المَبحَثُ الأوَّلُ: أحوالُ النَّاسِ يَومَ القيامةِ
قال اللهُ تعالى:
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ [المؤمنون:101] .
قال
السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى:
فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي: لا أنسابَ يَتَفاخَرونَ ويَتَواصَلونَ بها، وأمَّا أصلُ الأنسابِ فباقيةٌ.
وقَولُه:
ولا يَتَساءَلونَ أي: لا يَسألُ بَعضُهم بَعضًا سُؤالَ تَواصُلٍ، فإنْ قيلَ: أليسَ أنَّ اللهَ تعالى قال:
فأقبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلونَ؟ الجَوابُ: ما رُوِيَ عن
ابنِ عَباسٍ أنَّه قال: يَومُ القيامةِ مَواطِنُ وتاراتٌ؛ ففي موطِنٍ يَشتَدُّ عليهمُ الخَوفُ «فتَذهَلُ» عُقولُهم، فلا يَتَساءَلونَ، وفي مَوضِعٍ يُفيقونَ إفاقةً فيَتَساءَلونَ)
[3232] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 491). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (
فلا أنسابَ بينَهم يومَئِذٍ ولا يَتَساءَلونَ يَعنِي بَعدَ أن يُبعَثوا من قُبورِهم لا تَنفَعُهمُ الأنسابُ والقَراباتُ
ولا يَتَساءَلونَ لا يَسألُ بَعضُهم عن بَعضٍ... فالأنسابُ في ذلك الوَقتِ لا تَنفَعُ، والقَراباتُ لا يَتَساءَلونَ عن بَعضِهم، بينَما في الدُّنيا يَسألُ بَعضُهم عن بَعضٍ، ما الذي حَصَلَ لهذا؟ ما الذي حَصَلَ لهذا؟ ماذا فعَلَ فُلانٌ؟ أمَّا في الآخِرةِ فـ
لكُلِّ امرِئٍ منهم يومَئِذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] )
[3233] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 447). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:10] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
ولا يَسألُ حَميم حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ أي: لا يَسألُ القَريبُ عن حالِه، وهو يَراه في أسوَأِ الأحوالِ، فتَشغَلُه نَفسُه عن غَيرِه. قال العَوفيُّ عن
ابنِ عَباسٍ: يَعرِفُ بَعضُهم بَعضًا، ويَتَعارَفونَ بينَهم، ثُمَّ يَفِرُّ بَعضُهم من بَعضٍ بَعدَ ذلك، يَقولُ:
لكُلِّ امرِئٍ منهم يومَئِذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ)
[3234] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 224). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ:
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34] .
عن قتادةَ أنَّه قال في قَولِ الله عزَّ وجَلَّ:
يَومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِه وَبَنِيهِ [عبس: 34 – 36]: يَفِرُّ هابيلُ مِن قابيلَ، ويَفِرُّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أمِّه، وإبراهيمُ عليه السَّلامُ من أبيه، ولوطٌ عليه السَّلامُ من صاحِبَتِه، ونوحٌ عليه السَّلامُ من ابنِه
لكُلِّ امرِئٍ منهم يومَئِذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] يَشغَلُه عن شَأنِ غَيرِه
[3235] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 212). .
وقال
البَيضاويُّ: (
يَومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِه وَبَنِيهِ لاشتِغالِه بشَأنِه، وعِلمِه بأنَّهم لا يَنفَعونَه، أو للحَذَرِ من مُطالَبَتِهم بما قَصَّرَ في حَقِّهم، وتَأخيرُ الأحَبِّ فالأحَبِّ للمُبالَغةِ، كأنَّه قيلَ: يَفِرُّ من أخيه بَل من أبوَيه بَل من صاحِبَتِه وبَنِيه
لكُلِّ امرِئٍ منهم يومَئِذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ يَكفيه في الِاهتِمامِبه)
[3236] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/ 288). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (لجَماعةٍ من الفُضَلاءِ كَلامٌ في قَولِه تعالى:
يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ لَمِ ابتَدَأ بالأخِ، ومِن عادةِ العَربِ أن يُبدَأَ بالأهَمِّ؟ فلَمَّا سُئِلتُ عن هذا قُلتُ: إنَّ الِابتِداءَ يَكونُ في كُلِّ مَقامٍ بما يُناسِبُه؛ فتارةً يَقتَضي الِابتِداءَ بالأعلى، وتارةً بالأدنى، وهنا المُناسَبةُ تَقتَضي الِابتِداءَ بالأدنى؛ لأنَّ المَقصودَ بَيانُ فِرارِه عن أقارِبِه مُفَصَّلًا شَيئًا بَعدَ شَيءٍ، فلَو ذَكرَ الأقرَبَ أوَّلًا لَم يَكُن في ذِكرِ الأبعَدِ فائِدةٌ طائِلةٌ؛ فإنَّه يُعلَمُ أنَّه إذا فرَّ من الأقرَبِ فَرَّ من الأبعَدِ، ولَمَّا حَصَلَ للمُستَمعِ استِشعارُ الشِّدَّةِ مُفصَلةً، فابتُدِئَ بنَفيِ الأبعَدِ مُنتَقِلًا منه إلى الأقرَبِ، فقيلَ أوَّلًا:
يَفِرُّ المَرءُ مِنْ أَخِيهِ فعُلِمَ أنَّ ثُمَّ شِدَّةً توجِبُ ذلك. وقد يَجوزُ أن يَفِرَّ من غَيرِه ويَجوزُ ألَّا يَفِرَّ. فقيلَ
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ فعُلِمَ أنَّ الشِّدَّةَ أكبَرُ من ذلك بحَيثُ توجِبُ الفِرَارَ من الأبَوينِ، ثُمَّ قيلَ
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ فعُلِمَ أنَّها طامةٌ بحَيثُ توجِبُ الفِرارُ مِمَّا لا يُفَرُّ منهم إلَّا في غايةِ الشِّدَّةِ، وهيَ الزَّوجةُ والبَنونَ، ولَفظُ صاحِبَتِه أحسَنُ من زوجَتِه)
[3237] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 74). .
وقال اللهُ تعالى عن الكافرينَ:
فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101] .
قال النَّسَفيُّ: (
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ كما للمُؤمِنينَ من الأنبياءِ والأولياءِ والمَلائِكةِ
ولا صَدِيقٌ حَميمٌ كما نَرى لهم أصدِقاءَ؛ إذ لا يَتَصادَقُ في الآخِرةِ إلَّا المُؤمِنونَ، وأمَّا أهلُ النَّارِ فبينَهمُ التَّعادي
الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقينَ أو فمَا لَنا من شافِعينَ ولا صَديقٍ حَميمٍ من الذينَ كُنَّا نَعُدُّهمُ شُفَعاءَ وأصدِقاءَ؛ لأنَّهم كانوا يَعتَقِدونَ في أصنامِهم أنَّهم شَفعاؤُهم عِندَ الله، وكان لهمُ الأصدِقاءُ من شياطينِ الإنسِ. والحَميمُ من الِاحتِمامِ وهو الِاهتِمامُ الذي يُهِمُّه ما يُهِمُّك، أو من الحامةِ بمَعنى الخاصَّةِ، وهو الصَّدِيقُ الخاصُّ. وجَمعَ الشَّافِعَ ووَحَّدَ الصَّديقَ لكَثرةِ الشُّفعاءِ في العادةِ، وأمَّا الصَّديقُ وهو الصَّادِقُ في وِدادِك الذي يُهِمُّه ما أهَمَّك، فقَليلٌ)
[3238] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/ 571). .
وقال اللهُ تعالى:
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه لنَبيِّه: وأنذِرْ -يا مُحَمَّدُ- مُشرِكي قَومِكِ يَومَ الآزِفةِ، يَعني يَومَ القيامةِ، أن يوافُوا اللهَ فيه بأعمالِهمُ الخَبيثةِ، فيَستَحِقُّوا من الله عِقابَه الأليمَ... وقَولُه:
إِذِ القُلوبُ لَدى الحَناجِرِ كاظِمينَ [غافر: 18] يَقولُ تعالى ذِكرُه: إذ قُلوبُ العِبادِ من مَخافةِ عِقابِ اللهِ لَدى حَناجِرِهم قد شَخَصَت من صُدورِهم، فتَعَلَّقَت بحُلوقِهم كاظِميها، يَرومونَ رَدَّها إلى مَواضِعِها من صُدورِهم فلا تَرجِعُ، ولا هيَ تَخرُجُ من أبدانِهم فيموتوا!.. وقَولُه:
ما للظَّالِمينَ من حَميمٍ ولا شَفيعٍ [غافر: 18] يَقولُ جَلَّ ثَناؤُه: ما للكافِرين بالله يَومَئِذٍ من حَميمٍ يَحمُّ لهم، فيَدفَعُ عنهم عَظيمَ ما نَزلَ بهم من عَذابِ اللهِ، ولا شَفيعٍ يَشفَعُ لهم عِندَ رَبِّهم فيُطاعُ فيما شَفعَ، ويُجابُ فيما سَألَ)
[3239] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 300-302). .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ:
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم: 42-43] .
قال
السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى:
وَلَا تَحسَبَنَّ اللهَ غافِلًا عَمَّا يَعمَلُ الظَّالِمونَ الآية. الغَفلةُ مَعنًى يَمنَعُ الإنسانَ من الوُقوفِ على حَقيقةِ الأمورِ... وقَولُه:
إنَّما يُؤَخِّرُهمُ مَعناه: إنَّما يُمهِلُهم. وقَولُه:
ليَومٍ تَشْخَصُ فيه الأبصارُ يَعني: من الدَّهشِ والحَيرةِ وشِدَّةِ الأمرِ، ومَعنى تَشْخَصُ، أي: تَرتَفِعُ وتَزولُ عن أماكِنِها. وقَولُه:
مُهْطِعِينَ الأكثَرونَ أنَّ مَعناه مُسْرِعينَ... وقيلَ: مُهطِعينَ، أي: مُدِيمي النَّظَرِ لا يَطرِفونَ. ومَعنى الإسراعِ الذي ذَكَرنا هو أنَّهم لا يَلتَفِتونَ يَمينًا ولا شِمالًا، ولا يَعرِفونَ مواطِنَ أقدامِهم، وليس لهم هِمَّةٌ ولا نَظَرٌ إلى ما يُساقُونَ إليه! وقَولُه:
مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ يُقالُ: أقنَعَ رَأسَه، أي: رَفعَه، وأقنَعَ رَأسَه: إذا خَفَّضَه، فإن كان المُرادُ هو الرَّفعَ فمَعناه: أنَّ أبصارَهم إلى السَّماءِ يَنظُرونَ ماذا يَرِدُ عليهم من اللهِ تعالى، وإنْ حُمِلَ الإقناعُ على خَفضِ الرَّأسِ فمَعناه: مُطرِقونَ ناكِسونَ... وقَولُه:
لا يَرتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يَعني: لا يَرجِعُ إليهم طَرْفُهم، فكَأنَّه ذَهَلَهم ما بينَ أيديهم، فلا يَنظُرونَ لشَيءٍ سِواه. وقَولُه:
وأفئِدَتُهم هَواءٌ قال أبو عُبَيدةَ: مُتَخَرِّقةٌ لا تَعي شَيئًا، وقال قتادةُ: خَرَجَت قُلوبُهم عن صُدورِهم حَتَّى بَلَغَتِ الحَناجِرَ من شِدَّةِ ذلك اليَومِ وهولِه، فهذا مَعنى قَولِه:
وبَلَغَتِ القُلوبُ الحَناجِرَ، فعلى هذا قَولُه:
وأفئِدَتُهم هَواءٌ أي: خاليةٌ، ومنه سُمِّيَ الجَوُّ هَواءً لخُلُوِّه، وقيلَ: خاليةٌ عن العُقولِ؛ فكَأنَّها ذَهَبَت من الفَزعِ والخَوفِ.
وقال سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ:
وأفئِدَتُهم هَواءٌ أي: مُتَرَدِّدةٌ لا تَستَقِرُّ في مَكانٍ، وقيلَ: هَواءٌ، أي: مُتَخرِّبةٌ من الجُبنِ والفَزَعِ... حَقيقةُ المَعنى من الآيةِ أنَّ القُلوبَ زائِلةٌ عن أماكِنِها، والأبصارَ شاخِصةٌ من هولِ ذلك اليَومِ)
[3240] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 122). .
وعن المِقدادِ بنِ الأسوَدِ رَضِيَ الله عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((تُدنَى الشَّمسُ يَومَ القيامةِ من الخَلقِ، حَتَّى تَكونَ منهم كمِقدارِ مِيلٍ. قال سليمُ بنُ عامِرٍ: فواللهِ ما أدري ما يَعني بالمِيلِ، أمسافةَ الأرضِ، أمِ المَيلَ الذي تَكتَحِلُ به العَينُ؟ قال: فيَكونُ النَّاسُ على قَدرِ أعمالِهم في العَرَقِ؛ فمنهم مَن يَكونُ إلى كعبَيه، ومنهم مَن يَكونُ إلى رُكبَتَيه، ومنهم مَن يَكونُ إلى حقْوَيه، ومنهم مَن يُلجِمُه العَرَقُ إلجامًا. قال: وأشارَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه إلى فيه )) [3241] أخرجه مسلم (2864). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((تُدنَى الشَّمسُ يَومَ القيامةِ)) أي: تُقَرَّبُ. والمِيلُ: اسمٌ مُشتَرَكٌ بينَ مَسافةِ الأرضِ، والمِرْودُ الذي تُكحَّلُ به العَينُ. ولِذلك أشكلَ المُرادُ على سليمِ بنِ عامِرٍ، والأَولى به هنا: مَسافةُ الأرضِ؛ لأنَّها إذا كان بينَها وبينَ الرُّؤوسِ مِقدارُ المِروَدِ فهيَ مُتَّصِلةٌ بالرُّؤوسِ لقِلَّةِ مِقدارِ المِروَدِ. وقَولُه:
((فيَكونُ النَّاسُ في العَرَقِ على قَدرِ أعمالِهم؛ فمنهم مَن يَكونُ إلى كعبَيه، ومنهم مَن يَكونُ إلى رُكبَتَيه، ومنهم مَن يَكونُ إلى حقْوَيه، ومنهم مَن يُلجِمُه العَرَقُ إلجامًا))، وقد تَقَدَّمَ أنَّ الحقْوَينِ: الخَصرانِ. وقيلَ: هما طَرَفا الوَرِكينِ، والأوَّلُ المَعروفُ. وهذا العَرَقُ إنَّما هو لشِدَّةِ الضَّغطِ، وحَرِّ الشَّمسِ التي على الرُّؤوسِ بحَيثُ تَغلي منها الهامُ، وحَرارةِ الأنفاسِ، وحَرارةِ النَّارِ المُحْدِقةِ بأرضِ المَحْشَرِ، ولِأنَّها تَخرُجُ منها أعناقٌ تَلتَقِطُ النَّاسَ مِنَ المَوقِفِ، فتَرشَحُ رُطوبةُ الأبَدانِ من كُلِّ إنسانٍ بحَسَبِ عَمَلِه، ثُمَّ يُجمَعُ عليه ما يَرشَحُ منه بَعدَ أن يَغُوصَ عَرقُهم في الأرضِ مِقدارَ سَبِعينَ باعًا، أو ذِراعًا، أو عامًا، على اختِلافِ الرِّواياتِ... والحاصِلُ أنَّ هذا المَقامَ مَقامٌ هائِلٌ لا تَفي بهولِه العِباراتُ، ولا تُحيطُ به الأوهامُ، ولا الإشاراتُ، وأبلَغُ ما نَطَقَ به في ذلك النَّاطِقونَ:
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)
[3242] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 155-157). .
وقال
ابنُ عُثَيمين مُعَلِّقًا على هذا الحَديثِ وغَيرِه: (هذه الأحاديثُ التي ذَكَرَها المُؤَلِّفُ
النَّوَويُّ رَحِمه اللهُ تعالى، كُلُّها تَدُلُّ على عِظَمِ يَومِ القيامةِ، وأنَّ على المُؤمِنِ أن يَخافَ من هذا اليَومِ العَظيمِ... وإذا كانتِ الشَّمسُ في أَوْجِها في الدُّنيا وبُعْدِها عنا بهذه الحَرارةِ، فكَيفَ إذا كانت بهذا القُربِ؟! ولَكِنَّ هذه الشَّمسَ يَنجو منها من شاءَ اللهُ، فإنَّ اللهَ تعالى يُظِلُّ أقوامًا بظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه)
[3243] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 300). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((سَبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادِلُ، وشابٌّ نَشَأ في عِبادةِ رَبِّه، ورَجُلٌ قَلبُه مُعَلَّقٌ في المَساجِدِ، ورَجُلانِ تُحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتَفَرَّقا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْه امرَأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ فقالَ: إنِّي أخافُ اللهَ. ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخفى حَتَّى لا تَعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضَت عَيناه )) [3244] أخرجه البخاري (660) واللَّفظُ له، مسلم (1031). .
وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قال:
((يَقومُ أحَدُهم في رَشحِه إلى أنصافِ أُذُنَيه)) [3245] أخرجه البخاري (4938)، ومسلم (2862). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (الرَّشْحُ بفَتحِ الرَّاءِ وسُكونِ الشِّينِ المُعجَمةِ بَعدَهما مُهمَلةٌ: هو العَرَقُ، شُبِّه برَشحِ الإناءِ لكَونِه يَخرُجُ من البَدَنِ شَيئًا فشَيئًا، وهذا ظاهرٌ في أنَّ العَرَقَ يَحصُلُ لكُلِّ شَخصٍ من نَفسِه، وفيه تَعَقَّبٌ على من جَوَّز أن يَكونَ مِن عَرَقِه فقَط أو من عَرَقِه وعَرَقِ غَيرِه)
[3246] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 393). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَعرَقُ النَّاسُ يَومَ القيامةِ حَتَّى يَذهَبَ عَرَقُهم في الأرضِ سَبْعينَ ذِراعًا، ويُلجِمُهم حَتَّى يَبلُغَ آذانَهم )) [3247] أخرجه البخاري (6532) واللَّفظُ له، ومسلم (2863). .
وفي رِوايةٍ:
((سَبْعينَ باعًا، وإنَّه ليَبلُغُ إلى أفواه النَّاسِ )) [3248] أخرجها مسلم (2863). قال
القَسطلانيُّ: (
((يَعرَقُ النَّاسُ)) بفَتحِ الرَّاءِ
((يَومَ القيامةِ)) بسَبَبِ تَراكُمِ الأهوالِ ودُنُوِّ الشَّمسِ من رُؤوسِهم والِازدِحامِ
((حَتَّى يَذهَبَ عَرَقُهم)) يَجري سائِحًا
((في)) وَجهِ
((الأرضِ)) ثُمَّ يَغوصُ فيها
((سَبعينَ ذِراعًا)) أي بالذِّراعِ المُتَعارَفِ أوِ الذِّراعِ المَلكيِّ. ولِلإسماعيليِّ من طَريقِ ابنِ وهبٍ عن سُلَيمانَ بنِ بلالٍ:
((سَبْعينَ باعًا)) [3249] أخرجها من طريق آخر مسلم (2863) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
((ويُلجِمُهم)) بضَمِّ التَّحتيةِ وسُكونِ اللامِ وكَسرِ الجيمِ، مِن ألجَمَه الماءُ: إذا بَلَغَ فاهُ
((حَتَّى يَبلُغَ آذانَهم)) وظاهرُه استِواءُ النَّاسِ في وُصولِ العَرَقِ إلى الآذانِ، وهو مُشكِلٌ بالنَّظَرِ إلى العادةِ؛ فإنَّه قد عُلِمَ أنَّ الجَمَاعةَ إذا وقَفوا في ماءٍ على أرضٍ مُستَويةٍ تَفاوَتوا في ذلك بالنَّظَرِ إلى طولِ بَعضِهم وقِصَرِ بَعضِهم. وأجيبَ: بأنَّ الإشارةَ بمَن يَصِلُ إلى أذنَيه إلى غايةِ ما يَصِلُ الماءُ، ولا يَنفي أن يَصِلَ إلى دونِ ذلك. ففي حَديثِ عُقْبةَ بنِ عامِرٍ مَرفوعًا: فمنهم مَن يَبلُغُ عَرَقُه عَقِبَه، ومنهم مَن يَبلُغُ نِصفَ ساقِه، ومنهم مَن يَبلُغُ رُكبَتَيه، ومنهم مَن يَبلُغُ فخِذَيه، ومنهم مَن يَبلُغُ خاصِرَتَه، ومنهم مَن يَبلُغُ فاه، ومنهم مَن يُغَطِّيه عَرَقُه وضَربَ بيدِه فوقَ رَأسِه. أخرجه
الحاكمُ [3250] أخرجه من طرق: أحمد (17439)، وابن حبان (7329)، والحاكم (8704) باختلافٍ يسيرٍ صحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الموارد)) (2189)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17439)، وصحَّح إسناده الحاكم، وجوَّده ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (23/507)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/338). وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/401): له شاهد عند مسلمٍ. والحديث أصله في الصحيح أخرجه مسلم (2864) من حديثِ المقداد بن عمرو بن الأسود رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: ((تُدنى الشمسُ يوم القيامة من الخلقِ، حتى تكونَ منهم كمقدارِ ميلٍ. قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافةَ الأرضِ، أم الميلَ الذي تكتحلُ به العينُ؟ قال: فيكونُ النَّاسُ على قدر أعمالهم في العَرَقِ؛ فمنهم من يكونُ إلى كعبيه، ومنهم من يكونُ إلى رُكبتيه، ومنهم من يكونُ إلى حِقْوَيه، ومنهم من يُلجِمُه العرقُ إلجامًا. قال: وأشار رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيدِه إلى فيه)). ، وظاهرَ قَولِه: النَّاس، التَّعميمُ، لَكِن في حَديثِ
عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ أنَّه قال: يَشتَدُّ كربُ النَّاسِ ذلك اليَومَ حَتَّى يُلجِمَ الكافِرَ العَرَقُ، قيلَ له: فأينَ المُؤمِنونَ؟ قال: على كراسِيَّ من ذَهَبٍ، وتُظَلِّلُ عليهمُ الغَمَامُ
[3251] الحديث عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لم يبلغ ابنُ آدَم شيئًا منذ خلقه الله أشد عليه من الموتِ، ثم إنَّ الموتَ أهونُ عليه مما بعده، وإنهم ليَلْقَون من هول ذلك اليوم شدَّةً حتى يلجِمَ الكافِرَ العَرَقُ، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: على كراسِيَّ من ذهَبٍ ويُظلِّلُ عليهم الغمامُ، وما طولُ ذلك اليوم عليهم إلا كساعةٍ من نهارٍ!)). أخرجه أحمد (12566)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1976)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/463) مختصرًا ضعفه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (4338)، وضعَّف إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12566)، وذكر ابنُ عَدِي أنَّ فيه سكين بن عبد العزيز فيما يرويه بعض النكرة بعضُها يحمل بعضًا، ولا بأس به؛ لأنه يروي عن قوم ضعفاءَ، ولعل البلاءَ منهم ليس منه. [3252] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (9/ 310). .
وقال
علي القاري: (
((يَعرَقُ)): بفَتحِ الرَّاءِ
((النَّاسُ)) أي: جَميعًا، والجِنُّ أولى، فتَركُه من بابِ الِاكتِفاءِ، والظَّاهرُ استِثناءُ الأنبياءِ والأولياءِ
((يَومَ القيامةِ)) أي: في ابتِداءِ أمرِه
((حَتَّى يَذهَبَ عَرقُهم في الأرضِ سَبعينَ ذِراعًا)): قيلَ هذا العَرَقُ تَراكم الأهوالِ وحُصول الحياءِ والخجالةِ والنَّدامةِ والمَلامةِ، وتَزاحُم حَرِّ الشَّمسِ والنَّارِ،...
((ويُلجِمُهم حَتَّى يَبلُغَ آذانَهم)) أي: يَصِلَ العَرَقُ إليها، وهيَ بالمَدِّ جَمعُ أذُن. قال شارِحٌ: أي إلى أفواهِهم، وسَيَأتي أنَّ النَّاسَ مُختَلِفونَ في أحوالِهم على مَراتِبِ أعمالِهم)
[3253] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3516). .