المَبحثُ الأوَّلُ: دَلالةُ الفِطرةِ
قال الخليلُ: (الفِطرةُ: التي طُبِعَت عليها الخليقةُ من الدِّينِ، فطَرَهم اللهُ على معرفتِه برُبوبيَّتِه)
[398] يُنظر: ((العين)) (7/418). .
وقال
السَّعديُّ: (الفِطرةُ هي الخِلْقةُ التي خَلَق اللهُ عبادَه عليها، وجعَلَهم مفطورينَ عليها؛ على محبَّةِ الخَيرِ وإيثارِه، وكراهةِ الشَّرِّ ودَفْعِه، وفَطَرهم حُنَفاءَ مستعدِّين لقَبولِ الخَيرِ والإخلاصِ لله، والتقَرُّبِ إليه، وجَعَل تعالى شرائعَ الفِطرةِ نَوعَينِ:
أحَدُهما: يُطَهِّرُ القَلْبَ والرُّوحَ، وهو الإيمانُ باللهِ، وتوابِعُه مِن خَوْفِه ورَجائِه، ومحبَّتِه والإنابةِ إليه؛ قال تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:30-31] ، فهذه تزكِّي النَّفسَ، وتطَهِّرُ القَلبَ وتنَمِّيه، وتُذهِبُ عنه الآفاتِ الرَّذيلةَ، وتحَلِّيه بالأخلاقِ الجَميلةِ، وهي كلُّها تَرجِعُ إلى أُصولِ الإيمانِ وأعمالِ القُلوبِ.
والنَّوعُ الثَّاني: ما يعودُ إلى تطهيرِ الظَّاهِرِ ونَظافتِه، ودَفْعِ الأوساخِ والأقذارِ عنه)
[399] يُنظر: ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 51). .
ودليلُ الفِطْرةِ راسِخٌ في نُفوسِ البَشَرِ بما قد لا يَحتاجُ الإنسانُ معه إلى استِدلالٍ آخَرَ، ومِمَّا يدُلُّ على ذلك:1- لُجوءُ الإنسانِ وفَزَعُه إلى خالِقِه سُبحانَه عِندَ الشِّدَّةِ والحاجةِ، سَواءٌ كان هذا الإنسانُ مُوحِّدًا أو مُشرِكًا.فإنَّ بني آدمَ جميعًا يَشعُرونَ بحاجتِهم وفَقْرِهم، وهذا الشُّعورُ أمرٌ ضَروريٌّ فِطريٌّ، فالفَقْرُ وَصفٌ ذاتيٌّ لهم، فإذا ألَمَّت بالإنسانِ حتى المُشرِكِ مصيبةٌ قد تؤدِّي به إلى الهلاكِ، فَزِع إلى خالِقِه سُبحانَه، والتجأ إليه وَحْدَه دونَ ما سِواه، وشُعورُ هذا الإنسانِ بحاجتِه وفَقْرِه إلى رَبِّه تابعٌ لشُعورِه بوُجودِه وإقرارِه بذلك
[400] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (3/129) (8/532). .
قال اللهُ تعالى:
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [يونس: 12] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] .
2- ورودُ التَّكليفِ بتوحيدِ العبادةِ أوَّلًاقال اللهُ تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
فلو لم يَكُنِ الإقرارُ باللهِ تعالى وبرُبوبيَّتِه فِطْريًّا لَدَعاهم إليه أوَّلًا؛ إذ الأمرُ بتَوحيدِه في عِبادتِه فَرعٌ عن الإقرارِ به وبرُبوبيَّتِه.
ولو لم يكُنِ الإقرارُ باللهِ تعالى وبرُبوبيَّتِه فِطْريًّا، لساغ لمعارِضي الرُّسُلِ عند أمْرِهم بعبادةِ اللهِ وَحْدَه أن يقولوا: نحن لم نَعرِفْه أصلًا فكيف يأمُرُنا؟! فعدَمُ حُدوثِ ذلك دليلٌ على أنَّ المَعرِفةَ برُبوبيَّةِ اللهِ كانت مُستقِرَّةً في فِطَرِهم
[401] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/440، 491). .
3- إلزامُ المُشرِكينَ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ ليُقِرُّوا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِفإنَّ المُشرِكينَ لو كانوا غيرَ مقِرِّين برُبوبيَّةِ الله تعالى، لَما ألزَمَهم اللهُ بها؛ كي يُثبِتَ لهم وجوبَ الإقرارِ بإفرادِه في العبادةِ، وقد قال الرُّسُلُ لقَومِهم:
أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [إبراهيم: 10] .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (فدَلَّ ذلك على أنَّه ليس في اللهِ شَكٌّ عند الخَلْقِ المخاطَبينَ، وهذا يبيِّنُ أنَّهم مفطورون على الإقرارِ)
[402] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/441). .
وقال
الكمالُ بنُ الهمامِ -بعد أن ذكَرَ كُفْرَ أهلِ الدِّياناتِ الباطِلةِ-: (اعترف الكُلُّ بأنَّ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ، والألوهيَّةَ الأصليَّةَ للهِ تعالى، قال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، فهذا كان في فِطرتِهم؛ ولذا كان المسموعُ من الأنبياءِ دَعوةَ الخَلْقِ إلى التوحيدِ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، دون أن يَشهَدوا أنَّ للخَلْقِ إلهًا)
[403])) يُنظر: ((المسايرة في علم الكلام والعقائد التوحيدية المنجية في الآخرة)) (ص: 7). .
4- التَّصريحُ بأنَّ الفِطْرةَ مُقتضيَةٌ للإقرار ِبالرَّبِّ وتوحيدِه وحُبِّهقال اللهُ تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يمَجِّسانِه )) [404] أخرجه البخاري (4775) واللفظ له، ومسلم (2658). .
فقد فَطَر اللهُ كُلَّ إنسانٍ على توحيدِه، بحيث يكونُ ذلك أصلًا يُولَدُ عليه كلُّ مَولودٍ؛ فالفِطْرةُ هي الإسلامُ الذي أصلُه توحيدُ اللهِ بالإرادةِ والمحبَّةِ، وأمَّا الأديانُ الباطِلةُ فهي مخالِفةٌ للفِطرةِ، وانحرافٌ عن الأصلِ الذي هو الإسلامُ
[405] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/186)، ((ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة)) لعبد الله القرني (ص: 163). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (أكثَرُ النَّاسِ على أنَّ الإقرارَ بالصَّانِعِ ضَروريٌّ فِطريٌّ، وذلك أنَّ اضطرارَ النُّفوسِ إلى ذلك أعظَمُ من اضطِرارِها إلى ما لا تتعلَّقُ به حاجتُها، ألَا ترى أنَّ النَّاسَ يَعرِفونَ مِن أحوالِ مَن تتعلَّقُ به مَنافِعُهم ومضارُّهم؛ كوُلاةِ أُمورِهم، ومماليكِهم، وأصدقائِهم، وأعدائِهم: ما لا يَعلَمونَه من أحوالِ من لا يَرجُونَه ولا يَخافُونَه؟ ولا شَيءَ أحوَجُ إلى شيءٍ من المخلوقِ إلى خالِقِه، فهم يحتاجُونَ إليه من جِهةِ رُبوبيَّتِه؛ إذ كان هو الذي خلَقَهم، وهو الذي يأتيهم بالمنافعِ، ويدفَعُ عنهم المضارَّ
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53] )
[406] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/135). .