَذَّب بشَيءٍ منه من الأُمَمِ الأولى فقد كَذَّب بكِتابِه، كما أنَّ من كذَّب بما أخبر عنه القُرْآنُ من الكُتُبِ فقد كذَّب به، وأنَّ من اتَّبَع غيرَ سَبيلِه ولم يقتَفِ أثَرَه، ضَلَّ)
[79] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/672-675). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (أمَّا الأحكامُ فما جاءت شريعتُنا بخلافِه، فالعَمَلُ على ما جاءت به شريعتُنا؛ لأنَّه منسوخٌ، وأمَّا ما لا يخالِفْ شريعتَنا فاختلف العُلَماءُ في العَمَلِ به، والصحيحُ أنَّه يُعمَلُ به؛ وبسْطُ ذلك في أصولِ الفِقهِ)
[80] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/445). .