الْمَبحَثُ الخامسَ عَشَرَ: عَودةُ البَشَريَّةِ إلى الجاهِليَّةِ وعِبادةِ الأوثانِ
عَن
عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهما قال:
((يُرسِلُ اللهُ ريحًا بارِدةً مِن قِبَلِ الشَّامِ، فلا يَبقى على وجهِ الأرضِ أحَدٌ في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن خَيرٍ أو إيمانٍ إلَّا قَبَضتْه، حَتَّى لَو أنَّ أحَدَكم دَخلَ في كَبِدِ جَبَلٍ لدَخلَتْه عليه حَتَّى تَقبِضَه)). قال: سَمِعتُها مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال:
((فيَبقى شِرارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيرِ وأحلامِ السِّباعِ، لا يَعرِفونَ مَعروفًا، ولا يُنكِرونَ مُنكَرًا، فيَتَمَثَّلُ لَهم الشَّيطانُ، فيَقولُ: ألَا تَستَجيبونَ؟ فيَقولونَ: فما تَأمُرنا؟ فيَأمُرُهم بعِبادةِ الأوثانِ، وهم في ذلك دارٌّ رِزْقُهم، حَسَنٌ عَيشُهم، ثُمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ... )) [1993] أخرجه مسلم (2940). .
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (
((قَولُه: لَو أنَّ أحَدَكم دَخلَ في كَبِدِ جَبَلٍ))... وهو مَثَلٌ قُصِدَ به الإغياءُ، وكَبِدُ الشَّيءِ: داخِلُه.
وقَولُه:
((ويَبقى شِرارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيرِ وأحلامِ السِّباعِ)) أي: هم في مُسارَعَتِهم وخِفَّتِهم إلى الشُّرورِ وقَضاءِ الشَّهَواتِ وغَلَبةِ الأهواءِ، كالطَّيرِ لخِفَّةِ طَيَرانِه، وهم في الإفسادِ والعُدوانِ كالسِّباعِ العادِيَةِ)
[1994] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 302). .
وقال
علي القاري: (
((ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ ريحًا بارِدةً مِن قِبَلِ الشَّامِ)): بكَسرٍ ففَتحٍ، أي: جانِبِه
((فلا يَبقى على وجهِ الأرضِ أحَدٌ في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن خَيرٍ أو إيمانٍ)): الظَّاهِرُ أنَّ أو للشَّكِّ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ للتَّخييرِ في التَّعبيرِ،
((إلَّا قَبَضَتْه)): إلَّا أخَذَت رُوحَه تِلكَ الرِّيحُ
((حَتَّى لَو أنَّ أحَدَكم دَخلَ)) أي: فرضًا وتَقديرًا على الْمُبالَغةِ
((في كبِدِ جَبَلٍ)) أي: وسَطِه وجوفِه، ومِنه كَبِدُ السَّماءِ: وسَطُها
((لدَخلَتْه)) أي: كبِدَ الجَبَلِ
((عليه)) أي: على أحَدِكم
((حَتَّى تَقبِضَه)). قال:
((فيَبقى شِرارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيرِ)) بكَسرِ الخاءِ الْمُعْجَمةِ وتَشديدِ الفاءِ. قال القاضي رَحِمُه الله: الْمُرادُ بخِفَّةِ الطَّيرِ اضطِرابُها وتَنفُّرُها بأدنى تَوَهُّمٍ، شَبَّه حالَ الأشرارِ في تَهتُّكِهم وعَدَمِ وقارِهم وثَباتِهم، واختِلالِ رَأيِهم، ومَيلِهم إلى الفُجورِ والفَسادِ، بحالِ الطَّيرِ.
((وأحلامِ السِّباعِ)) أي: وفي عُقولِها النَّاقِصةِ، جَمعُ حُلْمٍ بالضَّمِّ، أو جَمعُ حِلمٍ بالكَسرةِ، ففيه إيماءٌ إلى أنَّهم خالون عَنِ العِلمِ والحِلمِ، بَلِ الغالِبُ عليهم الطَّيشُ والغَضَبُ والوَحشةُ والإتلافُ والإهلاكُ وقِلَّةُ الرَّحمةِ،
((لا يَعرِفونَ مَعروفًا، ولا يُنكِرونَ مُنكَرًا)): بَل يَعكِسونَ فيما يَفعَلونَ،
((فيَتَمَثَّلُ لَهم الشَّيطانُ)) أي: يَتَصَوَّرُ لَهم بصورةِ إنسانٍ، فكان التَّشَكُّلُ أقوى على التَّسَلُّطِ في الضَّلالةِ مِن طَريقِ الوَسْوَسةِ؛ ولِذا قَدَّمَ اللهُ سُبحانَه شياطينَ الإنسِ في قَولِه:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] ،
((فيَقولُ: ألَا تَستَحْيُونَ؟)) أي: مِنَ اللهِ في تَركِ عِبادَتِه و
التَّوَسُّلِ إلى مَقامِ قُربَتِه؟
((فيَقولونَ: فماذا تَأمُرنا؟)) أي: به، نَمتَثِلُه، فما مَوصولةٌ أوِ استِفهاميَّةٌ، فالمَعنى: فأيُّ شَيءٍ تَأمُرُنا لنُطيعَكَ فيه؟
((فيَأمُرُهم بعِبادةِ الأوثانِ)) أي: تَوَسُّلًا إلى رِضا الرَّحمَنِ، كما قال تعالى مُخبِرًا عَنهم:
ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزُّمَر: 3] ،
وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ،
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة: 37] ،
((وهم في ذلك)) أي: والحالُ أنَّهم فيما ذُكِرَ مِنَ الأوصافِ الرَّديئةِ والعِباداتِ الوَثنيَّةِ
((دارٌّ)): بتَشديدِ الرَّاءِ، أي: كثيرٌ
((رِزْقُهم، حَسَنٌ عَيشُهم)): فالأوَّلُ إشارةٌ إلى الكَمِّيَّةِ، والثَّاني إلى الكَيفيَّةِ، أوِ الأوَّلُ إيماءٌ إلى كثرةِ الأمطارِ، وما يَتَرَتَّبُ عليه مِنَ الأنهارِ، وإثمارِ الأشجارِ، والثَّاني مِن جِهةِ الأمنِ وعَدَمِ الظُّلمِ، وكَثرةِ الصِّحَّةِ، والغِنى بالمالِ والجاهِ)
[1995] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3502). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَضطَرِبَ أَلَياتُ نِساءِ دَوسٍ على ذي الخَلَصَةِ )) [1996] أخرجه البخاري (7116) واللَّفظُ له، ومسلم (2906). .
قال الكرمانيُّ: (مَعناه: لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَضطَرِبَ، أي: تَتَحَرَّكَ أعجازُ نِسائِهم مِنَ الطَّوافِ حَولَ ذي الخَلَصةِ، أي: يَكفُرْنَ ويَرجِعْنَ إلى عِبادةِ الأصنامِ)
[1997] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (24/ 181). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: حَتَّى تَضطَرِبَ، أي: يَضرِبُ بَعضُها بَعضًا: قَولُه: أَلَيات -بفَتحِ الهَمزةِ واللَّامِ- جَمعُ ألْيةٍ -بالفَتحِ أيضًا- مِثلِ جَفْنةٍ وجَفَناتٍ، والألْيَةُ: العَجيزةُ، وجَمعُها أعجازٌ، قَولُه: على ذي الخَلَصةِ، في رِوايةٍ مَعْمَرٍ عَنِ
الزُّهريِّ عِندَ
مُسْلِمٍ: حَولَ ذي الخَلَصةِ
[1998] أخرجها مسلم (2906). . قَولُه: وذو الخَلَصةِ: طاغيَةُ دَوسٍ، أي: صَنَمُهم. وقَولُه: الَّتي كانوا يَعبُدونَ. كذا فيه بحَذفِ الْمَفعولِ، ووَقَعَ في رِوايةٍ مَعْمَرٍ: وكان صَنَمًا تَعبُدُها دَوسٌ
[1999] أخرجها مسلم (2906). ... قال ابنُ التِّينِ: فيه الإخبارُ بأنَّ نِساءَ دَوسٍ يَرْكبْنَ الدَّوابَّ مِنَ البُلدانِ إلى الصَّنمِ الْمَذكورِ، فهو الْمُرادُ باضطِرابِ أَلَياتِهِنَّ. قُلتُ: ويَحتَمِلُ أن يَكونَ الْمُرادُ أنَّهُنَّ يَتَزاحَمْنَ بحَيثُ تَضرِبُ عَجيزةُ بَعضِهِنَّ الأُخرى عِندَ الطَّوافِ حَولَ الصَّنمِ الْمَذكورِ)
[2000] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 76). .
وقال
السَّخاويُّ: (آخِرُ الآياتِ الْمُؤذِنُ بقيامِ السَّاعةِ هُبوبُ تِلكَ الرِّيحِ، ولَعَلَّ هذا هو الوَقتُ الْمَشارُ إليه بقَولِه:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَرجِعَ ناسٌ مِن أمَّتي إلى عِبادةِ الأوثانِ مِن دونِ اللهِ تعالى)). وفي لَفظٍ:
((لا يَذهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حَتَّى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى، إنَّ الله يَبعَثُ ريحًا طَيِّبةً فيتَوَفَّى كُلَّ مَن في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ مِن إيمانٍ، فيَبقى مِن لا خَيرَ فيه، فيَرجِعونَ إلى دينِ آبائِهم )). ونَحوه:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَضطَرِبَ أَلَياتُ -أي: أعجازُ- نِساءِ دَوسٍ على ذي الخَلَصةِ)). يَعني: صَنَمَ دَوسٍ الَّتي كانت تَعبُدُه في الجاهِليَّةِ. وفي لَفظٍ:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَتَدافَعَ مَناكِبُ نِساءِ بني عامِرٍ على ذي الخَلَصةِ)) [2001] يُنظر: ((القناعة فيما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة)) (ص: 70). .
وعَن
عائِشةَ رَضِيَ الله عَنها قالت: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((لا يَذهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حَتَّى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى)). فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إن كُنتُ لأظُنُّ حينَ أنزَلَ اللهُ:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] أنَّ ذلك تامًّا: قال:
((إنَّه سَيَكونُ مِن ذلك ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ ريحًا طَيِّبةً فتَوَفَّى كُلَّ مَن في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن إيمانٍ، فيَبقى مَن لا خَيرَ فيه، فيَرجِعونَ إلى دينِ آبائِهم )) [2002] أخرجه مسلم (2907). .
قال ابنُ الْمَلكِ الكرمانيُّ: (
((لا يَذهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ)) أي: لا تَقومُ السَّاعةُ.
((حَتَّى تُعبَدَ اللَّاتُ)): وهو اسمُ صَنَمٍ لثَقيفٍ.
((والعُزَّى)) بضَمِّ العين الْمُهمَلةِ وفَتحِ الزَّايِ الْمُعجَمةِ الْمُشَدَّدةِ: اسمُ صَنَمٍ لغَطَفانٍ وسليمٍ.
((فقُلتُ: يا رَسولَ الله ...)) أي: أنَّ عِبادةَ الأصنامِ قَد تَمَّت، ولا تَكونُ كذلك بَعدُ أبَدًا ...
((سَيَكونُ من ذلك)) أي: من عِبادَتِها.
((ما شاءَ الله تعالى)) أي: مُدَّةً يَشاءُها، وقَد بيَّنَ ذلك بقَولِه:
((ثُمَّ بَعثَ اللهُ ريحًا طَيبةً؛ فيتَوفَّى كُلَّ من كان في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ من خَردَلٍ من إيمانٍ، فيَبقى من لا خَيرَ فيه، فيَرجِعونَ إلى دينِ آبائِهم)) الْمُشرِكين)
[2003] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (6/ 14). .
وعَن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَلحَقَ قَبائِلُ من أمَّتي بالمُشرِكينَ، وحَتَّى تَعبُدَ قَبائِلُ من أمَّتي الأوثانَ)) [2004] أخرجه مُطَولًا أبو داود (4252)، وأحمد (22452) واللَّفظُ لهما، وابن ماجه (3952) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (7238)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (8390)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (105). وذكَرَ ثُبوتَه أبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (2/328) من حديث أيوب عن أبي قلابة. وقال: وفيه ألفاظ تفرَّد بها عن النبي ثوبان، وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/142): محفوظ من غير وجه. .
وفي رِوايةٍ:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَلحَقَ قَبائِلُ من أمَّتي بالمُشرِكينَ، وحَتَّى يَعبُدوا الأوثانَ )) [2005] أخرجها الترمذي (2219)، والطيالسي (1084)، وابن أبي عاصم في ((الديات)) (ص18) مُطَولًا. صحَّحها الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2219). .
قال ابنُ رَسلان: (واحِدُ القَبائِلِ قَبيلةٌ، وهم بُنو أبٍ أو جَدٍّ وإنْ عَلا
((بالمُشرِكينَ)) أي: يَنزِلونَ بهم فيصيرونَ مِنهم بالرِّدةِ ونَحوِها
((وحَتَّى تَعبُدَ قَبائِلُ من أمَّتي الأوثانَ)) كما كانت تَعبُدُها في الجاهِليَّةِ، وقَدِ ارتَدَّ قَبائِلُ في خِلافةِ
أبي بَكرٍ، حَتَّى لَم يَكُن يُسجَدُ للهِ تعالى في بَسيطِ الأرضِ إلَّا في ثَلاثةِ مَساجِدَ: مَسجِدِ مَكةَ، ومَسجِدِ الْمَدينةِ، ومَسجِدِ عَبدِ القَيسِ في البَحرينِ)
[2006] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) (16/ 673). .
وقال
علي القاري: (
((ولا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تَلحَقَ قَبائِلُ من أمَّتي بالمُشرِكينَ)) مِنها ما وقَعَ بَعدَ وفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في خِلافةِ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عَنه.
((وحَتَّى تَعبُدَ قَبائِلُ من أمَّتي الأوثانَ)) أيِ: الأصنامَ حَقيقةً، ولَعَلَّه يَكونُ فيما سيَأتي، أو مَعنًى، ومِنه:
((تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ وعَبدُ الدِّرْهَمِ )) [2007]أخرجه البخاري (2887) مُطَولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2008]يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3401). .
وفي رِوايةٍ أخرى:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَلحَقَ حَيٌّ من أمَّتي بالمُشرِكينَ، وحَتَّى تَعبُدَ فِئامٌ من أمَّتي الأوثانَ)) [2009]أخرجها أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/289) مُطَولًا باختلافٍ يسيرٍ. ذكر ثبوته أبو نعيم من حديث أيوب عن أبي قلابة. وقال: وفيه ألفاظ تفرَّد بها عن النبي ثوبان. والحديث أخرجه من طرق مُطَولًا أبو داود (4252)، والترمذي (2219)، وابن ماجه (3952) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (7238)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (8390). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (قَولُه:
((ولا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَلحَقَ حَيٌّ من أمَّتي بالمُشرِكينَ)) الحَيُّ: بمَعنى القَبيلةِ. وهَلِ الْمُرادُ باللُّحوقِ هنا اللُّحوقُ البَدَنيُّ، بمَعنى أنَّه يَذهَبُ هذا الحَيُّ إلى الْمُشرِكينَ ويَدخُلونَ فيهم، أوِ اللُّحوقُ الحُكْميُّ، بمَعنى أن يَعمَلوا بعَمَلِ الْمُشرِكينَ، أوِ الأمرانِ مَعًا؟ الظَّاهِرُ أنَّ الْمُرادَ جَميعُ ذلك. وأمَّا الحَيُّ فالظَّاهِرُ أنَّ الْمُرادَ به الجِنسُ، ولَيسَ واحِدَ الأحياءِ، وإن قيلَ: إنَّ الْمُرادَ واحِدُ الأحياءِ فلا بُدَّ أن يَكونَ لهذا الحَيِّ أثَرُه وقيمَتُه في الأمَّة الإسلاميَّةِ، بحَيثُ يَتَبَيَّنُ ويَظهَرُ، ورُبَّما يَكونُ لهذا الحَيِّ إمامٌ يَزيغُ -والعياذُ باللهِ- ويَفسُدُ، فيَتَّبِعُه كُلُّ الحَيِّ، ويَتَبَيَّنُ ويَظهَرُ أمرُه. قَولُه:
((وحَتَّى تَعبُدَ فِئامٌ من أمَّتي الأوثانَ)) الفِئامُ أيِ: الجَماعاتُ، وهذا وقَعَ؛ ففي كُلِّ جِهةٍ من جِهاتِ الْمُسْلِمينَ مَن يَعبُدونَ القُبورَ، ويُعظِّمونَ أصحابَها، ويَسألونَهم الحاجاتِ والرَّغَباتِ، ويَلتَجِئونَ إليهم، وفِئامٌ، أي: لَيسوا أحياءً؛ فقَد يَكونُ بَعضُهم من قَبيلةٍ، والبَعضُ الآخَرُ من قَبيلةٍ فيَجتَمِعونَ)
[2010] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/ 478). .
وقال حُمُود التُّوَيجريُّ: (قَد ظَهَرَ مِصداقُ هَذِه الأحاديثِ، فخَرجَ النَّاسُ من دينِ الله أفواجًا، وعَظُمَتِ الفِتنةُ بالقُبورِ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها، واتُّخِذَ كثيرٌ مِنها أوثانًا تُعبَدُ من دونِ اللهِ، وعَظُمَتِ الفِتنةُ أيضًا بالِاشتِراكيَّةِ الشُّيوعيَّةِ والحُكْمِ بالقَوانينِ الوَضعيَّةِ؛ فإنَّا للَّه وإنَّا إليه راجِعونَ!)
[2011] يُنظر: ((إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)) (2/ 225). .
وفي آخِرِ الزَّمانِ تُهدَمُ الكَعبةُ على يَدِ ذي السُّويقَتينِولَم يَأتِ نَصٌّ نَبَويٌّ صَريحٌ يُخبِرُ بأنَّ هَدْمَ الكَعبةِ عَلامةٌ مُستَقِلَّةٌ من
أشراطِ السَّاعةِ، وبَعضُ أهلِ العِلمِ حَملوا ذلك على وُقوعِه في آخِرِ الزَّمانِ حَيثُ لا يُقالُ في الأرضِ: اللهُ اللهُ، وتَقومُ السَّاعةُ على شِرارِ الخَلقِ.
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يُخربُ الكَعبةَ ذو السُّويقَتينِ مِنَ الحَبَشةِ )) [2012] أخرجه البخاري (1591)، ومسلم (2909). .
قال عياضٌ: (هذا الحَديثُ وشِبهُه لا يُعارِضُ قَولَه تعالى:
حَرَمًا آمِنًا، فمَعنى ذلك إلى هذا الحينِ، وهو قُربُ السَّاعةِ وخَراب الدُّنيا، بدَليلِ الحَديثِ الآخَرِ:
((ليُحَجَّنَّ البَيتُ بَعدَ يَأجوجَ ومَأجوجَ )) [2013] أخرجه البخاري (1593) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: ((ليحجن البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)) . وذَهَبَ بَعضُهم أنَّ مَعنى
آمِنًا إلَّا ما قَدَّره اللهُ من قَضيَّةِ هذا الحَبشيِّ، ثُمَّ يَرجِعُ الأمرُ إليه كما كان، والأوَّلُ عِندي أظهَرُ)
[2014] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 454). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (
((قَولُه: يُخربُ الكَعبةَ ذو السُّويقَتين مِنَ الحَبشةِ))... السُّويقَتانِ: تَصغيرُ السَّاقين، وإحداهما سُوَيقةٌ، وصَغَّرَهما لدِقَّتِهما ورِقَّتِهما، وهيَ صِفةُ سُوقِ الحَبشةِ غالِبًا، وقَد وصَفَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثٍ آخَرَ بقَولِه: كأنِّي به أسوَدُ أفحَجُ، يَقلَعُها حَجَرًا حَجَرًا
[2015] أخرجه البخاري (1595) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. . والفَحجُ: تَباعُدُ ما بينَ السَّاقين، ولا يُعارِضُ هذا قَولُه تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؛ لأنَّ تَخريبَ الكَعبةِ على يَدَيْ هذا الحَبشيِّ إنَّما يَكونُ عِندَ خَرابِ الدُّنيا، ولَعَلَّ ذلك في الوَقتِ الذي لا يَبقى إلَّا شِرارُ الخَلقِ، فيَكونُ حَرمًا آمِنًا مَعَ بَقاءِ الدِّينِ وأهلِه، فإذا ذَهَبوا ارتَفَعَ ذلك الْمَعنى.
قُلتُ: وتَحقيقُ الجَوابِ عَن ذلك أنَّه لا يَلزَمُ من قَولِه تعالى:
أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا أن يَكونَ ذلك دائِمًا في كُلِّ الأوقاتِ، بَل إذا حَصَلَت لَه حُرمةٌ وأمنٌ في وقتٍ ما، فقَد صَدَقَ اللَّفظُ وصَحَّ الْمَعنى، ولا يُعارِضُه ارتِفاعُ ذلك الْمَعنى في وقتٍ آخَرَ، فإنْ قيلَ: فقَد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الله أحَلَّ لي مَكَّةَ ساعةً من نَهارٍ، ثُمَّ عادَت حُرَمتُها إلى يَومِ القيامةِ
[2016] أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354) باختلافٍ يسيرٍ مُطَولًا من حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه. . قُلنا: أمَّا الحُكمُ بالحُرمةِ والأمنِ فلَم يَرتَفِع، ولا يَرتَفِعُ إلى يَومِ القيامةِ؛ إذ لَم يُنسَخْ ذلك بالإجماعِ، وأمَّا وُقوعُ الخَوفِ فيها وتَركُ حُرمَتِها، فقَد وُجِدَ ذلك كثيرًا، ويَكفيكَ بُعوثُ
يَزيدَ بنِ مُعاويةَ، وجُيوشُ عَبدِ الْمَلِكِ، وقِتالُ
الحَجَّاجِ ل
عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، وغَيرُ ذلك ممَّا جَرى لَها، وما فُعِلَ فيها من إحراقِ الكَعبةِ ورَميِها بحِجارةِ الْمنْجَنيقِ)
[2017] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 245). .
وقال الْمظهريُّ: (قَولُه:
((يُخربُ الكَعبةَ ذو السُّويقَتين مِنَ الحَبَشةِ)) يَعني: يُخربُ الكَعبةَ في آخِرِ الزَّمانِ مَلِكٌ كافِرٌ مِنَ الحَبَشةِ.
((السُّويقَتين)): تَثنيةٌ، واحِدَتُها: سُوَيقةٌ، وهيَ تَصغيرُ ساقٍ... وإنَّما صَغَّرَ ساقَيه لأنَّ ساقَيه دَقيقَتانِ قَصيرَتانِ)
[2018] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (3/ 362). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قيلَ: هذا الحَديثُ يُخالِفُ قَولَه تعالى:
أَوْ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ولِأنَّ اللهَ حَبسَ عَن مَكَّةَ الفيلَ ولَم يُمكِّنْ أصحابَه من تَخريبِ الكَعبةِ ولَم تَكُنْ إذ ذاكَ قِبلةٌ، فكَيفَ يُسَلِّطُ عليها الحَبشةَ بَعدَ أن صارَت قِبلةً للمُسْلِمينَ؟ وأجيبَ بأنَّ ذلك مَحمولٌ على أنَّه يَقَعُ في آخِرِ الزَّمانِ قُربَ قيامِ السَّاعةِ؛ حَيثُ لا يَبقى في الأرضِ أحَدٌ يَقولُ: اللهُ اللهُ: كما ثَبَتَ في صَحيحِ
مُسْلِمٍ:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى لا يُقالَ في الأرضِ: اللهُ اللهُ )) [2019] أخرجه مسلم (148) من حديث أنس رضي الله عنه. ؛ ولِهذا وقَعَ في رِوايةِ سَعيدِ بنِ سمعانَ: لا يَعمُرُ بَعدَه أبَدًا
[2020] أخرجها أحمد (8619)، وابن حبان (6827)، والحاكم (8395) مُطَولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1345)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7910)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8619)، وجوَّدها ابن تيمية في ((شرح البخاري)) (11/333). . وقَد وقَعَ قَبلَ ذلك فيه مِنَ القِتالِ وغَزوِ أهلِ الشَّامِ لَه في زَمَنِ
يَزيدَ بن مُعاويةَ، ثُمَّ من بَعدِه في وقائِعَ كثيرةٍ مِن أعظَمِها وقعةُ القَرامِطةِ بَعدَ الثَّلاثِمِائةِ، فقَتَلوا مِنَ الْمُسْلِمينَ في الْمَطافِ من لا يُحصى كثرةً وقَلَعوا الحَجَرَ الأسوَدَ فحوَّلوه إلى بلادِهم ثُمَّ أعادوه بَعدَ مُدَّةٍ طَويلةٍ، ثُمَّ غُزِيَ مِرارًا بَعدَ ذلك، وكُلُّ ذلك لا يُعارِضُ قَولَه تعالى:
أَوْ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا؛ لأنَّ ذلك إنَّما وقَعَ بأيدي الْمُسلِمين، فهو مُطابِقٌ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ولَن يَستَحِلَّ هذا البَيتَ إلَّا أهلُه )) [2021] أخرجه أحمد (8619)، وابن حبان (6827)، والحاكم (8395) مُطَولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1345)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7910)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8619)، وجوَّدها ابن تيمية في ((شرح البخاري)) (11/333). ، فوَقَعَ ما أخبَرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو من عَلاماتِ نُبوَّتِه، ولَيسَ في الآيةِ ما يَدُلُّ على استِمرارِ الأمنِ الْمَذكورِ فيها: واللهُ أعلَمُ)
[2022] يُنظر: ((فتح الباري)) (3/ 461). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يُبايَعُ لرَجُلٍ ما بينَ الرُّكنِ والمَقامِ، ولَن يَستَحِلَّ البَيتَ إلَّا أهلُه، فإذا استَحلُّوه فلا يسألُ عَن هَلَكةِ العَربِ، ثُمَّ تَأتي الحَبشةُ فيُخربونَه خَرابًا لا يَعمُرُ بَعدَه أبَدًا، وهم الذينَ يَستَخرِجونَ كنزَه )) [2023] أخرجه أحمد (7910) واللَّفظُ له، وابن حبان (6827)، والحاكم (8395). صحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1345)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7910)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7910)، وجودها ابن تيمية في ((شرح البخاري)) (11/333). .
إنَّ فِكرةَ هَدْمِ الكَعبةِ كانت في الْماضي من نَصيبِ أهلِ الحَبشةِ أيَّامَ أبرَهةَ ولَم يَتِمَّ لَهم ذلك، وفي آخِرِ الزَّمانِ يَتِمُّ هَدمُ البَيتِ على يَدِ الحَبَشةِ أنفُسِهم، ولَعَلَّ لَهم -واللهُ أعلمُ- دَوافِعَ شَبيهةً بدَوافِعِ أبرَهةَ؛ حَيثُ تَعودُ الجاهِليَّةُ سِيرَتَها الأُولى.
وبِهَدْمِ أوَّلِ بَيتٍ وُضِعَ للنَّاسِ تَنهَدِمُ مَعاني بَقاءِ البَشَريَّةِ على الأرضِ، فتَتَسارَعُ أحداثُ النِّهايةِ بَعدَ ذلك. واللهُ تعالى أعلَمُ
[2024] يُنظر: ((الموسوعة في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)) لمحمد المبيّض (ص: 837). .