الفَرعُ الثَّالِثُ: دُخولُ أعمالِ الجوارِحِ عند السَّلَفِ في مُسَمَّى الإيمانِ
تدخُلُ أعمالُ الجوارحِ عند السَّلَفِ في مُسَمَّى الإيمانِ دُخولًا أوَّلِيًّا، وذلك عند إطلاقِ لَفظِ الإيمانِ أو تجريدِه، وليس المقصودُ هنا ذِكْرَ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، وإنَّما المقصودُ أنَّ اسمَ الإيمانِ إذا أُطلِقَ في الكتابِ والسُّنَّةِ أو ذُكِرَ مُجَرَّدًا، دَخَلَت فيه الأعمالُ بالضَّرورةِ
[163] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيميَّةَ (ص: 97). ، وقد حكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك
[164] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيميَّةَ (ص: 241). .
قال
الزُّهريُّ: (كنَّا نقولُ: الإسلامُ بالإقرارِ، والإيمانُ بالعَمَلِ، والإيمانُ: قَولٌ وعَمَلٌ، قرينانِ لا ينفَعُ أحَدُهما إلَّا بالآخَرِ، وما من أحدٍ إلَّا يُوزَنُ قَولُه وعَمَلُه؛ فإن كان عَمَلُه أوزَنَ مِن قَولِه، صَعِدَ إلى اللهِ، وإن كان كلامُه أوزَنَ من عَمَلِه، لم يصعَدْ إلى اللهِ)
[165]يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/295). .
وقال
الأوزاعيُّ: (لا يستقيمُ الإيمانُ إلَّا بالقَولِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ إلَّا بالعَمَلِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقَولُ والعَمَلُ إلَّا بنِيَّةٍ مُوافِقةٍ للسُّنَّةِ، وكان من مضى مِن سَلَفِنا لا يُفَرِّقون بين الإيمانِ والعَمَلِ، والعَمَلُ من الإيمانِ، والإيمانُ من العَمَلِ، وإنَّما الإيمانُ اسمٌ جامِعٌ، كما يجمَعُ هذه الأديانَ اسمُها، ويُصَدِّقُه العَمَلُ، فمن آمَنَ بلِسانِه وعَرَف بقَلْبِه، وصَدَّق بعَمَلِه؛ فتلك العُروةُ الوُثقى التي لا انفِصامَ لها، ومن قال بلِسانِه، ولم يعرِفْ بقَلْبِه، ولم يصَدِّقْه بعَمَلِه، لم يُقبَلْ منه، وكان في الآخرةِ من الخاسِرينَ)
[166] أخرجه ابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1097) وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 144). .
وقال
الشَّافعيُّ: (كان الإجماعُ من الصَّحابةِ والتابعينَ مِن بَعْدِهم ومَن أدرَكْناهم، يقولون: الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ، لا يجزئُ واحِدٌ من الثَّلاثِ إلَّا بالآخَرِ)
[167] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيميَّةَ (ص: 166). .
وعن موسى بن هارونَ قال: (أملى علينا
إسحاقُ بنُ راهَوَيهِ أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ ويَنقُصُ، لا شَكَّ أنَّ ذلك كما وصَفْنا، وإنَّما عقَلْنا هذا بالرِّواياتِ الصَّحيحةِ، والآثارِ العامَّةِ المحكَمةِ، وآحادِ أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتابعين، وهَلُمَّ جَرًّا على ذلك، وكذلك بعد التابعين من أهلِ العِلمِ، على شيءٍ واحدٍ لا يختَلِفون فيه، وكذلك في عَهدِ
الأوزاعيِّ بالشَّامِ، و
سفيانَ الثَّوريِّ بالعِراقِ، و
مالِكِ بنِ أنَسٍ بالحِجازِ، ومَعمَرٍ باليَمَنِ، على ما فَسَّرْنا وبَيَّنَّا؛ أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ ويَنقُصُ)
[168] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيميَّةَ (ص: 241). .
وقال
البُخاريُّ: (لَقِيتُ أكثَرَ مِن ألفِ رَجُلٍ من العُلَماءِ بالأمصارِ، فما رأيتُ أحدًا منهم يختَلِفُ في أنَّ الدِّينَ قَولٌ وعَمَلٌ)
[169] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (1/195). .
وقال
البَغَويُّ: (اتَّفَقَت الصَّحابةُ والتابعون فمَن بَعْدَهم من عُلَماءِ السُّنَّةِ على أنَّ الأعمالَ مِن الإيمانِ... وقالوا: إنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ وعَقيدةٌ)
[170] يُنظر: ((شرح السنة)) (1/39). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (أجمع أهُل الفِقهِ والحديثِ أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، ولا عَمَل إلَّا بنيَّةٍ، والإيمانُ عِندَهم يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ، والطَّاعاتُ كُلُّها عندهم إيمانٌ)
[171] يُنظر: ((التمهيد)) (9/238). وقال
ابنُ تيميَّةَ: (القَولُ: إنَّ الإيمان قَولٌ وعَمَلٌ عند أهلِ السُّنَّةِ: من شعائِرِ السُّنَّةِ، وحكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك، وقد ذكَرْنا عن
الشَّافعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه ما ذكَرَه من الإجماعِ على ذلك؛ قَولَه في «الأمِّ»: وكان الإجماعُ من الصَّحابةِ والتابعين من بَعْدِهم ومن أدرَكْناهم يقولون: إنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ، لا يجزئُ واحِدٌ من الثلاثةِ إلَّا بالآخَرِ.
وذكر
ابنُ أبي حاتمٍ في «مناقبه»: سَمِعتُ حَرْملةَ يقولُ: اجتَمَع حَفصٌ الفَردُ ومصلان الإباضيُّ عند
الشَّافعيِّ في دارِ الجروي، فتناظرا معه في الإيمانِ، فاحتَجَّ مصلان في الزِّيادةِ والنُّقصانِ، وخالفه حَفصٌ الفَردُ، فحَمِيَ
الشَّافعيُّ وتقَلَّد المسألةَ على أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ ويَنقُصُ، فطَحَن حفصًا الفَرْدَ وقَطَعَه)
[172] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/308). ويُنظر: ((آداب الشافعي ومناقبه)) لابن أبي حاتم (ص: 147). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أجمع السَّلَفُ أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ ويَنقُصُ، ومعنى ذلك أنَّه قَولُ القَلبِ وعَمَلُ القَلبِ، ثمَّ قَولُ اللِّسانِ وعَمَلُ الجوارحِ، فأمَّا قَولُ القَلبِ: فهو التصديقُ الجازمُ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، ويدخُلُ فيه الإيمانُ بكُلِّ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم َّالنَّاسُ في هذا على أقسامٍ: منهم من صَدَّق به جملةً ولم يَعرِفِ التفصيلَ، ومنهم من صَدَّق جُملةً وتفصيلًا، ثمَّ منهم من يدومُ استِحضارُه وذِكْرُه لهذا التصديقِ، ومنهم من يَغفُلُ عنه ويَذهَلُ، ومنهم من استبصَرَ فيه بما قذَفَ اللهُ في قَلْبِه مِن النُّورِ والإيمانِ، ومنهم من جزم به لدليلٍ قد تعتَرِضُ فيه شُبهةٌ أو تقليدٌ جازمٌ، وهذا التصديقُ يتبَعُه عَمَلُ القَلبِ، وهو: حُبُّ اللهِ ورَسولِه، وتعظيمُ اللهِ ورَسولِه، وتعزيرُ الرَّسولِ وتوقيرُه، وخشيةُ اللهِ والإنابةُ إليه، والإخلاصُ له، والتوكُّلُ عليه، إلى غيرِ ذلك من الأحوالِ، فهذه الأعمالُ القَلبيَّةُ كُلُّها من الإيمانِ، وهي ممَّا يُوجِبُها التصديقُ والاعتقادُ إيجابَ العِلَّةِ للمَعلولِ، ويتبَعُ الاعتقادَ قَولُ اللِّسانِ، ويَتبَعُ عَمَلَ القَلبِ عَمَلُ الجوارِحِ؛ مِن الصلَّاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ ونحوِ ذلك)
[173] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/672). .
وقال أيضًا: (أمَّا سائِرُ الفُقَهاءِ مِن أهلِ الرَّأيِ والآثارِ بالحِجازِ والعِراقِ والشَّامِ ومِصرَ؛ منهم
مالِكُ بنُ أَنَسٍ، و
اللَّيثُ بنُ سَعدٍ، و
سُفيانُ الثَّوريُّ، و
الأوزاعيُّ، و
الشَّافعيُّ، و
أحمدُ بنُ حَنبَلٍ، و
إسحاقُ بنُ راهَوَيه، و
أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّامٍ، و
داودُ بنُ عَلِيٍّ، و
الطَّبَريُّ، ومن سلك سبيلَهم- فقالوا: الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ؛ قَولٌ باللِّسانِ، وهو الإقرارُ، واعتقادٌ بالقَلبِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، مع الإخلاصِ بالنيَّةِ الصَّادِقةِ. قالوا: وكُلُّ ما يطاعُ اللهُ عزَّ وجَلَّ به من فريضةٍ ونافلةٍ، فهو من الإيمانِ، والإيمانُ يَزيدُ بالطَّاعاتِ، ويَنقُصُ بالمعاصي)
[174] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 259). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (المشهورُ عن السَّلَفِ وأهلِ الحَديثِ أنَّ الإيمانَ: قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ، وأنَّ الأعمالَ كُلَّها داخِلةٌ في مُسَمَّى الإيمانِ. وحكى
الشَّافعيُّ على ذلك إجماعَ الصَّحابةِ والتابعين ومَن بَعْدَهم ممن أدركَهم. وأنكر السَّلَفُ على من أخرج الأعمالَ مِن الإيمانِ إنكارًا شديدًا. وممَّن أنكر ذلك على قائِلِه، وجَعَله قَولًا مُحدَثًا: سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وميمونُ بنُ مِهرانَ، وقَتادةُ، وأيُّوبُ السَّختيانيُّ، و
إبراهيمُ النَّخَعيُّ، و
الزُّهْريُّ، ويحيى بنُ أبي كثيرٍ، وغَيرُهم. وقال
الثَّوريُّ: هو رأيٌ مُحدَثٌ؛ أدركْنا النَّاسَ على غيرِه. وقال
الأوزاعيُّ: كان من مضى ممَّن سَلَف لا يُفَرِّقون بين الإيمانِ والعَمَلِ. وكتب
عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى أهلِ الأمصارِ: أمَّا بَعْدُ، فإنَّ الإيمانَ فرائِضُ وشرائِعُ وحُدودٌ وسُنَنٌ، فمن استكمَلَها استكمَلَ الإيمانَ، ومن لم يستكمِلْها لم يستكمِلِ الإيمانَ. ذكَرَه
البخاريُّ في «صحيحِه»)
[175] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/104). .
وقال
العَينيُّ: (الفِرقةُ الرَّابعةُ قالوا: إنَّ الإيمانَ فِعلُ القَلبِ واللِّسانِ مع سائِرِ الجوارحِ، وهم أصحابُ الحَديثِ، ومالِكٌ، و
الشَّافعيُّ،
وأحمدُ، و
الأوزاعيُّ،... وما ذهب إليه السَّلَفُ وأهلُ الأثَرِ أنَّ الإيمانَ عِبارةٌ عن مجموعِ ثلاثةِ أشياءَ: التصديقُ بالجَنانِ، والإقرارُ باللِّسانِ، والعَمَلُ بالأركانِ)
[176] يُنظر: ((عمدة القاري)) (1/103). .
ومِن عباراتِ السَّلَفِ والعُلَماءِ في ذلك: عن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ اللَّيثيِّ أنَّه قال: (ليس الإيمانُ بالتمَنِّي، ولكِنَّ الإيمانَ قَولٌ يُعقَلُ، وعَمَلٌ يُعمَلُ)
[177] أخرجه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (639)، والخلال في ((السنة)) (1212) .
وعن
الحَسَنِ البَصريِّ قال: (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ)
[178] أخرجه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (637)، والخلال في ((السنة)) (1207)، والآجري في ((الشريعة)) (260) .
وقال
الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ: (الإيمانُ عندنا داخِلُه وخارِجُه: الإقرارُ باللِّسانِ، والقَبولُ بالقَلبِ، والعَمَلُ به)
[179] أخرجه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (627) واللفظ له، والخلال في ((السنة)) (4/58)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1104) .
وقال
مالِكُ بنُ أنَسٍ: (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ ويَنقُصُ)
[180] أخرجه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (636)، وأبو داود في ((مسائل الإمام أحمد)) (1767) واللفظ لهما، والخلال في ((السنة)) (1014) .
وقال الوليدُ بنُ مُسلِمٍ: (سَمِعتُ
الأوزاعيَّ و
مالِكَ بنَ أنَسٍ وسَعيدَ بنَ عبدِ العزيزِ يُنكِرونَ قَولَ من يقولُ: إنَّ الإيمانَ قَولٌ بلا عَمَلٍ. ويقولون: لا إيمانَ إلَّا بعَمَلٍ، ولا عَمَلَ إلَّا بإيمانٍ)
[181] أخرجه الطبري في ((صريح السنة)) (ص: 25)، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (1586). .
وقال
أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (الأمرُ الذي عليه السُّنَّةُ عندنا ما نَصَّ عليه عُلَماؤنا مما اقتصَصْنا في كتابِنا هذا: أنَّ الإيمانَ بالنيَّةِ والقَولِ والعَمَلِ جميعًا)
[182] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 34). .
وقال
المُزَنيُّ: (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ مع اعتقادِه بالجَنانِ، وقَولٍ باللِّسانِ، وعَمَلٍ بالجوارِحِ والأركانِ، وهما سِيَّانِ، ونظامانِ وقَرينانِ، لا نُفَرِّقُ بينهما؛ لا إيمانَ إلَّا بعَمَلٍ، ولا عَمَلَ إلَّا بإيمانٍ)
[183] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 77). .
وجَعَل
الرَّبيعُ بنُ سُليمان القَولَ بأنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ مِن الأصولِ التي لا يتطَرَّقُ إليها الشَّكُّ؛ حيث سُئِل: (أليس تقولُ: الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ يَزيدُ ويَنقُصُ؟ قال: نعم. سبحانَ اللهِ! ومن يشُكُّ في هذا؟!)
[184] يُنظر: ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (2/ 361). .
وقال حرب الكرماني: (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، ونِيَّةٌ، وتمسُّكٌ بالسُّنَّةِ... ومن زعم أنَّ الإيمانَ قَولٌ بلا عَمَلٍ؛ فهو مُرجِئٌ)
[185] يُنظر: ((إجماع السلف في الاعتقاد كما حكاه الإمام حرب بن إسماعيل الكرماني)) (ص 35). .
وقال
محمَّدُ بنُ نَصرٍ المَرْوزيُّ: (الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ: أن توحِّدَه وتُصَدِّقَ به بالقَلبِ واللِّسانِ، وتَخضَعَ له ولأمرهِ بإعطاءِ العَزمِ للأداءِ لِما أمَرَ، مجانبًا للاستِنكافِ والاستِكبارِ والمعانَدةِ، فإذا فعَلْتَ ذلك لَزِمْتَ محابَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واجتَنَبْتَ مَساخِطَه، ... وإيمانُك بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إقرارُك به وتصديقُك إيَّاه واتباعُك ما جاء به، فإذا اتَّبَعْتَ ما جاء به، أدَّيتَ الفرائِضَ، وأحلَلْتَ الحلالَ، وحَرَّمت الحرامَ، ووقَفْتَ عند الشُّبُهاتِ، وسارَعْتَ في الخيراتِ)
[186] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 392). .
وقال
ابنُ جريرٍ -بعد ذِكْرِ اختِلافِ النَّاسِ في الإيمانِ-: (الصَّوابُ مِن القَولِ في ذلك عِندَنا أنَّ الإيمانَ اسمٌ للتصديقِ كما قالتْه العَرَبُ، وجاء به كتابُ اللهِ -تعالى ذِكرُه- خبرًا عن إخوةِ يُوسُفَ من قِيلِهم لأبيهم يعقوبَ:
وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ. بمعنى: ما أنت بمصَدِّقٍ لنا على قِيلِنا. غيرَ أنَّ المعنى الذي يستحِقُّ به اسمَ مُؤمِن بالإطلاقِ، هو الجامِعُ لمعاني الإيمانِ، وذلك أداءُ جميعِ فرائِضِ اللهِ تعالى ذِكْرُه من معرفةٍ وإقرارٍ وعَمَلٍ.
وذلك أنَّ العارِفَ المعتَقِدَ صِحَّةَ ما عرف من توحيدِ اللهِ تعالى ذِكرُه وأسمائِه وصفاتِه مُصَدِّقٌ لله في خَبَرِه عن وحدانيَّتِه وأسمائِه وصِفاتِه؛ فكذلك العارِفُ بنبوَّةِ نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، المعتَقِدُ صِحَّةَ ذلك، وصِحَّةَ ما جاء به من فرائِضِ الله. وذلك أنَّ معارِفَ القُلوبِ عندنا اكتِسابُ العبادِ وأفعالُهم، وكذلك الإقرارُ باللِّسانِ بعد ثبوتِه، وكذلك العَمَلُ بفرائِضِ اللهِ التي فرضها على عبادِه: تصديقٌ من العامِلِ بعَمَلِه ذلك للهِ جَلَّ ثناؤه)
[187] يُنظر: ((التبصير في معالم الدين)) (ص: 190). .
وقال
أبو الحَسَنِ الأشعريِّ: (هذه حكايةُ جملةِ قَولِ أصحابِ الحديثِ وأهلِ السُّنَّةِ... ويُقِرُّون بأنَّ الإيمانَ قولٌ وعَمَلٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ... وبكُلِّ ما ذكَرْنا من قَولِهم نقولُ، وإليه نذهَبُ)
[188] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 226). .
وقال
البربهاري: (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، وعَمَلٌ وقَولٌ، ونِيَّةٌ وإصابةٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ، يزيدُ ما شاء اللهُ، ويَنقُصُ حتى لا يبقى منه شيءٌ)
[189] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 52) .
وقال ابنُ أبي زيدٍ القَيرواني: (الإيمانُ قَولٌ باللِّسانِ، وإخلاصٌ بالقَلْبِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، يَزيدُ بزيادةِ الأعمالِ، ويَنقُصُ بنَقْصِها، فيكونُ فيها النَّقصُ وبها الزِّيادةُ، ولا يَكمُلُ قَولُ الإيمانِ إلَّا بالعَمَلِ، ولا قَولٌ وعَمَلٌ إلَّا بنِيَّةٍ، ولا قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ إلَّا بموافقةِ السُّنَّةِ)
[190] يُنظر: ((عقيدة السلف – مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة)) (ص: 60). .
وقال أبو طالِبٍ المكِّيُّ: (الإيمانُ والعَمَلُ قرينان، لا ينفَعُ أحَدُهما بدون صاحِبِه)
[191] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/335). .
وقال
ابنُ بطَّة العُكبَري: (إنَّ أهلَ الإثباتِ مِن أهلِ السُّنَّةِ يُجِمعون على الإقرارِ بالتوحيدِ وبالرِّسالةِ بأنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ)
[192] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/557). .
وقال
ابنُ مَنْدَه: (من أفعالِ اللِّسانِ: الإقرارُ باللهِ وبما جاء مِن عِنْدِه، والشَّهادةُ للهِ بالتوحيدِ، ولرَسولِه بالرِّسالةِ ولجَميعِ الأنبياءِ والرُّسُلِ، ثمَّ التسبيحُ والتكبيرُ والتحميدُ والتهليلُ والثَّناءُ على اللهِ، والصَّلاةُ على رَسولِه، والدُّعاءُ وسائِرُ الذِّكرِ.
ثمَّ أفعالُ سائِرِ الجوارحِ؛ من الطاعاتِ والواجِباتِ التي بُنِي عليها الإسلامُ، أوَّلُها: إتمامُ الطَّهاراتِ كما أمر اللهُ عزَّ وجَلَّ، ثمَّ الصَّلَواتُ الخَمسُ، وصَومُ شَهرِ رمَضانَ، والزكاةُ، على ما بَيَّنَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ حَجُّ البَيتِ مَن استطاع إليه سبيلًا)
[193] يُنظر: ((الإيمان)) (1/362). .
وقال ابنُ أبي زمنين: (من قَولِ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ الإيمانَ إخلاصٌ لله بالقُلوبِ، وشهادةٌ بالألسِنَةِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، على نِيَّةٍ حَسَنةٍ وإصابةِ السُّنَّةِ... والإيمانُ باللهِ هو باللِّسانِ والقَلْبِ، وتصديقُ ذلك العمَلُ، فالقَولُ والعَمَلُ قرينانِ لا يقومُ أحَدُهما إلَّا بصاحِبِه)
[194] يُنظر: ((أصول السنة)) (ص: 207). .
وقال ابنُ الحَدَّادِ: (الذي يجِبُ على العَبدِ اعتِقادُه، ويَلزَمُه في ظاهِرِه وباطِنِه اعتِمادُه: ما دَلَّ عليه كتابُ اللهِ تعالى وسُنَّةُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإجماعُ الصَّدرِ الأوَّلِ مِن عُلَماءِ السَّلَفِ وأئِمَّتِهم، الذين هم أعلامُ الدِّينِ وقُدوةُ مَن بَعْدَهم من المسلمين، وذلك أن يعتَقِدَ العَبدُ ويُقِرَّ ويعتَرِفَ بقَلْبِه ولِسانِه... وأنَّ الإيمانَ قَولٌ باللِّسانِ، ومَعرِفةٌ بالقَلبِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، وأنَّه يَزيدُ ويَنقُصُ)
[195] يُنظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (1/ 259-264). .
وقال يحيى السَّلَماسِيُّ: (جُمَلُ الاعتِقادِ المجمَعُ عليها، نَقَلَها الخَلَفُ عن السَّلَفِ، أجمع عليها الصَّحابةُ والتَّابعون لهم بإحسانٍ، وأئمَّةُ الأمصارِ مِن الفُقَهاءِ وأصحابِ الحَديثِ وأربابِ الوَرَعِ والتقوى المصَنِّفين في عِلمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ حِجازًا ويَمَنًا، وشامًا وعِراقًا، وفارِسَ وخُراسانَ وما وراء النَّهرِ، وثُغورَ الشَّامِ وأَذربِيجانَ وأرانَ، وديارَ ربيعةَ ومُضَرَ- أجمعوا... أنَّ الإيمانَ الشَّرعيَّ قَولٌ وعَمَلٌ ومَعرِفةٌ، بنَصِّ الخَبَرِ، وله شُعَبٌ وأجزاءٌ، يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ)
[196] يُنظر: ((منازل الأئمة الأربعة)) (ص: 103-116). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ من قال من السَّلَف: الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، أراد قَولَ القَلبِ واللِّسانِ، وعَمَلَ القَلبِ والجوارحِ)
[197] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/171). .
وقال أيضًا: (إنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، فمن اعتَقَد الوحدانيَّةَ في الألوهيَّةِ للهِ سُبحانَه وتعالى، والرِّسالةَ لعَبْدِه ورَسولِه، ثمَّ لم يَتبَعْ هذا الاعتقادَ مُوجِبُه من الإجلالِ والإكرامِ، والذي هو حالٌ في القَلْبِ يَظهَرُ أثَرُه على الجوارحِ، بل قارَنَه الاستِخفافُ والتَّسفيهُ والازدراءُ بالقَولِ أو الفِعلِ، كان وجودُ ذلك الاعتقادِ كعَدَمِه، وكان ذلك مُوجبًا لفسادِ ذلك الاعتقادِ، ومُزيلًا لِما فيه من المنفعةِ والصلاحِ؛ إذ الاعتقاداتُ الإيمانيَّةُ تُزكِّي النُّفوسَ وتُصلِحُها، فمتى لم توجِبْ زكاةَ النَّفسِ، ولا صلاحًا، فما ذاك إلَّا لأنَّها لم ترسَخْ في القَلبِ)
[198] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/700). .
وقال أيضًا: (فالإيمانُ لا بُدَّ فيه من هذينِ الأصلينِ:
التصديقِ بالحَقِّ، والمحبَّةِ له، فهذا أصلُ القَولِ، وهذا أصلُ العَمَلِ.
ثم َّالحُبُّ التَّامُّ مع القدرةِ يَستلزِمُ حَرَكةَ البَدَنِ بالقَولِ الظَّاهرِ والعَمَلِ الظَّاهِرِ ضرورةً ...، وإذا قام بالقَلبِ التصديقُ به والمحبَّةُ له، لزم ضرورةً أن يتحَرَّكَ البدَنُ بموجِبِ ذلك من الأقوالِ الظَّاهرةِ، والأعمالِ الظَّاهرةِ، فما يظهَرُ على البَدَنِ مِن الأقوالِ والأعمالِ هو مُوجِبُ ما في القَلبِ ولازِمُه، ودليلُه ومعلولُه، كما أنَّ ما يقومُ بالبَدَنِ مِن الأقوالِ والأعمالِ له أيضًا تأثيرٌ فيما في القَلبِ، فكُلٌّ منهما يؤثِّرُ في الآخَرِ، لكِنَّ القَلبَ هو الأصلُ، والبَدَنُ فَرعٌ له، والفَرعُ يستَمِدُّ مِن أصلِه، والأصلُ يَثبُت ويَقْوى بفَرْعِه)
[199] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/540). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ في تعريفِ الإيمانِ: (هو حقيقةٌ مُرَكَّبةٌ من: معرفةِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِلمًا، والتصديقِ به عَقْدًا، والإقرارِ به نُطقًا،
والانقيادِ له محبَّةً وخُضوعًا، والعَمَلِ به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذِه والدَّعوةِ إليه بحسَبِ الإمكانِ)
[200] يُنظر: ((الفوائد)) (ص: 107). .
وقال أيضًا: (إنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، والقَولُ قَولُ القَلبِ واللِّسانِ، والعَمَلُ عَمَلُ القَلبِ والجوارحِ، وبيانُ ذلك أنَّ مَن عَرَف اللهَ بقَلْبِه ولم يُقِرَّ بلسانِه، لم يكن مؤمِنًا، كما قال تعالى عن قومِ فِرعَونَ:
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] .
وكما قال عن قَومِ عادٍ وقَومٍ صالحٍ:
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت:38] .
وقال موسى لفِرْعَون:
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] .
فهؤلاء حَصَّلوا قَولَ القَلْبِ -وهو المعرفةُ والعِلمُ- ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلِسانِه ما ليس في قَلْبِه، لم يكن بذلك مؤمنًا، بل كان من المنافِقين.
وكذلك: من عرف بقَلْبِه وأقَرَّ بلِسانِه، لم يكن بمجَرَّدِ ذلك مؤمنًا حتى يأتيَ بعَمَلِ القَلبِ مِن الحُبِّ والبُغضِ والموالاةِ والمعاداةِ، فيُحِبُّ اللهَ ورَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُوالي أولياءَ اللهِ، ويعادي أعداءَه، ويستسلِمُ بقَلْبِه لله وَحْدَه، وينقادُ لمتابعةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وطاعتِه والتزامِ شَريعتِه ظاهرًا وباطنًا، وإذا فَعَل ذلك لم يكْفِ في كمالِ إيمانِه حتى يفعَلَ ما أُمِرَ به، فهذه الأركانُ الأربعةُ هي أركانُ الإيمانِ التي قام عليها بِناؤُه)
[201] يُنظر: ((عدة الصابرين)) (ص: 109). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (هنا أصلٌ آخَرُ، وهو: أنَّ القَولَ قِسمانِ: قَولُ القَلبِ، وهو الاعتقادُ، وقَولُ اللِّسانِ، وهو التكَلُّمُ بكَلِمةِ الإسلامِ، والعَمَلَ قسمان: عمَلُ القَلبِ، وهو نيَّتُه وإخلاصُه، وعَمَلُ الجوارحِ، فإذا زالت هذه الأربعةُ زال الإيمانُ بكَمالِه، وإذا زال تصديقُ القَلبِ لم ينفَعْ بقيَّةُ الأجزاءِ، فإنَّ تصديقَ القَلْبِ شَرطٌ في اعتبارِها وكَونِها نافعةً، وإذا بَقِيَ تصديقُ القَلْبِ وزال الباقي فهذا موضِعُ المعركةِ!
ولا شَكَّ أنَّه يلزَمُ من عَدَمِ طاعةِ الجوارحِ عَدَمُ طاعةِ القَلْبِ؛ إذ لو أطاع القَلبُ وانقاد، لأطاعت الجوارحُ وانقادت، ويلزَمُ من عَدَمِ طاعةِ القَلبِ وانقيادِه عَدَمُ التصديقِ المستلزِمِ للطَّاعةِ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صلَحَت صَلَح لها سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَت فَسَد لها سائِرُ الجسَدِ، ألا وهي القَلبُ )). فمن صَلَح قَلْبُه صَلَح جَسْدُه قطعًا، بخِلافِ العَكْسِ)
[202] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/478). .
وقال
السَّعديُّ: (أمَّا حَدُّ الإيمانِ وتفسيرهُ، فهو التصديقُ الجازِمُ، والاعترافُ التَّامُّ بجميع ما أَمَر اللهُ ورَسولُه بالإيمانِ به؛ والانقيادُ ظاهرًا وباطنًا، فهو تصديقُ القَلبِ واعتقادُه المتضَمِّنُ لأعمالِ القُلوبِ وأعمالِ البَدَنِ)
[203]يُنظر: ((التوضيح والبيان لشجرة الإيمان)) (ص 41). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (اعلَمْ يا أخي -وَفَّقَني اللهُ وإيَّاك والمُسلِمين- بأنَّ الدِّينَ الذي بعث اللهُ به رُسُلَه، وأنزل به كُتُبَه، ورَضِيَه لأهلِ سَمواتِه وأرضِه، وأمَرَ ألَّا يُعبَدَ إلَّا به، ولا يقبَلُ من أحَدٍ سِواه، ولا يرغَبُ عنه إلَّا من سَفِهَ نَفْسَه، ولا أحسَنَ دينًا ممَّن التَزَمه واتَّبَعَه؛ هو: قَولٌ، أي: بالقَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلٌ، أي: بالقَلبِ واللِّسانِ والجوارحِ.
فهذه أربعةُ أشياءَ جامِعةٌ لأمورِ دِينِ الإسلامِ:
ا
لأوَّلُ: قَولُ القَلبِ، وهو تصديقُه وإيقانُه.
الثَّاني: قَولُ اللِّسانِ، وهو النُّطقُ بالشَّهادتين؛ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رَسولُ اللهِ، والإقرارُ بلوازِمِهما...
الثَّالثُ: عَمَلُ القَلبِ، وهو النيَّةُ والإخلاصُ، والمحبَّةُ والانقيادُ، والإقبالُ على اللهِ -عزَّ وجَلَّ- والتوكُّلُ عليه، ولوازِمُ ذلك وتوابِعُه.
الرابِعُ: عَمَلُ اللِّسانِ والجوارحِ، فعَمَلُ اللِّسانِ ما لا يؤدَّى إلَّا به؛ كتلاوةِ القُرآنِ، وسائِرِ الأذكارِ من التسبيحِ والتحميدِ، والتهليلِ والتكبيرِ، والدُّعاءِ والاستغفارِ، وغيرِ ذلك، وعَمَلُ الجوارحِ ما لا يؤدَّى إلَّا بها؛ مِثلُ: القيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ، والمشيِ في مرضاةِ اللهِ، كنَقْلِ الخُطا إلى المساجِدِ وإلى الحَجِّ، والجهادِ في سَبيلِ الله عزَّ وجَلَّ، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، وغَيرِ ذلك مما يشمَلُه حديثُ شُعَبِ الإيمانِ
[204] الحديث أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. لفظ البخاري ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان))، ولفظ مسلم: ((الإيمان بضع وسبعون..)). [205] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/587-591). .
وقال
ابنُ باز: (معلومٌ أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ بالطَّاعةِ، ويَنقُصُ بالمعصيةِ، ولأهلِ السُّنَّةِ عِبارةٌ أُخرى في هذا البابِ، وهي أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ واعتِقادٌ، يزيدُ بالطَّاعاتِ، ويَنقُصُ بالمعاصي، وكِلْتا العبارتينِ صحيحةٌ؛ فهو قَولٌ وعَمَلٌ، يعني قَولَ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلَ القَلبِ والجوارحِ، وهو قَولٌ وعَمَلٌ واعتِقادٌ؛ قَولٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، واعتقادٌ بالقَلْبِ)
[206] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (5/35). .
وقال أيضًا: (الإيمانُ باللهِ ورَسولِه إيمانًا صادِقًا يتضَمَّنُ الإخلاصَ للهِ في العبادةِ، وتصديقَ أخبارِه سُبحانَه، ويتضَمَّنُ الشَّهادةَ له بالوحدانيَّةِ، ولنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّسالةِ، وتصديقَ أخبارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كما يتضَمَّنُ العَمَلَ الصَّالحَ؛ فإنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ؛ فالإيمانُ الصَّادِقُ يتضَمَّنُ قَولَ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلَ القَلبِ والجوارحِ، وعَمَلُ القَلْبِ بمحبَّةِ الله، والإخلاصِ له، وخَوْفِه ورَجائِه، والشَّوقِ إليه، ومحبَّةِ الخيرِ للمُسلِمين، مِثلُ دعائِهم إليه،كما يتضَمَّنُ العَمَلَ الصالحَ بالجوارحِ)
[207] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (27/190). .
وقال
ابنُ عُثَيمين -في تعريفِ الإيمانِ-: (وأمَّا في الشَّرعِ فقال المؤلِّفُ: «قَولٌ وعَمَلٌ».
وهذا تعريفٌ مُجمَلٌ فَصَّله المؤلِّفُ بقَولِه: «قَولُ القَلبِ واللِّسانِ، وعمَلُ القَلبِ واللِّسانِ والجوارحِ».
فجعل المؤلِّفُ للقَلبِ قَولًا وعَمَلًا، وجَعَل للِّسانِ قَولًا وعَمَلًا.
- أمَّا قَولُ اللِّسانِ فالأمرُ فيه واضِحٌ، وهو النُّطقُ، وأمَّا عمَلُه فحَرَكاتُه، وليست هي النُّطقَ، بل النُّطقُ ناشِئٌ عنها إن سَلِمَت مِنَ الخَرَسِ.
- وأمَّا قَولُ القَلبِ فهو اعترافُه وتصديقُه. وأمَّا عمَلُه فهو عبارةٌ عن تحَرُّكِه وإرادتِه؛ مِثلُ الإخلاصِ في العَمَلِ، فهذا عَمَلُ قَلبٍ، وكذلك التوكُّلُ والرَّجاءُ والخَوفُ، فالعَمَلُ ليس مجَرَّدَ الطُّمَأنينةِ في القَلْبِ، بل هناك حركةٌ في القَلبِ.
- وأمَّا عَمَلُ الجوارحِ فواضِحٌ؛ ركوعٌ، وسجودٌ، وقيامٌ، وقعودٌ، فيكونُ عَمَلُ الجوارحِ إيمانًا شَرعًا؛ لأنَّ الحامِلَ لهذا العَمَلِ هو الإيمانُ.
فإذا قال قائِلٌ: أين الدَّليلُ على أنَّ الإيمانَ يَشمَلُ هذه الأشياءَ؟
قُلْنا: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الإيمانُ: أن تؤمِنَ باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، والقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه )) [208] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (10) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فهذا قَولُ القَلبِ. أمَّا عَمَلُ القَلبِ واللِّسانِ والجوارحِ، فدليلُه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ شُعبةً: أعلاها: قَولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ )) [209] أخرجه البخاري (9) مختصرًا باختلافٍ يسيرٍ، ومسلم (35) باختلافٍ يسيرٍ. ؛ فهذا قَولُ اللِّسانِ، وعَمَلُه وعَمَلُ الجوارِحِ، والحياءُ عَمَلٌ قَلبيٌّ، وهو انكسارٌ يصيبُ الإنسانَ ويعتريه عند وُجودِ ما يستلزِمُ الحياءَ.
فتبيَّن بهذا أنَّ الإيمانَ يَشمَلُ هذه الأشياءَ كُلَّها شَرْعًا.
ويدُلُّ لذلك أيضًا قَولُه تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] ، قال المفسِّرون: أي: صلاتَكم إلى بيتِ المقْدِسِ، فسَمَّى اللهُ تعالى الصلاةَ إيمانًا، مع أنَّها عَمَلُ جوارحَ، وعَمَلُ قَلبٍ، وقَولُ لِسانٍ.
هذا هو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ.
وشُمولُه لهذه الأشياءِ الأربعةِ لا يعني أنَّه لا يَتِمُّ إلَّا بها، بل قد يكونُ الإنسانُ مؤمِنًا مع تخَلُّفِ بعضِ الأعمالِ، لكِنَّه يَنقُصُ إيمانُه بقَدْرِ ما نقَصَ مِن عَمَلِه)
[210] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/230-232). .
فجماهيرُ السَّلَفِ وأئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أدخَلوا أعمالَ الجوارحِ في مُسَمَّى الإيمانِ ابتداءً، وذلك باعتبارِه أحَدَ العناصِرِ التي يتركَّبُ منها الإيمانُ إلى جانِبِ اعتقادِ القَلْبِ وإقرارِ اللِّسانِ، بحيثُ يَشمَلُها جميعًا لفظُ الإيمانِ عند إطلاقِه أو تجريدِه، غيرَ أنَّ تعبيراتِ السَّلَفِ والأئمَّةِ عن نَفسِ هذه الحقائِقِ تختَلِفُ من إمامٍ لآخَرَ، وذلك بحسَبِ المقامِ الذي يتكَلَّمُ فيه كُلٌّ منهم، أو بحسَبِ حالِ السَّائِلِ، أو ظُروفِ الفتوى، أو إدراكِ المستَمِعِ لهذه الحقائِقِ كُلِّها أو بَعْضِها
[211] يُنظر: ((حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة)) لمحمد عبد الهادي المصري (ص: 38). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/170). .