المَبحَثُ الرَّابِعُ: مُرورُ المُؤمِنينَ على الصِّراطِ وتمييزُهم عن المُنافِقينَ
قال
ابنُ رَجَبٍ: (اعلَمْ أنَّ النَّاسَ مُنقَسِمونَ إلى مُؤمِنٍ يَعبُدُ اللهَ وحدَه ولا شَريكَ به شَيئًا، ومُشرِكٌ يَعبُدُ مَعَ اللهِ غَيرِه، فأمَّا المُشرِكونَ فإنَّهم لا يَمرُّونَ على الصِّراطِ إنَّما يَقَعونَ في النَّارِ قَبلَ وضعِ الصِّراطِ)
[4046] يُنظر: ((التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار)) (ص: 235). .
فكُلُّ فرقةٍ من الكُفَّارِ والمُشرِكينَ تَتبَعُ ما كانت تَعبُدُ في الدُّنيا، فتَرِدُ النَّارَ مَعَ مَعبودِها، ولا يَبقى بَعدَ ذلك إلَّا من كان يَعبُدُ اللهَ وحدَه في الظَّاهرِ سَواءٌ كان صادِقًا أو مُنافِقًا من هذه الأمَّةِ وغَيرِها، ثُمَّ يَتَمَيَّزُ المُنافِقونَ عن المُؤمِنينَ بامتِناعِهم عن السُّجودِ، وكَذلك يَمتازونَ عنهم بالنُّورِ الذي يُقسَمُ للمُؤمِنينَ
[4047] يُنظر: ((القيامة الكبرى)) لعمر الأشقر (ص: 275). ويُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 236-239). .
قال اللهُ تعالى:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد: 12-15] .
قال
السَّعديُّ: (يَقولُ تعالى -مُبَينًا لفَضلِ الإيمانِ واغتِباطِ أهلِه به يَومَ القيامةِ-:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد: 12] أي: إذا كان يَومُ القيامةِ... وصارَ النَّاسُ في الظُّلْمةِ، ونُصِبَ الصِّراطُ على مَتنِ جَهنَّمَ، فحينَئِذٍ تَرى المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ يَسعى نُورُهم بينَ أيديهم وبِأيمانِهم، فيَمشُونَ بأيمانِهم ونُورِهم في ذلك المَوقِفِ الهائِلِ الصَّعبِ، كُلٌّ على قَدْرِ إيمانِه، ويُبَشَّرونَ عِندَ ذلك بأعظَمِ بشارةٍ، فيُقالُ:
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد: 12] ... فإذا رَأى المُنافِقونَ نُورَ المُؤمِنينِ يَمشونَ به وهم قد طُفِئَ نُورُهم وبَقُوا في الظُّلُماتِ حائِرينَ، قالوا للمُؤمِنينَ:
انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي: أمهِلونا لنَنالَ من نورِكم ما نَمشي به، لنَنجوَ من العَذابِ، فـ
قِيلَ لهم:
ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا أي: إن كان ذلك مُمكِنًا، والحالُ أنَّ ذلك غَيرُ مُمكِنٍ، بَل هو من المُحالاتِ،
فَضُرِبَ بينَ المُؤمِنينَ والمُنافِقينَ
بِسُورٍ أي: حائِطٍ مَنيعٍ، وحِصنٍ حَصِينٍ،
لَهُ بَابٌ بِاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وهو الذي يَلي المُؤمِنينَ
وَظَاهِرُه مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ وهو الذي يَلي المُنافِقينَ، فيُنادي المُنافِقونَ المُؤمِنينَ، فيَقولونَ لهم تَضرُّعًا وتَرحُّمًا:
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدُّنيا نَقولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ونُصَلِّي ونَصومُ ونُجاهِدُ، ونَعمَلُ مِثلَ عَمَلِكم؟
قَالُوا بَلَى كُنتُم مَعنا في الدُّنيا، وعَمِلتُم في الظَّاهرِ مِثلَ عَمَلِنا، ولَكِنَّ أعمالَكم أعمالُ المُنافِقينَ، من غَيرِ إيمانٍ ولا نيَّةٍ صادِقةٍ صالِحةٍ، بَل
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ أي: شَكَكتُم في خَبرِ اللهِ الذي لا يَقبَلُ شَكًّا،
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ الباطِلةُ؛ حَيثُ تَمنيتُم أن تَنالوا مَنالَ المُؤمِنينَ، وأنتم غَيرُ مَوقِنينَ،
حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي: حَتَّى جاءَكم المَوتُ وأنتم بتِلك الحالِ الذَّميمةِ.
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وهو
الشَّيطانُ، الذي زَيَّنَ لَكمُ الكُفرَ والرَّيبَ، فاطمَأننتُم به، ووَثِقتُمْ بوعدِه، وصَدَّقتُم خَبرَه.
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فلَوِ افتَديتُم بمِثلِ الأرضِ ذَهَبًا ومِثلِه مَعَه، لَمَا تُقُبِّلَ مِنكم،
مَأْوَاكُمُ النَّارُ أي: مُستَقَرُّكم،
هِيَ مَوْلَاكُمْ التي تَتَوَلَّاكمُ وتَضُمَّكم إليها،
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النَّارُ)
[4048]يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 839). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8] .
قال مُجاهدٌ والضَّحَّاك و
الحَسَنُ البَصْريُّ وغَيرُهم: هذا يَقولُه المُؤمِنونَ حينَ يَرَونَ يَومَ القيامةِ نُورَ المُنافِقينَ قد طُفِئَ
[4049] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 170). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (في هذا المَوضِعِ يَفتَرِقُ المُنافِقونَ عن المُؤمِنينَ، ويَتَخَلَّفونَ عنهم، ويَسبِقُهمُ المُؤمِنونَ، ويُحالُ بينَهم بسورٍ يَمنَعُهم من الوُصولِ إليهم)
[4050] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 605). .
كيفيَّةُ المُرورِ على الصِّراطِ 1- يُعطي اللهُ كُلُّ إنسانِ نُورًا على قَدْرِ عَمَلِهعن
عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَنزِلُ اللهُ عزَّ وجَلَّ في ظُلَلٍ من الغَمامِ من العَرْشِ إلى الكُرسيِّ، ثُمَّ يُنادي مَنادٍ: أيُّها النَّاسُ، ألَم تَرْضَوا من رَبِّكم الذي خَلَقَكم ورَزقَكم وأمَرَكم أن تَعبُدوه ولا تُشرِكوا به شَيئًا أن يولِّيَ كُلَّ أُناسٍ مِنكم ما كانوا يَعبُدونَ في الدُّنيا، أليسَ ذلك عَدْلًا من رَبِّكم؟. قالوا: بَلى. قال: فيَنطَلِقُ كُلُّ قَومٍ إلى ما كانوا يَعبُدونَ، ويَتَولَّونَ في الدُّنيا. قال: فيَنطَلِقونَ ويُمَثَّلُ لهم أشباهُ ما كانوا يَعبُدونَ؛ فمنهم مَن يَنطَلِقُ إلى الشَّمسِ، ومنهم مَن يَنطَلِقُ إلى القَمَرِ، والأوثانِ من الحِجارةِ، وأشباهِ ما كانوا يَعبُدونَ. قال: ويُمَثَّلُ لِمَن كان يَعبُدُ عيسى شَيطانُ عيسى، ويُمَثَّلُ لمَن كان يَعبُدُ عُزَيرًا شَيطانُ عُزيزٍ، ويَبقى مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمَّتُه. قال: فيَتَمَثَّلُ الرَّبُّ تَبارَك وتعالى فيَأتيهم، فيَقولُ: ما لَكم لا تَنطَلِقونَ كانطِلاقِ النَّاسِ؟ فيَقولونَ: إنَّ لَنا لإلهًا ما رَأيناه بَعدُ، فيَقولُ: هَل تَعرِفونَه إن رَأيتُموه؟ فيَقولونَ: إنَّ بينَنا وبينَه عَلامةً إذا رَأيناها عَرَفْناها. قال: فيَقولُ: ما هيَ؟ فتَقولُ: يَكشِفُ عن ساقِه. قال: فعِندَ ذلك يَكشِفُ عن ساقِه، فيَخِرُّ كُلُّ من كان نَظَرَه، ويَبقى قَومٌ ظُهورُهم كصَياصِي البَقَرِ، يُريدونَ السُّجودَ فلا يَستَطيعونَ، وقد كانوا يُدْعَونَ إلى السُّجودِ وهم سالِمون، ثُمَّ يَقولُ: ارفَعوا رُؤوسَكم، فيَرفَعونَ رُؤوسَهم، فيُعطيهم نُورَهم على قَدرِ أعمالِهم؛ فمنهم مَن يُعطى نُورَه مِثلَ الجَبَلِ العَظيمِ، يَسعى بينَ يَدَيه، ومنهم مَن يُعطى نُورَه أصغَرَ من ذلك، ومنهم من يُعطى نُورًا مِثلَ النَّخلةِ بيَدِه، ومنهم مَن يُعطى أصغَرَ من ذلك، حَتَّى يَكونَ آخِرُهم رَجُلًا يُعطى نُورَه على إبهامِ قَدَمَيه يُضيءُ مَرَّةً ويُطفَأُ مَرَّةً، فإذا أضاءَ قَدَّمَ قَدَمَه، وإذا طُفِئَ قامَ.
قال: والرَّبُّ تَبارَك وتعالى أمامَهم حَتَّى يَمُرَّ في النَّارِ، فيَبقى أثَرُه كحَدِّ السَّيفِ. قال: فيَقولُ: مُرُّوا، فيَمُرُّونَ على قَدرِ نُورِهم، منهم مَن يَمُرُّ كطَرفةِ العينِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالبَرقِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالسَّحابِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كانقِضاضِ الكَوكَبِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيحِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كشَدِّ الفَرَسِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كشَدِّ الرجلِ، حَتَّى يَمُرَّ الذي يُعطى نُورَه على ظَهرِ قَدَمَيه، يَجثو على وَجْهِه ويَدَيه ورِجْلَيه، تَخِرُّ يَدٌ وتَعلقُ يَدٌ، وتَخِرُّ رِجْلٌ وتَعلقُ رِجْلٌ، وتُصيبُ جَوانِبَه النَّارُ، فلا يَزالُ كذلك حَتَّى يَخْلُصَ، فإذا خَلَصَ وقَفَ عليها، فقال: الحَمدُ لله، فقد أعطاني اللهُ ما لَم يُعطِ أحَدًا؛ إذ نَجَّاني منها بَعدَ إذ رَأيتُها )) [4051] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((صفة الجنة)) (31)، والطبراني (9/417) (9763) واللفظ له، والحاكم (8751). صحَّحه الحاكم، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3591)، وحسَّنه الذهبي في ((العرش)) (76)، وابن القيم في ((حادي الأرواح)) (262)، ووثق رجاله شعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (5/143)، وذكر المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/296) أنه روي من طرقٍ أحدها صحيح. .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (جَميعُ القيامِ من قُبورِهم يَرَونُ رَبَّهم في أوَّلِ الأمرِ كُلُّهم يَراه مَخْليًّا به، فيَسألُه ويُخاطِبُه... ثُمَّ بَعدَ ذلك يُنادِي المَنادي فيراه المُسلِمونَ بمَن مَعَهم من المُنافِقينَ. ثُمَّ بَعدَ ذلك يَتَمَيَّزُ المُؤمِنونَ وهمُ الذينَ يَرَونَه رُؤيةَ تَنعُّمٍ، ويُحجَبُ عنه الكافِرونَ بَعدَ ذلك؛ إذِ الرُّؤيةُ في عَرَصاتِ القيامةِ ليست من النَّعيمِ والثَّوابِ. وذَهَبَ
ابنُ خُزَيمةَ وطائِفةٌ إلى أنَّه لا يَراه إلَّا المُؤمِنونَ والمُنافِقونَ وذَهَبَت طائِفةٌ أخرى إلى أنَّ الكُفَّارَ لا يَرَونُه بحالٍ، وقد تَكَلَّمنا على هذه المَسألةِ في غَيرِ هذا المَوضِعِ. والمَقصودُ هنا بَيانُ ما في الأحاديثِ المَشهورةِ من قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فيَرَونَه في صورةٍ غَيرِ صورَتِه التي رَأوه فيها أوَّلَ مَرَّةٍ))، وأنَّ تلك هيَ هذه المَرَّة التي تَجلَّى فيها لفَصلِ القَضاءِ بينَ عِبادِه، فخاطَبَهم وحاسَبَهم، ثُمَّ بَعدَ ذلك جَزاهم، فأمرَ أن يَتبَعَ كُلُّ قَومٍ مَعبودَهم... وهذا الحَديثُ المُسنَدُ عن
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه قد رَوى أهلُ الصِّحاحِ كثيرًا منه عن
ابنِ مَسعودٍ من وُجوهٍ أخرى... مَن تَأمَّلَ سياقَ هذه الأحاديثِ وما اتَّفَقَتَ عليه من المَعاني وسياقِها وما فيها من الإخبارِ بأنَّ اللهَ يَأمُرُ كُلَّ من عَبدَ غَيرِه أن يَتبَعَ مَعبودَه، فيُمَثِّلُه لهم، وأنَّه إذا تَمَيَّزَ الموَحِّدونَ من غَيرِهم امتَحنَهم هَل يَعبُدونَ غَيرَ الإلِه الذي رَأوَه أوَّلًا؟ فلَمَّا تثَبِّتُهم بالقَولِ الثَّابِتِ تَجلَّى لهم في الصُّورةِ التي يَعرِفونَ، فيَسجُدونَ له ولَمَّا رَفَعوا رُؤوسَهم من السُّجودِ وجَدوه قد تَحَوَّلَ في الصُّورةِ التي رَأوه فيها أوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ إنَّهم يَتْبَعونَه بَعدَ ذلك حَتَّى يَمُرُّوا على الصِّراطِ؛ عُلِمَ بالِاضطِرارِ أنَّ الذي يَأتيهم في هذه الصُّورةِ هو رَبُّ العالَمينَ نَفسُه لا مَلَكٌ من المَلائِكةِ، ولا مُجَرَّدُ بَعضِ آياتِه. ومن صَرفَ مِثلَ هذه الأحاديثِ وهذه الألفاظَ الصَّريحةَ المَنصوصةَ إلى مَلَكٍ من المَلائِكةِ أو مَجيءِ شَيءٍ من عَذابِ اللهِ، أو إحسانِ اللهِ، فإنَّه مَعَ جَحْدِه لِما يُعلَمُ بالِاضطِرارِ من هذه الألفاظِ قد فتَحَ من بابِ القَرمَطةِ وتَحريفِ الكَلِمِ عن مَواضِعِه ما لا يُمكِنُ سَدُّه)
[4052] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (7/ 58-76). .
2- انطِفاءُ نُورِ المُنافِقينَعن
جابِرٍ رَضِيَ الله عنه أنَّه سُئِلَ عن الوُرودِ فقال: (تُدعى الأمَمُ بأوثانِها، وما كانت تَعْبُدُ، الأوَّلُ فالأوَّلُ، ثُمَّ يَأتينا رَبُّنا بَعدَ ذلك، فيَقولُ: مَن تَنظُرونَ؟ فيَقولونَ: نَنظُرُ رَبَّنا، فيَقولُ: أنا رَبُّكم، فيَقولونَ: حَتَّى نَنظُرَ إليك، فيَتَجَلَّى لهم يَضحَكُ، قال: فيَنطَلِقُ بهم، ويَتَبْعونَه، ويُعطى كُلُّ إنسانٍ منهم مُنافِقًا أو مُؤمِنًا نُورًا، ثُمَّ يَتْبَعونَه، وعلى جِسرِ جَهَنَّمَ كَلاليبُ وحَسَكٌ، تَأخُذُ من شاءَ اللهُ، ثُمَّ يُطفَأُ نُورُ المُنافِقينَ، ثُمَّ يَنجو المُؤمِنونَ، فتَنجو أوَّلُ زُمرةٍ وُجوهُهم كالقَمَرِ لَيلةَ البَدْرِ سَبعونَ ألفًا لا يُحاسَبونَ، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم كأضوأِ نَجمٍ في السَّماءِ، ثُمَّ كذلك)
[4053] أخرجه مسلم (191) مطولًا. .
3- اختِلافُ سُرعةِ النَّاسِ في المُرورِ على الصِّراطِتَختَلِفُ سُرعةُ النَّاسِ في المُرورِ على الصِّراطِ، وذلك باختِلافِ قوَّةِ النُّورِ الذي يُعطى لهم على قَدْرِ أعمالِهم.
عن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ويَمُرُّونَ على الصِّراطِ، والصِّراطُ كحَدِّ السَّيفِ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فيقال: انجُوا على قَدرِ نُورِكم؛ فمنهم مَن يَمُرُّ كانقِضاضِ الكَوكَبِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالطَّرْفِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيحِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كشدِّ الرجلِ، ويَرمُلُ رَمَلًا، فيَمرُّونَ على قَدرِ أعمالِهم حَتَّى يَمُرَّ الذي نُورُه على إبهامِ قَدَمِه، قال: يَجُرُّ يَدًا ويُعلِّقُ يَدًا ويَجرُّ رِجْلًا ويُعلِّقُ رِجْلًا وتَضرِبُ جَوانِبَه النَّارُ، قال: فيَخلُصونَ، فإذا خَلَصوا قالوا: الحَمدُ للهِ الذي نَجَّانا مِنكِ بَعدَ الذي أراناكِ، لَقد أعطانا اللهُ ما لَم يُعطِ أحَدًا )) [4054] أخرجه مطولًا الطبراني (9/417) (9763)، والحاكم (8751) واللَّفظُ له، والدارقطني في ((رؤية الله)) (160). صحَّحه الحاكم، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (3591)، وحسَّنه الذهبي في ((العرش)) (76)، وابن القيم في ((حادي الأرواح)) (262)، ووثق رجاله شعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (5/143)، وذكر ابن خزيمة في ((التوحيد)) (2/ 583) أن إسناده متصلاً، وذكر المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/296) أنه روي من طرقٍ أحدها صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/343): إنه روي من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة. .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يُؤتى بالجِسرِ فيُجعَلُ بينَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ))، قُلنا: يا رَسولَ اللهِ، وما الجِسرُ؟ قال:
((مَدحَضةٌ مَزِلَّةٌ [4055] قال ابن بطال: (قوله: الجِسرٌ مَدحَضةٌ مَزِلَّة. يقال: دَحضَت رجلُه دَحْضًا: زَلِقَت، والدَّحضُ: ما يكون عنه الزَّلقُ، ودحضت الشمسُ عن كبد السماء: زالت، ودَحضَت حُجَّته: بطلَت، والمزِلَّة: موضِعُ الزَّلَل، فزلَّت القَدَمُ: سقَطَت). ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 470). ، عليه خَطاطيفُ وكَلاليبُ وحَسَكةٌ [4056] قال ابن بطال: ( (كلاليب) جمع كَلُّوب، وهو الذي يتناول به الحدَّادُ الحديدَ من النار، والخطاطيف جمع خُطَّاف، والخُطَّاف حديدة معوجَّة الطرف يجذب بها الأشياء... والحَسَك: معروف، وهو شيءٌ مُضَرَّس ذو شوكٍ يَنشِبُ به كلُّ ما مرَّ به). ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 468). مُفَلطَحةٌ لها شَوكةٌ عُقَيفاءُ [4057] قال العيني: (قوله: مُفلَطحةٌ:... أي: عريضة... قوله: عُقَيفاء:... هي المنعَطِفة المُعوَّجة). ((عمدة القاري)) (25/ 130). تَكونُ بنَجْدٍ يُقالُ لها السَّعدانُ [4058] قال أبو العباس القرطبي: (السعدان نبتٌ كثيرُ الشَّوكِ، شوكُه كالخطاطيف والمحاجِن). ((المفهم)) (1/420). ، المُؤمِنُ عليها كالطَّرْفِ وكالبَرقِ وكالرِّيحِ وكَأجاويدِ الخَيلِ [4059] قال ابن الأثير: (هي جمعُ أجوادٍ، وأجوادٌ جمعُ جوَادٍ). ((النهاية)) (1/312). والرِّكابِ؛ فناجٍ مَخدوشٌ، ومَكدوسٌ في نارِ جَهنَّمَ)) [4060] أخرجه مطولًا البخاري (7439) واللَّفظُ له، ومسلم (183). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ونَبِيُّكم قائِمٌ على الصِّراطِ يَقولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ. حَتَّى تَعجِزَ أعمالُ العِبادِ، حَتَّى يَجيءَ الرَّجُلُ فلا يَستَطيعُ السَّيرَ إلَّا زَحفًا )) [4061] أخرجه مسلم (195) مطولًا. .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((... حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهم يُسحَبُ سَحبًا)) [4062] أخرجه البخاري (7439) مطولًا .
قيامُ الأمانةِ والرَّحِمِ على الصِّراطِعن أبي هُريرةَ وحُذَيفةَ رَضِيَ الله عنهما عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَما ذَكَرَ ذَهابَ النَّاسِ إلى آدَمَ، ثُمَّ إبراهيمَ، ثُمَّ موسى، ثُمَّ عيسى، ثُمَّ مُحَمَّدٍ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ فتَقومانِ جَنبَتيِ الصِّراطِ يَمينًا وشِمالًا )) [4063] أخرجه مسلم (195). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (المَعنى أنَّ الأمانةَ والرَّحِمَ لعِظَمِ شَأنِهما وفَخامةِ ما يَلزَمُ العِبادَ من رِعايةِ حَقِّهما يُوقَفانِ هناك للأمينِ والخائِنِ، والمُواصِلِ والقاطِعِ، فيُحاجَّانِ عن المُحِقِّ، ويَشهَدانِ على المُبْطِلِ)
[4064] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/453). .
وقال الطِّيبيُّ: (يُمكِنُ أن تُحمَلَ الأمانةُ على الأمانةِ العُظمى، وهيَ ما في قَولِه تعالى:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ [الأحزاب: 72] ، وصِلةُ الرَّحِمِ صِلَتُها الكُبرى، وهيَ ما في قَولِه تعالى:
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... إلى قَولِه:
... وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء: 1] ، فيَدخُلُ في الحَديثِ مَعنى التَّعظيمِ لأمرِ اللهِ، والشَّفقةِ على خَلقِ الله، وكَأنَّهما اكتَنفا جَنبتي الإسلامِ الذي هو الصِّراطُ المُستَقيمُ، وقُطْرَي الإيمانِ والدِّينِ القَويمِ)
[4065] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (11/3525). .
وقال أيضًا: (إرسالُ الأمانةِ والرَّحِمِ لعِظَمِ أمرِهما وكِبَرِ مَوقِعِهما، فتُصَوَّرانِ شَخصينِ على الصِّفةِ التي يُريدُها اللهُ سُبحانَه وتعالى، ومَعناه: أنَّهما يَقومانِ ليُطالِبا كُلَّ مَن يُريدُ الجَوازَ على الصِّراطِ بحَقِّهما، فمَن وفى بَحقِّهما يُعاوِناه على الجَوازِ على الصِّراطِ وإلَّا تَركاه)
[4066] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (11/ 3550). .
وقال شِهابُ الدِّينِ التُّورِبِشْتيُّ: (يُريدُ بجَنبَتي الصِّراطِ ناحيَتَيه اليُمنى واليُسرى، يُقالُ: جَنَبَيه بالتَّحريكِ وجَنابَيه وجَنَبَتَيه، والمَعنى أنَّ الأمانةَ والرَّحِمَ لعِظَمِ شَأنِهما وفَخامةِ ما يَلزَمُ العِبادَ من رِعايةِ حَقِّهما يُمَثلانِ هنالِك الأمينَ والخائِنَ، والواصِلَ والقاطِعَ، فيُحاجَّانِ عن المُحِقِّ، ويَشهَدانِ على المُبْطِلِ)
[4067] يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (4/ 1202). .